23 ديسمبر، 2024 11:03 ص

لمحات من تاريخ الحركة النسوية في العراق – 1 / عودة الى بداية الصراع من أجل التحرر

لمحات من تاريخ الحركة النسوية في العراق – 1 / عودة الى بداية الصراع من أجل التحرر

مقدمة : لكي تكون وقائع هذه اللمحات التاريخية أكثر وضوحا داخل إطارها الزماني والمكاني وجدنا بداية أن ننقل للقاريء واحدة من أحداث ذلك الزمان مما له علاقة بالمرأة، لكي نتعرف على واقع المجتمع آنذاك والأعراف السائدة فيه :
(بناءا على الطلب السلطاني الصادر عن دار الخلافة الإسلامية في إستنبول عام 1904 أراد والي بغداد عبد الوهاب باشا أن يشمل النساء في عملية الإحصاء السكاني، ومنح كل واحدة منهن تذكرة عثمانية (هوية أحوال مدنية) إسوة بالرجال.  ولما شاع الأمر بين أهالي بغداد قامت قيامتهم لما يحتفظون به من تقاليد موروثة وعادات عربية معروفة معتبرين هذا الأمر الذي أقدم عليه الوالي يمس شرفهم ويحط من قدرهم وكرامتهم. فخرج الرجال من أهالي باب الشيخ والصدرية ورأس الساقية وفضوة عرب وبني سعيد والفضل ومناطق الكرخ يتقدمهم السيد أحمد أفندي النقيب ومعه رؤساء المحلات معلنين السخط والإستياء، تتقدمهم الأبواق والطبول والدمامات، مسلحين بالبنادق والمسدسات والسيوف والخناجر والقامات والهراوات، مع أهازيج شعبية وهوسات بغدادية، ليصطدموا مع الجندرمة قبل أن يقصدوا سراي الوالي الذي لم يخرجوا منه إلا بعد أن قرر تراجعه عن أمر التسجيل، فرجع الجميع يهتفون ويتغنون بتقاليد العرب المتوارثة).
أمدتنا هذه الرواية بصورة واقعية عما كان عليه مجتمع بغداد آنذاك، وعلينا أن نتصوّر الآن جسامة الأمر وخطورته بالنسبة لناشطي حركة التحديث ودعاة تحرير المرأة.
إن كفاح المرأة في العراق هو جزء من مسيرة تاريخية طويلة قطعتها المرأة في معظم بلدان العالم من أجل مناهضة التمييز الإجتماعي ضدها، فقد حفظت لنا الكتب والوثائق والمكاتبات والسير الذاتية لمؤرخين وسياسيين وأعلام فكر عراقيين العديد من القصص والوقائع التي أرخت لتاريخ الحركة النهضوية التي قادها المتنورون العراقيون لدعم عصبة من النساء العراقيات من أجل نيل حقوقهن المستلبة والتحرر من القيود التي فرضها الجهل الذي كان ينخر بجسد الأمة العراقية.

سوف نستعرض في بحثنا هذا بعض فصول ذلك الصراع التاريخي الطويل وذلك الكفاح المرير الذي إمتد لأكثر من خمسين عام منذ طلائع القرن العشرين، بين دعاة التجديد وتحرير المجتمع من براثن التخلف لكي يواكب العصر الإنساني المتحضر، وبين المتعصبين وغلاة الداعين الى إبقائنا وإبقائها (أي المرأة موضوعة البحث) في العصور المظلمة، صراع تمكنت فيه قوى التحرّر والتحضّر والمدنّية من تحقيق الكثير من أهدافها، قبل أن تتوقف عجلة الزمن مرة أخرى وتهزم المدينة والمدنية بعد العام 1968، إثر إستيلاء زعيم ذو نزعات فاشية ويحمل قيم بدوية متخلفة على مقدرات بلد متحضر، ليدخل العراق مرة أخرى في سبات مظلم ولتدور – منذ ذلك الوقت – عجلات كل المفاصل الإجتماعية الى الوراء.
وحده التاريخ هو الفيصل ووحده من يسجل في صفحاته عِظم الأسماء التي تقف بوجه الظلامية والعفن الفكري والتخلف والجهل، برغم كل الظروف المساعدة على إبقاء تلك العلل الإجتماعية والأمراض الذهنية التي تحقق مأربا وقتيا هنا أو مأربا وقتيا هناك، ذلك أن ساحة العصر الإنساني الحديث لم تعد تتسع بعد الآن لمثل هذه الظلاميات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سنعود في عرضنا التاريخي البسيط هذا الى مطلع القرن الماضي لنقف على بدايات ذلك الصراع، بين التخلف والتحضّر، والجهل والتنوّر، والعبودية والتحرّر، لنقف على أهم الوقائع التي أشرّت لموضوع تحرير المرأة وإعادة الحقوق الإنسانية لها.
بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الإستعمار العثماني – الملقب آنذاك بالرجل المريض – على يد الإستعمار البريطاني!!، وفي وسط حراك سياسي وإجتماعي غير مسبوق بأكثر من إتجاه، بدأت قوى شبابية تنويرية متأثرة بالتطور والتقدم الذي أصابه العالم المتحضر بالتطلع الى خلع رداء الإنحطاط والتخلف الذي كان المجتمع العراقي قد إبتلى بهما على مدى قرون غير قليلة، ولما كانت المرأة هي أبرز وأوضح ملامح ذلك التخلف، فكان من الطبيعي أن تشكل موضوعة حقوقها محورا مهما في أنشطتهم.  
عندما أعلن الدستور العثماني في تموز 1908 وأقيمت المهرجانات إحتفالا بهذه المناسبة خيّل للشاب الأستاذ في مدرسة الحقوق جميل صدقي الزهاوي إن الفرصة مؤاتية ليطلق أفكاره التحررية فنشر في جريدة المؤيد المصرية وتحت إسم مستعار مقالته الشهيرة حول ضرورة تحرير المرأة من عبوديتها، داعيا المحاكم الشرعية الى منحها حقوقها إسوة بالرجل مستشهدا بالآية القرآنية الكريمة (ولهن مثل الذي عليهن)، وما إن وصلت هذه الجريدة الى بغداد وإطلع عليها الأهالي حتى ماجت الأرض بأهلها، ولم نعرف من وشى بأسم الكاتب الحقيقي، ليتعرض الى ما تعرض إليه الزهاوي من إعتداء وهجوم عنيف من قبل خصومه ما دفع بـ (ناظم باشا) والي بغداد أيامئذ الى فصله من وظيفته تحت ضغط الجماعات المتشددة على الرغم من تراجع الزهاوي وإنكاره لتلك المقالة بعد إهدار دمه).
يصف المؤرخ خيري العمري حال المرأة في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين بقوله (كانت المنطقة غارقة في سبات عميق من الجهل، منكمشة على أعراف بدوية وقيم إجتماعية لا تكاد تعطي للمرأة أية قيمة إنسانية، بل كانت المرأة تعيش على هامش الحياة وراء جدران عالية من التقاليد وحواجز مرتفعة من العادات البالية، لا يسمح لها أن تطل على العالم إلا من خلال ثقب بباب أو برقع ونقاب، بل كانت المرأة (عورة) يجب أن تستر بستار كثيف من عبائتين وعلى الرجال أن يتحاشوا الإشارة إليها في مجالسهم خوف الفضيحة وخشية العار).
(كان عالم النساء في ذلك الزمان عالما مستقلا إستقلالا تاما عن عالم الرجال، كانت الحدائق العامة ولاحقا دور السينما والنوادي تحدد أياما معينة وأوقات خاصة للنساء مراعية في ذلك إسلوب الفصل الإجتماعي الذي كان متبعا، بل حتى البيوت كانت مقسمة بين ما يسمى بـ (الحَرَمْ) وهو مخصص للنساء وبين الديوان خانة وهي المخصصة للرجال).
كانت الدعوة الى السفور جزءا من مطالب إصلاحية عديدة كان دعاة النهضة والتجديد قد تبنوها دفاعا عن حقوق المرأة، وبرغم كل ما لاقته هذه الدعوات من مقاومة عنيفة لم يتمكن المتعصبون من وقفها، إذ سرعان ما تطورت الأوضاع الدولية والإجتماعية وزال نفوذ الخلافة العثمانية وإزدادت صلة العراق بالعالم الخارجي بحكم تطور وسائل الإتصالات والمواصلات.
في شباط عام 1922 أقام المعهد العلمي ببغداد مهرجانا شعريا عرف بأسم سوق عكاظ ورأى بعض منظميه أن تساهم الفتاة العراقية فيه، فعارض ذلك بشدة رجل الدين المعمم عبد الرحمن الكيلاني النقيب رئيس الوزراء آنذاك لاسيما وإن الفتاة التي وقع الإختيار عليها هي حفيدة الشيخ أحمد الداود الذي درس على يده الأحاديث وأصول الفقه، فثارت ثائرة المتشدّدين ونظموا حملة للتنديد بالمعهد وهدر دماء القائمين عليه.
لعل حادث الإعتداء الذي كاد أن يتعرض له الشاعر معروف الرصافي في آذار من العام نفسه خير ما يعكس سطوة القوى المحافظة، ففي حفلة تمثيل قدمت على مسرح سينما (رويال) هاجم الرصافي المحافظين والمتعصبين هجوما عنيفا في معرض دفاعه عن حقوق المرأة بقصيدة طويلة من أبياتها :
لقد غمـطوا حق النسـاء فشــدّدوا           عليـهن في حَسَـبٍ وطول ثواءِ
ألم تَرَهُمْ أمســـوا عبيـداٌ لأنـــهم           على الذلِّ شبّوا في جحورِ إماءِ
أقول لأهل الشـــــرق قولَ مؤنبٍ          وإن كان قولي مُسْخِط السـفهاءِ
(وأقبحُ جهلٍ في بني الشرق إنهمُ            يُسـمون أهلَ الجهلِ بالعلماء)

وراحت جريدة دجلة تنظم حملة عنيفة ضد الرصافي وقام رجال الدين برفع المضابط وإصدار الفتاوى بتكفيره إلا إن الرصافي كان أوفر حظاً من الزهاوي إذ هَبّ أنصار التجديد الذين إزداد عددهم الآن الى نصرته ومعاضدته، لما لهم من الجرأة ما خفـف من وقع موجة التأليب ضده، رافق ذلك نشر الصحف للعديد من المقالات المطالبة بتعليم المرأة ورفع الغبنِ عنها.
يروي أحد أبرز المدافعين عن حقوق المرأة العربية المفكر اللبناني (محمد جميل بيهم) في كتابه فتاة الشرق، أنه زار بغداد عام 1923 فكلفه منتدى التهذيب إلقاء محاضرة عن حقوق المرأة، يقول (بيهم): وما إن شاع الخبر حتى خفَّ لزيارتي السياسي (ثابت عبد النور) ناصحا أن أتراجع عن ذلك خشية إغتيالي فلم أبالي بذلك وأصررت على إلقائها, فكانت محاضرة ناجحة ولاسيما أن حضور السيدات كان كبيرا، برغم الحظر الذي فرض عليهن.
بدأت الحركات النهضوية الداعية الى الثورة على الجهل والتخلف تنمو في العراق حاملة راية التحرر وداعية الى اللحاق بركب التطور الذي غزا العالم، وكان لابد للمرأة العراقية من أن تتأثر بتلك الدعوات سياسية كانت أم إجتماعية، فكانت المرأة حاضرة مع أول ظهور لحركات التحرر في العراق التي حمل لوائها السياسي اليساري الرائد (حسين الرحال)، فمضت تتحمل مسؤوليتها الوطنية للدفاع عن الحقوق الإنسانية لمجتمعها بأكمله، قبل أن تبدأ المناداة بحقوقها وحرياتها أو تعمد الى تشكيل جمعيات نسائية خاصة بها أو منظمات مدنية تعنى بشؤون الأسرة، كما تمكنت المرأة العراقية في العام 1923 من إصدار عدد من المجلات النسائية أبرزها مجلة (ليلى) التي رأس تحريرها (بولينا حسون) إحدى زعيمات النهضة النسوية العراقية.
يتبع ………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة : كل إشارة للحجاب سترد في هذا البحث هي ليست بالضرورة إشارة لإرتباطاته العقائدية، بل في رمزيته, فعندما سنتحدث عن دعوات التحرر ضد النقاب والحجاب مطلع القرن الماضي فهي في رمزية ذلك النقاب، العنوان الذي يندرج تحت سواده كل تفاصيل العبودية والتمييز ضد المرأة.
[email protected]