19 ديسمبر، 2024 1:16 ص

لماذا يلجأ العراقي إلى ديار الغربة ؟

لماذا يلجأ العراقي إلى ديار الغربة ؟

يخالجني شعور بأن الذي يكبر خارج وطنه لابد أن يندم، هذا حال كثير من المغتربين الذين أضاعوا عمرهم ثم أولادهم في الغربة.
ذلك لأن الإنسان مهما كبر يبقى بلا جذور، ومن ثم يمكن لأية هبة ريح أن تطيح به غير مأسوف على تعبه.
لقد عشت ولمدد متفاوتة في بلدان مختلفة ورأيت مغتربين عاشوا عمرهم في الغربة في بلاد عربية وأخرى أوربية واغلبهم مثل السمك يتوقون حباً للعودة إلى وطنهم ومناطقهم العتيقة.
ما حاسة الوطن هذه ؟ ما شعور الغربة المرّ هذا لا سيما في بلاد غريبة الوجه واليد واللسان؟ وما سر انقطاع أناس عن أوطانهم حتى يصبحوا في أرذل العمر؟ ما الذي يجعل أناسا أشداء أقوياء كالصخر، يبكون بكاء الأطفال حينما يفارقون أوطانهم، علماً إن الأوطان البديلة قد تكون أحلى واجدي؟ .
مهما كان المغترب مقتدراً، يبقى غريباً في النهاية، لا أحد يعرف ابن أية عائلة هو ومن أي حي أتى، سعره كأي مغترب بلا أصل ولا فصل… ناهيك عن معاناة لا آخر لها لا سيما حينما يتقدم العمر أو يكبر الأولاد وتكثر متطلباتهم، فإذا ما عادوا إلى الوطن عادوا غرباء أيضا، غرباء ومحسودين (على الشيخوخة والسمنة والضغط والسكري) وهذه قاصمة الظهر لقد عهدت أناسا كثيرون يقولون لو كان هذا الطبيب او ذاك الأستاذ ناجحاً في وطنه لما أتى طلباً للرزق! الذين يقولون ذلك يعرفون مدى صعوبة أن يترك المرء وطنه هائماً على وجهه في بلاد الله الواسعة، واحتمالات الفشل والتحطم قائمة  في كل الوقت.
لا يعرفون إن المرء بحاجة إلى شجاعة حتى يتخذ قراراً بالهجرة والرحيل وهم لا يعرفون إن الذي يخدمهم كان من المتميزين في بلده. غير إن على الغريب أن يسمع الكثير ويسكت، فما جدوى مناقشة هكذا أمور وهو غريب في النهاية ؟ ربما لا يفهم المنتقد ان عمل المغترب دليل حاجة لو انتفت لما وجد فرصة العمل.
انظروا إلى أمريكا مثلا ، كلها غرباء، لكنها اقوي بلد في العالم، وأشهر الأطباء فيها من العراق… ولولا العباقرة الغرباء الذين وجدوا تربة مناسبة للإبداع وتسلق المناصب تبعاً للكفاءات ما كانت أمريكا اليوم مسيطرة على العالم، ومع كل ما يتمتع به العراقي الأمريكي من (عز) ومال يبقى غريباً في بلاد قامت على الحرية.
هذا عن الغربة الخارجيـة، فماذا عن الغربـة الداخليـة ؟ إن أسوأ أنواع الغربة هي الغربـة داخـل الوطـن، وقد قال “أبو حيان التوحيدي” منذ زمن طويل:- “واغرب الغربـاء من صـار غريبـاً فـي وطنـه” ويقول الروائـي المغربي “الطاهر بن جلون”:- “لقد مزقنني الازدواجية لغة فرنسية وقلب عربي”.
ولعل في شعور هذا الكاتب الكبير ما يجعلنا ندرك أنه لا بديل عن الوطن مهما يكن الثمــن .