في الثالث والعشرين من شهر اذار-مارس من العام الماضي 2018، عين الرئيس الاميركي دونالد ترامب، الدبلوماسي المحافظ جون بولتون مستشارا له لشؤون الامن القومي، وفي العاشر من شهر ايلول-سبتمبر الجاري غادر بولتون المنصب.
واذا كان تعيين بولتون قبل حوالي عام ونصف العام، بواحد من اهم واخطر المناصب في الولايات المتحدة الاميركية، قد احيط بجدل واسع، بسبب طبيعة توجهات الرجل، ومنهجه المتشدد، ونزعته نحو استخدام القوة في حسم الملفات، فأن مغادرته افرزت جدلا اوسع، وفتحت الباب على مصراعيه للمزيد من التكهنات، ليس بشأن من سيخلف بولتون فحسب، بل وبخصوص مستقبل الرئيس ترامب في ظل ذلك التخبط غير المسبوق في اتخاذ القرارات ورسم السياسات.
ولاشك ان السجالات والمهاترات التي رافقت مغادرة مستشار الامن القومي، بينه وبين رئيسه ترامب، وادعاء الاول بأنه هو من تقدم بالاستقالة، وادعاء الثاني بأنه هو من اقاله او طلب منه تقديم استقالته، اشرت بوضوح الى غياب الانسجام الى حد كبير بين المراكز العليا لصنع القرار في الولايات المتحددة الاميركية، واكثر من ذلك، التقاطع في صياغة الرؤى، وبلورة التصورات، وتحديد الاولويات.
وقبل عام ونصف، كانت مجمل التوقعات قد ذهبت الى ان جون بولتون سيكون اكبر الداعمين والمروجين والمنفذين لسياسات وتوجهات ترامب المتشددة والفوضوية والمتخبطة، لاسيما بعد استقالة او اقالة عدد من كبار المسؤولين في ادارة ترامب، ولمّا يمر وقت طويل على تصديهم للمسؤولية، ومن بينهم وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي اقيل مطلع شهر اذار-مارس من العام الماضي، ووزير الدفاع جون ماتيس، الذي استقال من منصبه في العشرين من شهر كانون الاول-ديسمبر الماضي، بعد يوم واحد من قرار ترامب سحب القوات الاميركية من سوريا، وقائمة المستقيلين والمقالين تطول وتتسع.
والملفت، انه خلال العامين الاولين من حكم ترامب تعاقب على منصب مستشارية الامن القومي، اربعة اشخاص، والخامس في الطريق، وهم كل من مايكل فلين، الذي بقي في المنصب ثلاثة وعشرين يوما فقط، وكيث كليوغ، بقي اسبوعا واحد، وهربرت مكماستر، الذي بقي حوالي عام وشهرين، لتوكل الامور بعد ذلك الى بولتون.
ولعله طيلة تأريخ الولايات المتحدة الاميركية منذ تأسيسها قبل اكثر من مائتين وثلاثين عاما، لم يسبق ان طرأت تغييرات كبيرة وواسعة كتلك التي حصلت خلال النصف الاول من عهد ترامب على مختلف المواقع القيادية المتقدمة والحساسسة، ومنذ تأسيس مجلس الامن القومي الاميركي في عام 1947، لم يحصل ان تعاقب على منصب المستشار خمسة اشخاص خلال فترة زمنية قصيرة لم تتعدى العامين ونصف العام.
والمتعارف عليه على وجه العموم، ان الرئيس الاميركي اذا كان ديمقراطيا فأنه يمكن ان يتقاطع ويختلف مع الجمهوريين، والعكس صحيح، بيد ان ترامب الجمهوري، تقاطع واختلف مع الجمهوريين مثلما تقاطع واصطدم مع الديمقراطيين، وكذلك فان ترامب المحافظ الداعم بقوة للكيان الصهيوني، والمتصلب جدا مع ايران وانصارها وحلفائها، دخل في صراعات ومعارك كلامية حادة مع الشخصيات والاطراف المتشددة حيال ايران، وما خلافه مع بولتون الا اكبر دليل على ذلك.
واغلب الظن ان مسلسل الاقالات والاستقالات لن ينتهي عند بولتون، وانما سيمتد ويطال شخصيات اخرى، ومن غير المستبعد ان يشمل وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو، الذي يبدو انه الاقرب الى ترامب والاكثر حظوة لديه، كما كان بولتون كذلك في فترة من الزمن.
وثمة من يقول ان كثير من الشخصيات السياسية الاميركية لم تعد متحمسة وراغبة في شغل المواقع العليا بأدارة ترامب، في حال عرضت عليها، لادراكها ان التعامل مع الاخير امر صعب ومعقد للغاية، ولاتحكمه سياقات وضوابط، بقدره ما تتحكم به وتوجهه انفعالات ومزاجات ونزعات شخصية، غالبا ما تكون مواقع التواصل الاجتماعي-تويتر تحديدا-ساحتها وميدانها.
وسواء كان ترامب محقا وصائبا في قرارات الاقالة، وكذلك بالنسبة لمن قرروا التنحي والاستقالة، فأن كل ذلك هو حصيلة سياسات خاطئة ومتهورة وارتجالية، عمقت المشاكل والازمات، وضيعت فرص الحل اذا كانت موجودة ومتاحة، ولعل فشل المفاوضات مع كوريا الشمالية، والتداعيات السلبية لمحاولة الاطاحة بنظام الحكم في فنزويلا، وفشل كل مخططات احتواء ومحاصرة واضعاف ايران، وعدم حسم ملف حركة طالبان، وكذلك الازمة اليمنية، كلها مؤشرات ومصاديق على تخبط ترامب وغياب الانسجام والتفاهم مع مساعديه ومستشاريه، ناهيك عن استئثار صهره ومستشاره الشاب جاريد كوشنير بالكثير من الصلاحيات والسلطات والنفوذ على حساب الاخرين.
هذا من جانب، ومن جانب اخر، هناك قراءة استشرافية، تقول ان فرص ترامب بالبقاء في الحكم تتضاءل وتنحسر يوما بعد اخر، وهو ربما يواجه ذات المصير الذي قرره لبولتون وقبله اخرين من اعضاء ادارته.
وما يعزز تلك القراءة الاستشرافية، هو ان هناك تحركات ومساعي جادة من قبل الديمقراطيين وبعض الجمهوريين لعزل ترامب، وقد قطعت هذه التحركات والمساعي شوطا جيدا.
وما يقال في داخل اروقة سياسية اميركية عديدة، انه حتى لو لم تفلح مساعي عزل ترامب، فأنه من الصعب جدا ان ينجح في الفوز بولاية رئاسية ثانية، لاسيما وانه من المرجح ان يواجه منافسا ديمقراطيا قويا وشرسا، هو نائب الرئيس السابق، جو بادين.
وستكون فرص ترامب في مهب الريح، اذا ما انهزم رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في الانتخابات المزمع اجراؤها في السابع عشر من هذا الشهر.
فترامب ونتنياهو، كل واحد منهما يعول على الاخر، وهما يتصرفان بذات الاسلوب ويسيران بنفس المنهج، رغم ان نتنياهو تأسف كثيرا لخروج الصقر المتشدد بولتون من حلبة اللعب!.