عودة الى بداية الصراع من أجل التحرر
أما بعد هزيمة نظام البعث عام 2003 فقد كسرت المرأة تلك القيود وغصّ العراق من شماله الى جنوبه بعدد لم يسبق له أو للمنطقة أن عرفته من المنظمات النسوية، فبلغ متوسط عدد المنظمات والجمعيات النسوية في كل محافظة من محافظات العراق بما فيها العاصمة بغداد ما يزيد على خمس منظمات مستقلة، ناهيك عن الجمعيات والمكاتب النسوية التابعة للتنظيمات السياسية التي عجّ بها العراق، والأخيرة لا تعدو كونها واجهات شكلية دعائية، تعطي الآخرين إنطباعاً من أن ذلك الحزب يولي إهتماماً لحقوق المرأة التي يكثر الحديث عنها، أو (لزوم الشغل) كما عبر لي عن ذلك رئيس أحد هذه الأحزاب.
لكن علينا ألا نحسب من فضيلة أو فائدة لهذا العدد الهائل من التنظيمات النسوية (داخل الأحزاب أو خارجها)، بل على العكس فقد أضاعت في خضم تشتتها هذا؛ العديد من الإنجازات التي كان من الممكن الحصول عليها في حال إصطفافها ضمن تجمع مركزي واحد ذو أهداف محددة لا تخرج أو تبتعد عن دائرة حقوقها الإنسانية المستلبة، أو على أقل تقدير إيجاد قنوات إتصال ثابتة وفاعلة فيما بينها للإرتقاء الى نقاط إتفاق مشتركة حتى يكون لها موقعها ووقعها الضاغط والفاعل، ولو أتمت ذلك لكانت قد حققت من الإنجازات ما يعجز أي تنظيم جماهيري على تحقيقها.
إن إمرأة القرن الواحد والعشرين ــ وهذه من المفارقات الغريبة الأخرى ــ قد فقدت إنجازات حققتها إمرأة القرن العشرين قبل أكثر من خمسين عام !!.
وبرغم ما تحقق للمرأة من نصيب في السلطة التشريعية أقرته قوانين إدارة الدولة الحديثة – ما عرف بالكوتا – فقد وجدت المرأة العراقية نفسها من جديد بمواجهة تيارات محافظة تعمد الى عزلها أو تحجيم دورها وخصوصا ما تعلق بأمور خطيرة للغاية مثل وضع دستور جديد للبلاد، فجاء هذا الدستور في النهاية مخيبا لآمال المرأة العراقية قبل أي قطاع مجتمعي آخر.
الملاحظة المؤسفة هنا أن معظم النساء اللائي يملأن مشهد الدولة الجديدة تحولن الى (سياسيات) إنغمسن في العمل الإداري للدولة وفي الصراعات السياسية ضمن الكتل الحزبية المتنافسة حالهن كحال الرجل، وإن آخر ما تفكرن به هو حقوقهن وحقوق بنات جنسهن !!، فنادرا ما نجد إمرأة بينهن من حملت على عاتقها مسؤولية الدفاع أو محاولة الحصول أو المحافظة على حقوق المرأة العراقية من الهدر والضياع وسط هذا الواقع الرسمي والمجتمعي المأزوم منذ ما يزيد على ثلاث عقود زمنية، وهذا الضج السياسي المستمر منذ ما يزيد على عقد من الزمن.
يرى العديد من المتخصصين إن الدستور العراقي الجديد تجاهل الحقوق الأساسية للمرأة العراقية، كتلك التي حصلت عليها قرينتها في بلدان العالم المتقدم، وإن إلغاء قانون الأحوال الشخصية 188 وإبداله بالمادة 41 من الدستور الجديد ما هو إلا (عودة الى عصر الحريم !!). على حد وصف السيدة الحقوقية الناشطة فائزة باباخان، التي كتبت بحثا مفصلا عن هذا القانون، كنتُ قد راجعتُه معها عام 2005.
إختلفت الآراء كثيرا حول الدستور العراقي الجديد، لكن الحقيقة التي علينا الإعتراف بها، هي أن هذا الدستور جاء منسجما مع واقعنا الإجتماعي الحالي، فهو إنعكاس طبيعي وحقيقي للواقع غير السليم الذي وصل إليه العراق، فالمجتمع العراقي يجني منذ سنوات ثمار الزرع الذي أنبتته الظروف اللاإنسانية والمتخلفة التي عاشها طوال العهد الفاشي المأزوم، فالتخلف والتعصب عادا ليطبعا مجتمع العراق بطابعهما.
في مقال جريء عنوانه (المرأة التي وَحدّتْ المسلمين) وصف الناشط أحمد عبد الحسين وادي (وهو من الأدباء والكتاب الليبراليين الشباب) من خلال مثالين إختارهما من مشاهد العنف اليومي ما آل إليه واقع المرأة العراقية، فهو يقول (أن القتلة المجهولون في مدينة (الدورة) كمثال لمن يدعون إنتمائهم أو تمثيلهم للطائفة السنية يلاحقون المرأة التي تقود السيارة أو التي ترتدي البنطال لتخطف أو تقتل، جريا وراء نسخ التجربة السعودية في هذا المضمار، مقابل القتلة المجهولون في مدينة الصدر ممن يدعون إنتمائهم أو تمثيلهم للطائفة الشيعية يلاحقون ويقتلون المرأة التي لا ترتدي الحجاب والجلباب لنسخ تجربة الحرس الثوري الإيراني)، ويضيف الكاتب (إن هذان الفريقان المجهولان يبطشان بعضهم ببعض بكل ضراوة، ولا يتفقان ولا يجتمعان إلا على أمر واحد يوحدهما هو عدائهما السافر للمرأة وحقوقها وحريتها وكرامتها!!).
بقي أن نذكر إن هذا الكاتب المتمرد قد أهدر دمه هو الآخر نتيجة آرائه هذه، – كما حصل قبل تسعين عام لزميليه الزهاوي والرصافي – فغادر العراق وتوارى عن الأنظار لفترة زمنية، ثم تكرّر إختفاءه بعد ذلك لأكثر من مرة، لكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكأننا عدنا الى بداية الصراع من أجل التحرّر والتحضرّ !!.
لعل واحدة من أهم المظاهر الإجتماعية التي يؤكدها التاريخ الإجتماعي هو أن المرأة كانت – وستظل دائما – الضحية الأولى والأكثر تضررا من أي شريحة إجتماعية أخرى إذا ما نابت البلدان حروب أو مجاعات أو كوارث، كذلك وجدنا أن المرأة تكاد تكون الضحية الوحيدة التي تدفع ثمن آفات التعصب والتخلف إذا ما أصابت مجتمعها.
إن التمييز ضد المرأة أو عدم المساواة بين المرأة والرجل ما هو إلا مفارقة أزلية منذ أن بدأ الوجود الإنساني على الأرض، ذلك أن مستلزمات الصراع من أجل البقاء ومتطلبات المنظومة البدائية للإنسان، بدءا بالعصور الحجرية وما تلاها كان عمادها القوة العضلية لا العقل، فشريعة الغاب التي حكمت المجتمعات البشرية في بدايتها أشاعت إستيلاء الطرف (العضلي) الذكوري على سلطة تلك المنظومات، وهو ما أدى لاحقا لبسط نفوذ الرجل وتحكمه بالطرف الآخر طوال العصور والدهور التالية، دون أن يكون هناك سببا علميا أو منطقيا يبرر هذا التمييز العنصري المشابه الى حد ما للأوضاع الحياتية التي تعيشها الحيوانات في الغابات والبراري !!.
لذلك ليس مصادفة أن تسلب حقوق المرأة في المجتمعات التي لازالت متناغمة مع القيم البدائية والمحكومة بشرائع الغاب، فمتى ما غاب العقل والعلم كانت البدائية حاضرة وشائعة وحاكمة، ولما كان كل ما هو مشاع مشروع بحسب توافقات المجتمع المتخلف، فإن هيمنة الجهل منح هذه الشرائع مشروعيتها بكل تأكيد، ونؤسس على ذلك إن لا حقوق ولا حرية للمرأة إذا لم يتحرر المجتمع والرجل أولا من الجهل والتخلف والبدائية.
لقد إكتشف المتخصصون بشؤون الحريات وحقوق إلإنسان، إن ليس مصادفة أن يكون إحترام الحقوق الإنسانية للمرأة يكاد يكون المعيار الوحيد لقياس تحضر الشعوب وتمدّنها، فلا العمران ولا التكنولوجيا ولا إرتفاع الميزانيات المالية للدول تؤشر الى تحضرها، وبإمكان المتابع أن يقارن أي بلد خليجي أو آسيوي ثري جداً، ببلد أوربي فقير مثل اليونان أو أميركي مثل المكسيك على سبيل المثال، وأين يضعهما عندما نريد التحدث عن التحضر والمدنية.
صار مألوفا – في زمن المفارقات والهزائم – أن نرى إمرأة الأمس التي تحررت من عبوديتها وعاشت إنسانيتها وجنتْ ثمار من سبقتها من المناضلات رائدات التحرر, مهزومة منذ ما يقرب من ثلاث عقود زمنية أمام أعراف وتقاليد البداوة التي غزت وأسقطت المدينة، بل نجدها اليوم – أي إمرأة الأمس – جزءا من أدوات التخلف والهمجية عندما تفرض على إبنتها، ما كانت هي قد تحررت منه قبل تلك العقود!.
إن أكثر ما يثير قلق المهتمين بمؤشرات المدنية في عراق اليوم هو إبقاء عجلة الحياة الإجتماعية تدور الى الوراء، رغم الحراك الإجتماعي الجديد الذي بدأ فور سقوط الحكم الفاشي في العام 2003 ، وبدأ معه الصراع مجددا ومن صفر جديد بين قوتين غير متكافئتين، الأولى جمعت الورثة الجدد لذلك الطابور البدوي بما يملكون من وسائل فعالة، والثانية قوى تحررية خجولة تريد إيقاف هذا التراجع ونقل دوران العجلة الى الأمام، صراع قديم جديد في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه الى تضييق الهوة المتسعة التي تفصلنا عن العالم المتحضر والمتطور والمتقدم.
ولابد أن نختتم هذا العرض التاريخي البسيط بما نجده ضروريا وملحا، بالقول إن على مثقفي ومتنوري عراق اليوم إدراك حجم مسؤوليتهم التاريخية، مثلما تحمّلها أقرانهم قبل عقود زمنية غير قليلة، حتى يصحّحوا من جديد مسار الذهن الجمعي الذي إستسلم على ما يبدو للمد الظلامي الذي وزع سحبه السوداء على المجتمع بمجموعه – وليس على المرأة وحسب – منذ ثمانينيات القرن الماضي, مؤكدين أن المرأة كانت وستظل دائما الخاسر الأول كلما تقدم الظلاميون خطوة وتراجع المتحضرون خطوات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
– البغداديون مجالسهم وأخبارهم، إبراهيم الدروبي
– حكايات سياسية، خيري العمري
– فتاة الشرق، محمد جميل بيهم
– العراق السياسي، حنا بطاطو
– الرحلة الثامنة، جبرا إبراهيم جبرا.