22 ديسمبر، 2024 5:34 م

لماذا يقتلون أنفسهم؟

لماذا يقتلون أنفسهم؟

يتساءل العالم عن سر هذه القدرة السحرية التي تمتلكها الجماعات الإرهابية بحيث تستطيع أقناع المئات وربما الآلاف من البشر على مختلف أعمارهم ومستوياتهم الثقافية ومناطقهم الجغرافية إلى أن ينخرطوا للعمل معها في ظروف محفوفة بالمخاطر والتحديات ،وتكون نهاية معظمهم أما الموت أو الإعاقة أو التشرد أو الاختباء أو السجن ،وتزداد الغرابة عند حالة الذين يقدمون طائعون من بيئات اجتماعية مستقرة وحياة مستوسقة وظروف جيدة للعيش تاركين كل ذلك وراء ظهورهم وقادمون طواعية إلى قتل أنفسهم بأنفسهم.
مدارس عديدة حاولت تقديم مقاربات شافية لجواب هذا التساؤل،الكثير منها لها صلة بالمؤسسة الأمنية ،وتنطلق تلك المقاربات أما من حالة تعميم لمجموعة عينات يتم التعرف عليها أثناء التحقيق مع الإرهابيين أو عند أسرهم أو في من خلال ظروف لقاءات أخرى ،وأما أن تكون محض استنباطات وتأويلات تتكئ على الأوضاع العامة وجوانب المشهد الفضفاض.
تتفاوت التفسيرات المقدمة  لأسباب نجاح عمليات التجنيد ما بين من يوعز سر هذه الاستجابة إلى مشاكل نفسية أو عقلية يعاني منها المستجيبين للتجنيد أو لوجود مشاكل اجتماعية أو قانونية أو سياسية لدى الإرهابيين أو لدى أسرهم أو عند مكونهم الديني أو الثقافي أو الاجتماعي تدفعهم للانخراط بالعمل الإرهابي ،بينما تذهب مقاربات أخرى إلى تفسير الأمر على أساس التأثر بالفكر التكفيري وقدرة المبشرين لهذا التكفير على إقناع من فيهم أرضية مهيئة للالتحاق بالعمل مع الجماعات الإرهابية.
الدافع المادي لم يغب عن الكثير من المقاربات، إذ جعلته بعضها السر من وراء تورط الكثيرين في الأعمال الإجرامية الإرهابية.
مع ظهور داعش ومنهجية السحق والإكراه التي تميزت بها ،وقدرتها العجيبة  على استقطاب الأنصار ،ومع ظهور أعداد كبيرة من المجندين من دول أوربا ومن أصول أوربية نقية ، بحيث لا يحسن البعض من التحدث بجملة واحدة باللغة العربية ،يزداد تعقيد السؤال ،وتصعب مهمة الوقوف على الدواعي والأسباب التي تدفع بهؤلاء الناس ،الذين كانوا يعيشون برفاهية وعيش رغيد ،إلى الإقدام على قتل أنفسهم طوعا.
مشاهد عديدة أظهرت الكثير منهم أثناء التحقيق أو في مقابلات خاصة وهم يجيبون بعناد وقسوة وإصرار على فعلهم دون أن يظهر عليهم علامات الندم أو التردد ،وحتى الذين تورطوا في قتل أعداد كبيرة من المدنيين من الأطفال والنساء يحاولون إيجاد تفسيرات وتبريرات لعملهم ويخلعون على أفعالهم ذرائع مختلفة من أجل الظهور بلباس المشروعية.
على الرغم من أهمية عنصر التمويل في وجود وديمومة الجماعات الإرهابية إلا أن عملية التجنيد وأسرارها تبقى القضية الأكثر أهمية وتعقيدا والتباسا ،وأن الوقوف على أسبابها الحقيقية ما زال التحدي الأكثر استفزازا للعاملين في مجال مكافحة الإرهاب.
الاختلاف الفكري المبني على رؤية أحادية والتي تدعي امتلاك الحق والحقيقة ،وترى عدم أحقية الآخر المختلف ليس في عدم بيان رأيه فحسب ،وإنما في عدم تمتعه بالوجود والحياة ،بل ترى إزالته مدخلا لتوطيد الحق وتثبيت أركان الحقيقة ،وهي قضية خطيرة أبتلي بها الفكر الإنساني منذ القدم ،ولم ينجو منها الإسلام والمسلمون ،فهناك اتجاهات وجماعات في داخل الإسلام وبين المسلمين ترى من الضرورة إلغاء كل المختلفين ،وخصوصا المختلفون معها على سرد رواية معينة لتأريخ الإسلام والمسلمين.
هذه الجماعات قديمة جديدة، تعددت عناوينها واختلفت مناطق ظهورها، إلا أنها اشتركت في حقيقة واحدة تتمثل في ضرورة إزالة “آخر محدد” تختلف معه.
التشويش الفكري والمنهجي في قراءة الحدث السياسي والأخلاقي والاجتماعي والمقاربات الصحيحة للتعاطي معه ،تمثل مدخلا للتكلس والانغلاق والتعصب والتشرنق ثم العدوانية العكسية مع الآخر المختلف ،وتحت ذرائع الواجب الأخلاقي أو الرؤية السياسية الصحيحة أو الهدف الاجتماعي النبيل تبيح الكثير من الرؤى إراقة دماء الآخر المختلف.
البحث عن مكانة والسعي لتحقيق أثر في ساحة الوجود طموحات للمقصيين والمهمشين والمنكسرين والذين تعرضوا لتجارب قاسية في حياتهم ،فالوجود كعضو فاعل في مجموعة قوية تحقق آثارا على الأرض يمثل استجابة لتلك الفراغات والندب الموجودة على ذوات هؤلاء المتصدعين والمنكسرين ،لذا فإن انخراطهم في الأعمال التي تؤكد وجودهم وتعلي من شأنهم بين الأقران وتنسب الفعل إليهم مباشرة ،دواعي مهمة تدفع البعض إلى المخاطرة بحياته من أجل أن يقول للآخرين أنه “موجود”.
الذكاء السياسي والحنكة الإستخبارية والقدرات المتقدمة للأجهزة الفاعلة على حمل الذين فيهم أرضية الضلال والغواية وتحركهم إلى درجة التصرف بهم كالدمى تمثل مدخلا مهما في عمليات التجنيد وتشارك غيرها من الأسباب في توريط هذا العدد الكبير من التائهين في حلبة الحياة والكارهين للأمل والحب.
الدواعي المادية والعوز والفقر والقهر الاجتماعي والسياسي أسباب يمكنها أن تحمل المرء على اتخاذ مواقف متطرفة قد تصل عند البعض إلى حد الانتحار سواء بشكله السلبي من خلال قتل الذات دون المساس بالآخرين أو من خلال شكله الانفعالي عبر عملية التدمير المزدوج للذات والآخرين.
خلاصة القول ،على الرغم من وجود المختلين والمهوسين بين المجندين في الجماعات الإرهابية إلا أن أكثرهم من ذوي الوعي ،بل والذكاء والفطنة ،وعلى الرغم من وجود الفقراء والمهمشين والمقهورين سياسيا واجتماعيا إلا أن هناك الكثير من ذوي الحياة المرفهة والوضع الاجتماعي والسياسي المستقر ،وعلى الرغم من وجود الكثير من العصابويين إلا أن هناك الكثير من الذين يجيدون الحوار والتفكير والتنظير كجنود أوفياء للجماعات الإرهابية.
هذه الأعداد من الاستثناءات تزيد المسؤولية على ذوي الاختصاص في الوقوف على الأسباب الأكثر تفصيلا لاندفاع هذه الكتل البشرية نحو الموت بإرادتها ،وتمثل المدخل الأهم في عملية مكافحة الإرهاب.

الخبير في الشؤون الأمنية والاستراتيجية