23 ديسمبر، 2024 10:35 ص

لمحات من تاريخ الحركة النسوية في العراق – 3

لمحات من تاريخ الحركة النسوية في العراق – 3

عودة الى بداية الصراع من اجل التحرر

إن التطور اللاحق الذي سيلفت النظر إليه هو دخول المرأة المعترك السياسي بل وستأخذ مواقع مؤثرة فيها وتسطر مآثر حفظتها ذاكرة التاريخ العراقي الحديث، فعلى ىسبيل المثال ضم الحزب الشيوعي العراقي (المحظور آنذاك) في خلاياه نساء من مختلف الأعمار والدرجات الوظيفية والمستويات الثقافية والإجتماعية، فكن يحضرن الإجتماعات السرية ويؤدين الواجبات الحزبية مع ما يكتنف ذلك من مخاطر غير محمودة، بل ويشتركن في التظاهرات والإعتصامات.
فها هي (عدوية الفلكي) الشابة العراقية بنت التاسعة عشر تتقدم أعتى وأشهر إنتفاضة في تاريخ العراق السياسي على الإطلاق ما عرفت بعد ذلك بـ (وثبة كانون).
كانت هذه الإنتفاضة العارمة الخالدة قد تجمعت من مختلف أنحاء الرصافة في الساحة التي تعرف اليوم بساحة (الرصافي) قاصدة عبور الجسر، فيما كانت قوات الشرطة بجانب الكرخ قد نصبت أسلحتها الرشاشة فوق سطوح الجامع والمباني المطلة على الساحة (حاليا ساحة الشهداء) تنتظر وصولها، حتى إذا ما إجتازت التظاهرة منتصف الجسر إنهمر عليها رصاص الأسلحة الكثيف من جوانب ثلاث فراح المتظاهرون يتساقطون قتلى وجرحى (400 ضحية ومئات الجرحى حسب بيانات الشرطة)، كانت (عدوية) هذه في مقدمة التظاهرة ترفع مع زميل لها أحدى اللافتات وعندما أردى الرصاص زميلها قتيلا لم تخف ولم تثبط عزيمتها ولم تتراجع بل أصرت على حمل تلك اللافتة وحدها هذه المرة متجاهلة نيران الأسلحة المدوية لتعبر ذلك الجسر لوحدها، (الجسر والساحة اللذان حملا فيما بعد أسم – الشهداء –  تيمنا بهذه الواقعة الوطنية الخالدة أو المجزرة البشرية المروعة).
 في العام 1952 تمكنت عصبة من النساء الناشطات أمثال نزيهة الدليمي وسافرة جميل حافظ (وجميعهن ينتمين الى الطبقة الوسطى المحافظة) من تشكيل أكبر وأنشط منظمة نسوية عراقية تحت أسم (رابطة الدفاع عن حقوق المرأة)، ويبدو أن إرتباطها بالحزب الشيوعي المحظور جعلها تختار العمل السري، لكن ما يميزها هو أن أغلب عضواتها من شرائح إجتماعية مختلفة، ففي حين كان نشاط الجمعيات حتى ذلك الوقت مقتصرا على الطبقة البرجوازية، فإن هذه المنظمة توسعت وتمكنت من ضم أعداد هائلة من النساء في أغلب المدن والقرى العراقية ممن ينتمين للطبقات الوسطى والفقيرة، ولعبت دورا فاعلا في التظاهرات التي شهدها العراق عامي (1952 و 1956)، ما أدى الى إعتقال عدد من عضواتها، وهو ما يحدث للمرة الأولى في تاريخ الحكومات العراقية حتى ذلك الحين، وعندما شكلت الأحزاب السياسية المعارضة ما عرف بـ (جبهة الإتحاد الوطني) في العام 1957 كانت هذه الرابطة إحدى تشكيلاتها.
مضت السنوات والمرأة تزداد ثقة بنفسها لتنتزع ثوب التخلف والتبعية والإنكفاء على الذات، ففي تلك الخمسينيات إمتلأت القطاعات العلمية والثقافية والأدبية والفنية بأسماء عراقيات مبدعات تركن بصمات واضحة في تاريخ الأدب والفن والسياسة والعلوم، كما عم الإختلاط بين الجنسين في معظم الكليات والمعاهد الدراسية.
ومع سيطرة الجمهوريين على الحكم عام 1958، وصل عدد عضوات رابطة المرأة العراقية (وكان هذا هو أسمها الجديد) الى أكثر من 40 ألف عضوة، ونجحت من تحقيق أهم الأهداف التي كافحت المرأة العراقية من أجلها طويلا، فبعد أقل من عام أصدرت الدولة العراقية القانون رقم 188 وهو أول قانون مدني ينظم الأحوال الشخصية ليس في العراق وحسب بل وفي منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
إن المتتبع للمشهد العراقي خلال عقد الستينيات يلمس بكل سهولة مديات الإنعتاق والتحرر الذي وصلت إليه المرأة العراقية سياسيا وثقافيا وتعليميا ومهنيا والأهم من ذلك إجتماعيا. ففي مطلع هذا العقد عينت (نزيهة الدليمي) وزيرة في الحكومة لتكون أول إمرأة تتبوأ هذا المنصب في تاريخ الحكومات العراقية والعربية، وهو ما دفع ببقايا القوى الظلامية وباليمين السياسي وفي مقدمتهم البعثيين والقوميين الى تأليب شارعهم ضد هذه الخطوة، بل وأطلقوا الأهازيج السوقية للنيل منها والتي ظلت الذاكرة الشعبية تتذكرها على الدوام.
ولكن, برغم رعونة هؤلاء وبذاءاتهم, كان هذا العقد عقدا حضارياً مميزا في تاريخ العراق، مازال الليبراليون والمتنورون العراقيون يتذكروه بمزيد من الإعتزاز أحيانا، وأحيانا بمزيد من الألم والأسى والأسف لفقدان إنجازاته، برغم الشهور التسعة السوداء من العام 1963 عندما نهب البعثيون السلطة للمرة الأولى، وما تعرض له العراقيون – والمرأة من ضمنهم – الى واحدة من أفضع مجازرهم، حيث حوّلت ميليشيا الحرس القومي الفاشي ملاعب الكشافة والكرخ الى سجون للنساء الناشطات، وعندما نعرف أن عدد عضوات رابطة المرأة العراقية قد إقترب من الـ 50 ألف عضوة، فعلينا تصوّر عدد اللائي تعرضن للقتل أو الإعتقال والتعذيب والإغتصاب، وبينهن مئات المبدعات في حقول العلم والأدب والفن وغيرها، إضافة الى الفصل التعسفي من الوظائف الذي طال الآلاف من العاملين والعاملات في مجال التعليم وغيره، وهو ماجرى في عموم محافظات العراق.(1)
ومع صعود حزب البعث الى السلطة مرة أخرى عام 1968، بدأت الفئات الهمجية ومعها قيمها البدوية تزحف بإتجاه مراكز النفوذ وصنع القرار، ليبدأ العد التنازلي للواقع المضيء الذي حققه المجتمع عموما والمرأة خصوصا لعقود زمنية مضتْ.
أصبحت مشاهد، مثل تمزيق ثياب الفتيات وطلاء سيقانهن بالنفط الأسود من قبل مفارز محافظ بغداد المدعو خير الله طلفاح مألوفة بعد أشهر قليلة من بداية حكمهم، حتى إذا ما بلغنا عقد الثمانينيات وما تلاها كانت القيم الأعرابية الرجعية الهمجية هي السائدة سياسيا وإجتماعيا، وإنهزمت أمام مدّها العسكرتاري والبدوي قيم المدينة والمدنية، وتداعتْ وهوتْ الطبقة الوسطى تماما.
صار مألوفاً أن تسمع ألفاظا مثل (…………..) أي المرأة خلقت للجنس والضرب، و(المرأة بقرة)، من قبل أوساط تلك السلطة، معتبرين أن إحترام المرأة يتعارض مع الرجولة والفحولة والقيم العربية الأصيلة، فهو نوع من الخنوع والأنثوية وهي صفات يتهمون بها رجال المدن.
نحن نتحدث الآن عن مجتمع تحوّل بمعظمه الى مجتمع ذكوري، وأخطر إفرازاته تداعي ذلك الحياء والخلق المديني الذي كان أحد أبرز الملامح المدنية للمدينة، وتراجعه أمام إنتشار ظاهرة التحرش الجنسي, فلا يمكن لإمرأة أن تسير في الشارع دون أن تسمع هنا وهناك قاموس من الألفاظ البذيئة واللاأخلاقية، إضافة الى أصوات أبواق السيارات وهي تزمّر وراءها بالتتابع إذا ما هي سارت لوحدها على أرصفة المدينة وكأنها طريدة لا بد من أن تقع في شباك أحدهم، على الرغم من أن هذه الإمرأة قد أصبحت الآن ملتحفة بالحجاب والجلباب، لا إمرأة الستينيات ومطلع الستينيات السافرة بأزيائها القصار تبعا للموضة السائدة آنذاك !!، وهذه – أيضاً – واحدة من المفارقات الغريبة والعجيبة في التحولات الإجتماعية التي طرأت على المجتمع العراقية.
يكفي أن نقف على سياسات النظام البعثي وعلى التداعيات الإجتماعية والإقتصادية التي رافقت الحروب والحصار لغاية هزيمة ذلك النظام عام 2003، حتى نتعرف بسهولة على التركة الثقيلة والأمراض الإجتماعية المزمنة التي خلفتها العقود الفاشية الثلاث, التي ألقت بظلامها على كيان المرأة العراقية الضحية الأكبر لمطاحن الترويع والترهيب والقتل والإعتقال والملاحقة والتهجير والحروب والحصار والمجاعات، فهي من ثكلتْ بأبنائها أو أشقائها أو من ترمّلت أو من يُتمّتْ وهي بعدُ طفلة أو صبية قاصرة أو فتاة لازالت بحاجة الى الرعاية، كان عليها أن تعاني مرارة العيش تحت هيمنة قوى سلطوية وذكورية مزقت نسيج المجتمع، وبسطتْ عليه قيمها المتخلفة، فأصبح على المرأة أن تتحمّل كل تلك الأعباء، بل في حالات عديدة تحمّلت مسؤولية أعالة ذويها.
من المهم أن نـتذكر هنا أنّ نشاط الحركة النسوية العراقية قد منع تماما طوال حكم البعث، ورأى هذا الحزب أن يقتصر ذلك النشاط على المنظمة التي شكلها بعد عام من الإنقلاب ما عرف بـ (الإتحاد العام لنساء العراق)، والتي أدلجها النظام لتخدم أغراضه الفاشية ولتصبح بعد ذلك إحدى أدواته الرقابية، بل إحدى منابع الإفساد الإجتماعي والإمتاع الجنسي لرجالات السلطة، وهناك من الوثائق والمكاتبات التي عُثر عليها في أرشيف هذه المنظمة ما يبعث على الخجل والإزدراء، ويكشف وجه آخر من الوجوه المخزية لذلك النظام.
فعلى سبيل المثال لا الحصر تكشف إحدى تلك الوثائق عن طلب مرسل من نادي الضباط في اليرموك ببغداد الى رئيسة تلك المنظمة يطلبون فيه إرسال عدد من العضوات للسهر في النادي (لتلطيف) جو السهرة، ومن ثم المبيت مع العساكر لإمتاعهم.(2)
هناك من أراد تلميع صورة الرئيس صدام حسين وتصويره على أنه رجل متحضر ومدافع عن حقوق المرأة، ففي إحدى حلقات البرنامج التلفزيوني (ونطقت شهرزاد) الذي تعده وتقدمه الإعلامية المتميزة فيروز حاتم الذي تبثه قناة (الحرية) العراقية، قالت إحدى ضيفات البرنامج (يجب أن لا ننسى أن النظام السابق قد إتخذ قرارا لصالح المرأة، عندما إشترط على الرجل حصوله على موافقة زوجته الأولى إذا ما أراد الإقتران بزوجة ثانية)، ونود أن نوضح لغير العارفين بالطريقة التي كان صدام يتخذ فيها قراراته، أن وراء هذا القرار موقف لا يبتعد عن خاصته ولا يعبر عن إيمانه بحقوق المرأة، كما توهمت السيدة المتحدثة، إضافة الى أنه (أشبه بحبر على ورق) إحتال عليه كل مقصود وأولهم صاحب القرار (صدام) نفسه عندما إقترن بالسيدة سميرة الشابندر دون أخذ موافقة زوجته الأولى، أما القصة التي تقف وراء هذا القرار فهي:
عندما إستقدم صدام (فحوله) البدوية من قراهم لشغل مناصب عديدة في إدارة الدولة وخصوصا الأمنية منها، هجر العديد من هؤلاء زوجاتهم وإستوطنوا العاصمة وإقترنوا بزيجات أغلبهن من بنات الليل والغجر، وفي إحدى زياراته لتلك القرى عرضت تلك الزوجات شكواهن على الرئيس وكأنهن يحمّـلنه مسؤولية حرمانهن من أزواجهن، فأملا على أحد مرافقيه قراره ذاك وهو واقف أمامهن !!!.(3)
ولصدام موقف من المرأة عبر عنه صراحة في لقاء أجرته معه مجلة (المرأة) التي يصدرها الإتحاد النسوي السالف الذكر عام 1980، إستكثر فيه على المرأة حتى دورها المسؤول داخل بيتها، عندما قال (للمرأة دورها في إدارة شؤون البيت، حتى ما إذا حضر الرجل ينتهي دورها هذا !!).
يتبع ……
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كنتُ شاهدا شخصيا عندما فتحت أبواب قاعات ملعب الكرخ بالمنصور وأطلق سراح الآلاف من المعتقلات منه بعد هزيمة البعث وميلشياته في 18 تشرين ثان 1963.
(2) إطلعت بنفسي على عدد من تلك الوثائق، وتم نشرها على الصفحة الأولى لصحيفة المؤتمر.
(3) أخبرني بذلك أحد مرافقي صدام.
[email protected]