يبقى هاجس الكتابة عن المدن محفوفاً بالخوف والتردد والشعور بالتقصير أزاء ماقدمته من عطاء باذخ عبر سنوات نشأتها وبزوغها كوجود قائم ، حيث لابد ان تعيش هذا الهاجس وانت تشرع بالكتابة عن مدينة مثل ” الديوانية ” المدينة الفراتية التي عرُفت بإرثها الثقافي والاجتماعي والوطني ، حيث قدمت للحركة الوطنية ولمسيرة الابداع العراقي عبر أجيال متعددة أسماء مهمة ومؤثرة ، وماتزال الى اليوم ترفد الساحة العراقية بعطائها المتميز في الحقول الانسانية والمعرفية .
وقد شاركني هاجس التردد في الكتابة عنها ابن المدينة القاص “زعيم الطائي” عندما كتب عنها واصفا اياها بـ ” نرجسة القلب الضائعة ” حيث يقول ( أجلس الان بعد انتهاء نصف قرن مترددا ً في الكتابة عنها ، يتملكني الشك في أن اتمكن من استعادة عبء تلك الحوادث والمشاهد والرؤى التي تقلبت في ذاكرتي مع عجلة سحق الأيام .. وسأكتشف لأول مرة ان الزمن لايجري وفق أية قاعدة ، أو كأنني أطل على مدينتي من وراء الزمن ، فهذه المدينة ليس لها واقع جغرافي حقيقي ، بل ان واقعها الحقيقي ليس مهما البتة ، فما يعتبر ممكنا هو نسبية وجودها في الممكن دون ان تكون لوجودها شواهد كثيرة او ارتباطات او دلالات على ذلك الوجود المنزلق نحو زاوية العدم والغياب ) ، كما ويذكر ابنها الآخر القاضي والكاتب زهير كاظم عبود ان اسباب اصدار كتابه (أوراق من ذاكرة مدينة الديوانية ) تعود الى ( ان احدا لم يلتفت الى روحها التي يعرفها من ذاق طعم أيامها ، وملأ رئتيه بعبق أريجها وحرارة أيام قيظها وامتلأ صدره بترابها وعاش في أزقتها ومحلاتها الشعبية وتعايش مع شخصياتها ) .
قد تكون طبيعة الحياة الاجتماعية التي عاشتها هذه المدينة في عقود مضت والقائمة على الطيبة والتسامح و التآخي التي سادت بين مكوناتها الاجتماعية والدينية والمذهبية هي وراء حالة الاستقرار الذي يعد عاملا اساسيا في انعاش مظاهرحياة المدن ثقافيا واجتماعيا ً.
لقد نالت الأمكنة في هذه المدينة اهتماماً ومساحة كبيرين في كتابات الباحثين والمؤرخين لما شكلته من اسهام واسع في الفاعلية الاجتماعية ، ودلالة غائرة في إرث المدينة وذاكرتها ، بعض هذه الأمكنة ظل حاضرا في الذاكرة الشعبية كيانا او مسرحا للغريب والعديد من القصص والبعض الآخر وبفعل تقادم الزمن ومتطلبات الحياة الجديدة لم يعد لها وجود الاّ في ذاكرة الشيوخ وأحاديث العجائز والقليل منها مازال يقاوم عوامل التغيير بقوى منهكة .
تقول ذاكرة الباحث المحامي ” حسين علي الحاج حسن ” ( انه بين الأعوام 1802 ــ 1830 م برزت الديوانية كبلدة ذات سور يمتد من ضفة الفرات شمالا في موضع هو اليوم بناية مديرية التربية في الديوانية ليمتد شرقا في نصف دائرة تتوسطها بوابة هي باب الدغارة ، في موضع هو الان في اخر سوق التجار الكبير ثم ينعطف نحوالجنوب الشرقي لينتهي عند النهر في موضع مستشفى الجمهوري القديم ) ويذكر هذا الباحث بعض الحوادث المهمة في تاريخ المدينة فيقول ( ان اول جسر انشيء فيها عام 1818 في عهد الوالي داود باشا على يد خادمه المسمى ” صالح الكردي ” حيث نصب جسرا خشبيا في نفس الموضع الذي يقوم عليه الان الجسر القريب من بناية المحافظة وقد نصبه نجار من أهل الحلة يدعى ” ادريس ” وظل هذا الجسر يسمى باسمه حتى زواله في العشرينات حين أقام الميجر ” ديلي ” عام 1917جسرا جديدا مجاور مدرسة الرشدية هو الجسر الان المؤدي الان الى شارع الصيادلة وقد سمي باسم جسر ديلي ) كما يؤرخ للتعليم في هذه المدينة فيثبت انها شهدت عام 1899م بناء أول مدرسة ابتدائية اسمها ” الرشدية ” التي ظلت بنايتها قائمة الى عام 1940( انشأها العثمانيون وموقعها على النهر وكان من مدرسيها السيد هاشم النبوي ، ومن طلبتها الحاج احمد الاسدي وعبد الحميد الحاج حسن والحاج حسين العبدلله وناجي الصالح ) . ويؤرخ الباحث لبداية حركة المدنية وظهور الصناعة والتكنولوجيا في هذه المدينة من خلال ظهور أول سيارة في شوارعها تلك التي حملت برنو باشا ــ قائد الجيش العثماني ــ الذي َقدِمَ الى الديوانية لتفقد الجيش العثماني فيها حيث يذكر حادثة رافقت هذا الحدث التاريخي تؤرخ لواحدة من محاولات المدينة مقاومة ورفض وجود الاجنبي على أرضها ( ولدى حضور القائد العثماني الحفل الذي أقيم لاستقباله من قبل الأهالي تقدم شخص يرتدي ” زويني” ممزق بالغ الرثاثة وهو يحمل ” بشتاوة ” صّوبها نحو صدر القائد العثماني وهو يصيح لاحكم الا لله ثم اطلق النار عليه غير انه لم يصب بأذى وسيق الفاعل الى محكمة عسكرية شكلت فورا ً ، غير ان المحكمة التي رأسها ضابط عثماني يدعى ” عبدالله جدوع ” برّأت ساحة المتهم لعدم مسؤوليته الجنائية بعد ثبوت جنونه ) ، للديوانية أيضا تاريخ في صناعة واستعمال الاختام التي كان يستخدمها الناس في التواقيع على العقود والوثائق فكان أقدم ختم صنعه المدعو ” بشتي حسين” عام 1862 م إضافة الى اجادته الخط وكتابة الشعر حيث اتخذ له محلاً لصناعة الاختام عند مدخل السوق الكبير حاليا . كانت أيضا سباقة في دعمها وترويجها للفنون فقد شهدت عام 1936 انشاء أول دار للسينما هي سينما ” فؤاد ” انشأها السيد عبد المجيد السيد صالح فؤاد في الجانب الغربي من المدينة قريب من مدخل الفرقة العسكرية وبقيت بنايتها قائمة حتى السبعينيات ومن الطريف يذكر الباحث الحاج حسن انه ( عند قدوم الوصي على عرش العراق في شهر مايس من عام 1941 الى الديوانية هارباً من مضايقات الكيلاني وضباطه المؤيدين له واتخذ من دار قائد الفرقة عبد الهادي الراوي مقرا له ، رفعت سينما “فؤاد” لافتة كتب عليها بيت الشعر التالي :
رفعت أعلام بشرى سينما آل فؤاد
ياوصي العرش أهلاً بك في هذي البلاد )
وعن حياتها الاجتماعية ، فقد ضربت المدينة مثالاً رائعا في التعايش والتآخي والتسامح وثقافة قبول الآخر بين مكوناتها المتعددة حيث عاشت في خمسينيات القرن الماضي حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي بسبب الإلفة التي سادت بين هذه المكونات دون تعصب حيث جمعتها قيم الايثار والعفو والاحسان دون تفريق بين دين او مذهب أو قومية وفي هذا الحقل يذكر القاضي زهير كاظم عبود في كتابه ” أوراق … ” حادث وقع أيام حملة تهجير اليهود من العراق مطلع خمسينيات القرن الماضي يقول ( عندما قام أحد يهود الديوانية بطرق باب جاره المسلم الفقير واخبره بأن كل ممتلكاته سيصادرها النظام الذي أمر بتهجيره ورجاه أن يأخذ منه وعن طيب خاطر أثمن مالديه من نفائس ، راح المسلم يلطم على رأسه ويقول ” إذا خسرتك شلي بالمال ” ففضل الفقر النبيل على الثراء بنذالة ) كما كان لليهود مكان للعبادة ” التوراة ” يقع في نهاية سوق التجار وكذلك مقبرة ظلا شاهدين على روح التسامح التي كانت عليه الديوانية الى ان تم هدمهما وازالتهما عام 1970، وشواهد كثيرة تكشف عن طيبة هذه المدينة التي عاشت في محلاتها العوائل من مختلف الديانات لحمة واحدة لم يفرقهم دين أو مذهب حيث يحدثنا الكبار ان جارتنا المندائية كانت تنادي وراء ولدها عند ذهابه لقضاء اعماله ( محروس بالله وعلي بن ابي طالب ) وترش الماء عند عتبة الدار مثلما تفعل جارتها المسلمة ، كما تذكر الروائية ” انعام كجه جي ” في روايتها الاخيرة ” طشاري ” جانبا من واقع الديوانية الاجتماعي حيث أرخت في هذه الرواية لسنوات من حياة عمتها ابنة الموصل الدكتورة المسيحية الشهيرة ” ماهي كجه جي ” التي قدمت الى الديوانية في منتصف خمسينيات القرن الماضي ولم تصدق انها سوف تبقى فيها اكثر من ستة أشهر وذلك لشدة فقرها وشعبيتها ولكنها بمرور الزمن أحبت ناسها وشاركتهم افراحهم واتراحهم أحبتهم وأحبوها وعاشت هذه المسيحية في مجتمع مسلم معززة مكرمة ، وكانت سنوات الدكتورة ” ماهي ” في الديوانية هي عماد الرواية المذكورة . وشاهد آخر على تعايش ابنائها بمختلف مذاهبهم هو جامع ” ابناء العامة ” الذي مايزال قائما الى اليوم يشمخ بمنائره وسط محلة شعبية يمثل مجتمعها المذهب الآخر،بهذا الخلق وبهذه الروح النبيلة ردم الديوانيون الهوة بين مكونات المدينة وانقذوها من الأحقاد والصراعات والشد في العلاقات الاجتماعية .
بالتأكيد ان هذه السطور لايمكن لها ان تلم بكل ماشهدته المدينة من شخصيات وحوادث وأمكنة كان لها الاثر في بلورة هوية تميزت بالطيبة والعطاء والتسامح .