23 ديسمبر، 2024 10:24 ص

لمحات من تاريخ الحركة النسوية في العراق – 2 / عودة الى بداية الصراع من أجل التحرر

لمحات من تاريخ الحركة النسوية في العراق – 2 / عودة الى بداية الصراع من أجل التحرر

إشتدت معركة السفور والحجاب وأصبحت أكثر ضراوة بعد حفل إستقبال ولي العهد الأمير غازي بمناسبة عودته من دراسته في لندن، فقد شاركت في ذلك الإحتفال مدارس بغداد، وكان من بينها لأول مرة طالبات ثانوية البارودية للبنات، تتقدمهن مديرة المدرسة الآنسة (معزز برتو)، فأقامت الأوساط المحافظة الدنيا ولم تقعدها وعلى رأسهم رجل الدين المتشدد (محمد بهجت الأثري), الذي صار الرصافي يلقبه (ببوليس السماء)، لكثرة الفتاوى التي كان يصدرها في كل صغيرة وكبيرة، ومعه رشيد عالي الكيلاني وسلمان الشواف وتوفيق الفكيكي والشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي وآخرون، كما عهد داود العجيل رئاسة تحرير جريدته (البدائع) الى الأثري خصيصا لمواجهة المجدّدين، فإنبرت هذه تهاجم مديرة المدرسة وتعتبر العمل الذي أقدمت عليه خروجا على الفضيلة وتمردا على الآداب، وقال الأثري موجها خطابا نابي اللهجة الى دعاة تحرر المرأة :
(ألقوا حَبلَ نسائكم على غاربهن، ودعوهن سافرات ودعونا نفعل بهن ما نشاء، إن شئنا قتلهنّ أو إردنا وأدهنّ فلستم علينا بمسيطرين) !!.
فسارع المخضرم حسين الرحال الى الرد عليهم بجرأة وعنف ومعه عصبة من الشباب كالأديب مصطفى علي ومحمود أحمد السيد وسامي شوكت وعوني بكر صدقي ومحمد سليم فتاح، كما إنضمت جريدة العراق التي يتولى تحريرها رزوق غنام وروفائيل بطي الى جانب دعاة التحرر الآخرين، وكتب فيها سامي شوكت مقال جاء فيه : (إن المطالبين ببقاء تستر المرأة وأسرها يكون طلبهم منطقيا أكثر لو طلبوا إلغاء التعليم ورفع التهذيب والإبقاء على الحالة الهمجية للمجتمع).
كما كتبت إحدى سيدات بغداد مقالها تحت إسم مستعار (فتاة غسان) متهكمة من دعاة الحجاب قائلة : (يقول هؤلاء المستبدون إن البرقع والحجاب ليس معناه أسر المرأة، فأرجو من الرجال أن يجربوا ولو لإسبوع لبس البوشي والعبائتين)!! .
هناك حقيقة تاريخية فيها من الأهمية ما يدعونا الى الإشارة إليها، فقد جرت العادة لدى الكثير منا – كما هو الحال اليوم – الى التشكيك بدعوات التحرر والتجديد، وتوصيفها وتصنيفها (مؤامرة) تستهدفنا، على وفق ما أصطلح عليه في القاموس السياسي بنظرية المؤامرة، أي إن كل دعوات التطور والتحرر ما هي إلا إستهداف لتراثنا وعروبتنا وديننا الإسلامي الحنيف، لكن الغرابة كل الغرابة أن نجد هنا أن المتشدّدين والمتعصّبين يستشهدون في معرض تصديهم لدعوات التحرر بالمسيحيين واليهود كمثال على الإلتزام بالحجاب والتقاليد المحافظة، فها هو (جميل المدرس) أحد أشد المناوئين للسفور كتب يقول:
(خذو العبرة من النصارى واليهود، هل نجد في مدارسهم الأناثية فرقٌ كشفية أناثية كما في مدارسنا، إن البنت اليهودية العراقية لا تسدل على وجهها نقابا خفيفا كالذي تلبسه اليوم أكثر البنات المسلمات المتبرجات، بل نقابا أخشن وأثخن)!!.
في 23/11/1924 وبينما هذه المعارك قائمة في الأندية والمحافل، وأخبارها وأحاديثها تدور في المقاهي والمجالس، إذا بنادٍ جديد يفتتح بإسم (نادي النهضة النسائية) تألفت هيئته الإدارية من (أسماء الزهاوي) شقيقة الشاعر جميل صدقي الزهاوي ونعيمة السعيد وماري عبد المسيح وفخرية العسكري زوجة الوزير جعفر العسكري)، فسارعت جريدة العراق الى الترحيب به معتبرة إفتتاح النادي إنتصارا لحرية المرأة.
إزدادت المعارك حدة بين أنصار التجديد وبين المحافظين المتشددين وأقبل الناس على الصحف التي أصبحت الآن ساحٍ لها، ووصلت المشادات الكلامية في أحيان كثيرة الى الإشتباك بالأيدي، ناهيك عن الشتائم وإطلاق النعوت والألقاب والصفات المزرية على المجددين.
وعندما أخذ دعاة تحرير المرأة ينادون على صفحات جريدة العراق بإلغاء المحاكم الشرعية وسن قانون مدني جديد ينظم الأحوال الشخصية على قواعد تساير العصر، طار صواب المحافظين لهذه المبادرة الجريئة وأخذوا يطاردون دعاة التجديد، تارة بالتهديد بالقتل وطورا بالإرهاب، فأضطر عدد من أنصارهم الى اللجوء للقضاء طالبين حمايتهم من المحافظين.
صار الملك فيصل الأول وديواني مجلس الوزراء ووزارة الداخلية يستقبلون يوميا وفودا لا تنقطع من المحافظين، ويصغون الى إحتجاجاتهم ويستلمون منهم المضابط التي تحث الحكومة على (تأديب) المجددين بحسب قولهم، فأوعزت مديرية المطبوعات التابعة لوزارة الداخلية الى الصحف بالكف عن نشر المقالات التي تدعو الى التحرر والسفور، إلا إن تلك الإجراءات لم تمنع حسين الرحال من إصدار مجلة (الصحيفة) التي إستطاعت أن تهز الأوساط المحافظة وتزعزع القيم القديمة السائدة.
عكست المجلة في أعمدتها أحدث الآراء في التاريخ والأدب والنظريات السياسية والإقتصاد وعلى صفحاتها تتبع الجمهور العراقي نهضة المرأة التركية والإيرانية واللبنانية والمصرية، ومن تلك المقالات نقتطف هذا المقطع للكاتب محمود أحمد السيد الذي يقول فيه :
(سنواصل مسيرتنا في سبيل الحرية الفكرية والحق والمثل العليا .. نحن أقوياء بأنفسنا أقوياء بأقلامنا، سنكشف قناع الرياء عن ميراث العصور المظلمة وسنزهق الباطل ونسحقه سحقا ونرفع للمرأة راية التعليم والتحرر الإجتماعي، وذلكم واجبنا الأكبر) !.
كان لهذه المجلة أثرها الكبير في تنبيه أذهان الناس وتثقيفهم والتمهيد لخلق مفاهيم حضارية جديدة، فنشط المجددون بشكل واضح، وإنضمت إليهم أسماء جديدة من المؤثرين مثل طالب مشتاق وكامل السامرائي وعبد الحميد رفعت وشاكر الأوقاتي وساطع الحصري ومحمد بسيم اذويب وغيرهم الكثير.
لكن المحطة الأهم في تاريخ نهضة المرأة العربية عموما والعراقية خصوصا هي إنبثاق مؤتمرات خاصة بالمرأة، ويعزى ذلك للنشاط الذي تبناه المفكر اللبناني (محمد جميل بيهم) ضمن مساعيه الحثيثة للدفاع عن حقوق المرأة العربية، فتلقت زعيمة النهضة النسوية العراقية (أسماء الزهاوي) رئيسة نادي النهضة رسالة من السيدة اللبنانية نور حمادة رئيسة المجمع النسائي العربي بداية آذار 1929 تدعو فيه المرأة العراقية للتشاور من أجل عقد أول مؤتمر نسوي عربي، ودعت الزهاوي في ضوء ذلك عضوات نادي النهضة للإجتماع والمداولة في موضوع المؤتمر فضم الإجتماع بالإضافة الى عضوات النادي عدد كبير من السيدات الناشطات ومما قالته الزهاوي في الإجتماع (إن إجتماعنا هذا لهو دليل على أن الحركة النسوية المباركة في العراق صادقة لا يثبط عزيمة القائمات عليها معارضة الفئة  الرجعية، إننا نسير في ظلمات التعصّب المخيّم على ربوع الرافدين ولكن الصبح آتٍ قريب وسنراه بعيوننا صبحاً يفيض نوره على الربى والبطاح). كما إشتكت الزهاوي من عجز الحكومة عن مساعدتهن ضد القوى المتعصبة التي تصول وتجول وتهدد وتتوعد، معيبة عليها (أي الحكومة) الوقوف على الحياد في هذا الصراع الإجتماعي الصعب, وهو ما أرهب بالتالي النادي وأعجزه عن تسمية إمرأة عراقية واحدة لتمثيل العراق في هذا المؤتمر المنتظر (الذي تمنته نور حمادة أن يعقد ببغداد)، فإكتفى النادي بإرسال كلمة ألقيت بالنيابة عنه في أول مؤتمر نسوي عربي والذي عقد في العاصمة المصرية القاهرة.
إتسعت رقعة المؤيدين للتجديد والداعين الى إعطاء المرأة حقوقها وإزدادوا ثقة بأنفسهم، ومال إليهم رؤوف الجادرجي أستاذ القانون الدولي وحكمت سليمان أستاذ المالية وتوفيق السويدي أستاذ القانون الروماني، وأصبحت الصحف تنشر لهم كل يوم العديد من المقالات والقصائد المحرضة والمدافعة عن المرأة ومن بينها تلك القصيدة الشهيرة لجميل صدقي الزهاوي الذي أصبح في هذا الوقت شاعراً معروفاً والتي مطلعها :
أسفري فالحجاب يا إبنة فهرٍ      هو داءٌ في الإجتماع وخيمُ
كل شيء الى التجــدد ماضٍ      فلماذا يُقــــــــــرّ هذا القديمُ
لم يطل العام 1930 حتى ظهرت أصوات نسائية بأسمائها الصريحة تدعو الى منح المرأة حقوقها وتلمح علانية الى تحررها وضرورة إفساح المجال أمامها للدخول الى معترك الحياة فأرتفع صوت (رفعة الخطيب) يناقش الشريعة الإسلامية ما إذا كانت منعت السفور أم لا، وصوت الآنسة أمينة الرحال (شقيقة الثائر حسين الرحال) تدعو الى ضرورة إستقلال المرأة إستقلالا إقتصاديا.
وعندما دُعي العراق للمشاركة في المؤتمر النسوي الثاني الذي أتفق على إنعقاده في العاصمة السورية دمشق في تموز من ذلك العام، بذل السياسي المعتدل ثابت عبد النور جهودا كبيرة من أجل إقناع الحكومة بضرورة مشاركة المرأة العراقية في هذا المؤتمر حتى لا يظهر العراق امام دول المنطقة كبلدا متخلف لا يراعي تطورات العصر، فكان إن رشحت الحكومة الآنسة أمينة الرحال (والتي لا تزل طالبة في معهد المعلمات) ومعها الآنسة جميلة الجبوري لتمثيل العراق، فكان لكلمة العراق التي ألقتها أمينة الرحال صدى مميزا في أوساط المؤتمر.
لم يحل شهر تشرين ثان 1932 حتى إنعقد ببغداد مؤتمر المرأة العربية الثالث وهو أول مؤتمر للمرأة في تاريخ العراق، ما عزز إتصال حركة المرأة العراقية بمثيلاتها في الدول الأخرى، وكان إنعقاد مثل هذا المؤتمر سببا كافيا لإثارة الرأي العام المتابع ولتمتلأ صحف البلد بمقالات مؤيدة ومهنئة ومستبشرة بهذا التطور الإيجابي الذي سيحفز المرأة على التقدم بخطوات أكثر جرأة نحو مطالباتها الإنسانية، تقابلها عناوين ومقالات أخرى تعنف وتهدد وتحمل الدولة مسؤولية هذه الإنحدار (والسقوط الإخلاقي!!) لسماحها بقيام مثل هذه (الفضائح)، بل أفتى بعض كتابها من أن ما يجرى هو إحدى علامات قيام الساعة !!. 
تعددت المجلات المتخصصة بعالم المرأة والأسرة العراقية عموما، من بين تلك المجلات مجلة (تحرير المرأة) التي صدرت في العام 1946 والتي جاء في إفتتاحية العدد الأول (واجبنا اليوم هو التخفيف من قيود العادات التي أسرت المرأة، اننا نعتقد ان حرية المجتمع وحدة واحدة لا تتجزأ وإن قضية المرأة لا تنفصل عن القضية العامة).
كل ذلك بدا مرافقا للتطور الذي راح يظهر على العديد من تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع العراقي، فراحت الهوة التي كانت تفصل عالم المرأة عن عالم الرجل تضيق رويدا رويدا، ففي أربعينيات ذلك القرن بدأت المرأة ترتاد النوادي ودور السينما والحدائق العامة بصحبة الرجل، بل أصبحت المرأة العراقية مشاركة في الأنشطة الثقافية والأدبية ومتذوقة لكل أنواع الفنون الموسيقية والمسرحية والتشكيلية، وأنقل هنا مقطع من المذكرات اليومية للفنان التشكيلي العراقي الرائد (جواد سليم) وفيه صورة لما كانت عليه المرأة العراقية آنذاك، متمنياً على عراقيي اليوم أن يقارنوا بين ذلك الأمس البعيد المشرق وبين حاضرهم المتهرئ المشوه منذ أكثر من ثلاث عقود، يقول سليم في يوميته المؤرخة في 13 آب 1946 :
(أفتتح اليوم معرضي التشكيلي الشخصي، وكان الحضور كثيفا جدا وبالمئات فإضطررت نتيجة الزحام الى تخصيص الفترة الصباحية للعوائل والفترة المسائية للرجال، كنت أجلس على مقعدي متطلعا الى وجوه نساء بغداد، الى طريقتهن في السير وفي مسك العباءة وقد تركن قسما من شعورهن على الجباه والى العيون المكحلات بغزارة والى فساتينهن المليئة بالورود الملونة والى ضفائر الشابات الصغيرات وتنانيرهن القصار!!).
أكرر ، كان هذا في آب 1946، (معرض تشكيلي تزوره العوائل بالمئات !!).
يتبع ………

[email protected]