ينظر الكثيرون إلى السفر اليوم على أنه متعة، بينما كان يوصف في ثقافاتنا العربية بالمشقة والعذاب وكان من المعايير التي يعرف فيها صدق طباع البشر وكأنه بمثابة اختبارٍ لهم، وكثير منا غادر بلاده أياً كانت الأسباب لكنها لم تغادره أو ولد خارجها لكنها كبرت في داخله فذلك شعور فطري يحرك الإنسان دائما ً ليعود إلى جذوره، وجذورنا مدن وشوارع وحارات بكل مافيها ومن فيها فيختصرنا ويختصر حكاية وطن في كلماتٍ نعرف أنها سطر في كتابه الكبير، شمعةٌ على أدراجه ونقطة في بحره، وحجر في قلاعه الشامخة التي عانقت الأبدية وصنعت التاريخ..
ونحكي اليوم عن طولكرم.. وهي مدينةٌ فلسطينية جميلة لها اسم مركب وهو طور ويعني الجبل وكرم ويعني بستان العنب ومعناه جبل الكرم.. وجاءت التسمية كون هذه المدينة تقع على جبل واضح محاط بالسهول الواسعة وكانت تشتهر بزراعة العنب لإنتاج النبيذ وتوجد فيها عشرات معاصر العنب الرومانية البيزنطية وتحول اسمها مع الوقت إلى طولكرم..
وهي مدينة زراعية بإمتياز تنتشر فيها المساحات الخضراء السهلية والجبلية ذات التربة الخصبة والمياه الوفيرة تأسست بلديتها عام ١٨٨٦ وهي من أكبر وأقدم البلديات في الضفة الغربية وفلسطين عموماً، كما تم العثور فيها على آثار ٍ متنوعة تعود إلى عصورٍ مختلفة منها العصر البرونزي الأوسط والعصر الحديدي الثاني والعصر الفارسي والروماني والبيزنطي والهلنستي والعصور الإسلامية المبكرة، وتضم معالم إسلامية ومسيحية وهي ضمن اتفاقية توأمة المدن لعدد من المدن حول العالم مثل مدينة مكناس المغربية وميلانو الإيطالية وقونية التركية ومدينتي مون بلييه وسان دينس في فرنسا اضافةً إلى مقاطعتي فال دومارن و سين سان دونيه الفرنسيتين أيضاً..
طولكرم أيضاً مدينة سياحية مهمة واختيرت كمدينةٍ صديقة للطفولة من اليونيسيف عام ٢٠٠٤ وهي مدينة نشطة إعلامياً وتحتضن العديد من القنوات التلفزيونية والإذاعات المحلية، وسميت بمدينة التفوق والنجاح كونها خرجت العديد من الوجوه الفلسطينية البارزة في كافة المجالات العلمية والثقافية والفنية والسياسية والاقتصادية والدينية عربياً ودولياً ومنها الشاعر عبدالرحيم محمود والذي استشهد وهو صاحب الأبيات الشعرية الشهيرة..
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى..فأما حياة تسر الصديق واما ممات يغيظ العدى..
إضافةً إلى أسماء كثيرة منها وداد قعوار وهي كاتبة ومؤرخة تراثية فازت بجائزة الأمير كلاوس المرموقة في هولندا عام ٢٠١٢ ..
ومنير نايفة وهو عالم ذري وفيزيائي من أبرز علماء النانو وحاصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء الذرية وعلوم الليزر وله العديد من الاختراعات المسجلة باسمه في الولايات المتحدة الأمريكية وقد نشر أكثر من ١٣٠ مقالاً علمياً..
أسيل عنبتاوي وهي عالمة فضاء وعضو في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا منذ عام ١٩٩٢ ..
إدموند رافائيل وهو كيميائي اكتسب اعترافًا واهتمامًا دوليًا ونقل العديد من أنشطته البحثية والاستشارية والعلمية إلى العديد من البلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والبرازيل واليونان وبلغاريا وتشيلي وماليزيا والسويد تركيا وسوريا ومصر وغيرها، ويحمل إدموند العديد من براءات الاختراع المسجلة رسميًا باسمه وحصل على العديد من الجوائز أبرزها جائزة بوردن الأمريكية لأبحاث الغابات عام ١٩٨٢، وجائزة ويلهلم كلوديتز الدولية لأبحاث الأخشاب والغابات وحماية البيئة عام ١٩٨٨ وتمنح مرة كل أربع سنوات وهو كانت أول من فاز بها عندما تأسست في نفس العام، وفي عيد ميلاده الخامس والستين في عام ٢٠٠٥ عقدت جامعة غوتنغن الألمانية مؤتمرًا فخريًا بحضور حوالي ١٢٠ عالمًا وخبيرًا في العلوم والصناعة من ألمانيا وتشيلي وأماكن أخرى تكريماً له، كما صدر كتابان له باللغة الألمانية وتم ترجمتهما إلى اللغة الإنجليزية وكتب عنه كتابان باللغة الألمانية وترجما أيضًا إلى اللغة الإنجليزية..وتطول القائمة التي اكتفيت بذكر هذه الأسماء منها..
ولكل بلد حكاية والحكايات في وطننا طويلة، جميلة، مشوقة، عظيمة يغلب عليها الحزن في كثير من الأحيان لكن ارثها الممتد ورائحة ترابها وعطرها الذي لم يتلاشى عبر القرون وقيمها المتوارثة في ملامحنا ولهجتنا واختياراتنا يجعلنا نعتز بها مهما كان حالها اليوم، فالجمال الحقيقي يظل متوهجاً برغم الزمن والألم والحزن ولا تتغير قيمته بل تتضاعف، ليحصد المحب الصادق ثمرة حبه عندما يعود إلى أحضانه بعد غياب ٍ وصبر وإخلاص لم يرتعش نور شمعته في وجه الرياح..