9 أبريل، 2024 5:31 ص
Search
Close this search box.

لماذا يضع فريق (دروغيدا) الإيرلندي لكرة القدم الشعار العثماني على صدورهم؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

أليس من المستغرب ان يضع لاعبي فريق كرة قدم أوربّي (غير مسلمين) الشعار العثماني المتمثل في الهلال والنجمة على صدورهم ويتخذوه شعارًا لناديهم!؟.
ذلك هو فريق اتحاد دروغيدا لكرة القدم. احد الاندية الإيرلندية، الذي يلعب في دوري الدرجة الممتازة في ايرلندا. وكان قد تأسس سنة 1919م . في مدينة دروغيدا (Drogheda) وهي المدينة المرفأ القديم التي تقع على الساحل الشرقي للبلاد الى الشمال من دبلن العاصمة ، ويصل عدد سكّانها قرابة 41,000 نسمة وفقًا لتعداد (2016). وتعال لنتعرف هنا على اسباب اتخاذه لهذا الشعار.
المُلّاك الأرستقراطيون:
ان سبب اتخاذه لنفس شعار الدولة العثمانية، شعارًا له، فذلك يعود لأحداث جليلة جرت في ايرلندا في منتصف القرن التاسع عشر. يومها كانت ايرلندا خاضعة للتاج البريطاني. وبفعل التوجهات السياسية والاقتصادية غير المنصفة المحلية والخارجية، عن قصد أو عن غير قصد، وللصراع الديني (الأرثذوكسي البروتستانتي) بين الإيرلنديين والإنكليز فقد كان الفقر هو القاسم المشترك لشريحة واسعة من الشعب الإيرلندي. واعتمد المزارعون البُسطاء على زراعة البطاطا باعتبارها الطعام الوحيد لفقراء الشعب. يقيموا بها أودهم. وخاصة في فصل الشتاء، حيث تغيب الزراعة بسبب البرد والثلج. وعمومًا فقد انعكست مخرجات تلك الظروف العامة، على اهمال المزارعين لإنتاج المحاصيل الأخرى سوى البطاطا.
كانت ايرلندا عبارة عن اقطاعيات يمتلك الاراضي فيها مُلّاك استقراطيون لا يزيد عددهم عن 10 آلاف شخص يقيمون غالبهم في انكلترا. يملك كل واحد منهم الآف الهكتارات من الأراضي الزراعية. ويؤجرونها لمزارعين فقراء بأسعار باهضة. ويشحن معظم الإنتاج الزراعي الى انكلترا المحتكرة لإقتصاد ايرلندا. والملاحظ ان العدد الكلي المحدود للملاك الاستقراطيين يعطينا انطباع عن حجم الاراضي التي استحوذ عليها القلة، بمقابل بقية الشعب من عمال وفلاحين أجراء، وعن التمايز الطبقي يومذاك في ايرلندا.
المجاعة الكبرى:
اجتاحت ايرلندا مجاعة كبرى وهي الأقسى والأشد في تاريخها، وذلك بإصابة المحصول الرئيسي (البطاطس) بآفة زراعية مدمرة بين السنوات 1845م و 1852م. اتت بالتلف احيانا على نسبة 90% من المحصول وكان ثلث سكان إيرلندا يعتمد على أكل البطاطس كمصدر وحيد في التغذية بسبب البؤس والفقر الذي كانوا يرزحون تحته.
كان عدد سكان الجزيرة الايرلندية قرابة (8) مليون نسمة قبل المجاعة وفق احصاء سنة 1841م. فتسببت المجاعة في وفاة مليون إنسان، وتَشرّد وهجرة حوالي مليون آخرين، وخاصة الى انجلترا وامريكا وكندا واسكتلندا واستراليا. وانخفضت نسبة السكان في الجزيرة الإيراندية بحوالي 20%- 25% في أقل من ثلاث او أربع سنوات. لقد كانت هذه المجاعة حذًا فاصلاّ في حياة وتاريخ ايرلندا. وكانت سنوات لها تأثير كبير في صياغة وتغيير المشهد السكاني والسياسي والاقتصادي لحياة الإيرلنديين ومستقبلهم.
لم تتحرك بريطانيا لاغاثة الشعب الإيرلندي في اول الأمر. وحين تفاقمت الأزمة دعت الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا، الى حملة لجمع التبرعات لإغاثة الإيرلنديين. وساهمت هي فيها بمبلغ (2,000) جنيه استرليني. وساهمت شركة الهند الشرقية (اكبر شركة محتكرة لتجارة الهند والصين) وكذا التبرعات الفردية من الجنود الايرلنديين والموظفين وبابا الفاتيكان، ووصلت الدعوة الى دول اوربية والى امريكا، فقامت مجموعة من الهنود الحمر (“التشوكتاو” وهم من السكان الاصليين ويسكنون في الجنوب الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية) بجمع مبلغ (710) جنيه استرليني لأجل الإغاثة. فكان المجموع الكلي الذي جُمِع للإغاثة، قرابة (200,000) الف جنيه استرليني.
إغاثة السلطان العثماني لإيرلندا:
لم يكن السلطان العثماني عبد المجيد الأول (1) معنيًا بهذه الدعوة. ولم يطلب احد منه ذلك. ولكنه حين علم بالمجاعة من طبيب أسنانه الخاص (الإيرلندي)، احزنه الأمر وشعر بضرورة اغاثة الشعب الايرلندي والتخفيف من معاناته. طبقًا لما يمليه علية الواجب الديني. فقرر ارسال (10,000) جنيه استرليني (2) لإغاثة الفلاحين والشعب الايرلندي الذي يتضور جوعًا. (قرر ذلك برغم أن الدولة العثمانية لم تكن يومها في احسن احوالها، فقد كانت تعاني من ازمات ومؤامرات واعداء من كل الجهات). ولكن ما إن أُبلِغت بريطانيا بمقدار بالمبلغ (الذي يُعَدُّ ضخمًا يومذاك)، ما كان منها إلّا الإعتراض على هذا الدعم السخي. وطلبت ان تكون مساهمة السلطان الف جنيه استرليني وفق البروتوكول المتعارف عليه في بريطانيا. إذ لا ينبغي المزايدة على الملكة أو تجاوزها، ولكي تبقى مساهمة الملكة هي الأعلى.
ارسل السلطان العثماني الألف جنية. وقرر ان تُرسل وبِسرّيةٍ تامّةً، ثلاث سفن محملة بالمواد الإغاثية العاجلة من غذاء ودواء وبذور زراعية الى ايرلندا بدلًا من المساعدات النقدية. وحين وصلت لم تسمح البحرية البريطانية للسفن من الإقتراب أو الرسو في موانئ ايرلندا مثل ميناء مدينة دبلن (حاليًا عاصمة جمهورية ايرلندا المستقلة) أوبلفاست (حاليًا عاصمة ايرلندا الشمالية التابعة لبريطانيا). أو الموانئ الاخرى. لما يسببه ذلك لبريطانيا من حرج امام الشعب الإنكليزي، ولحساسية المساعدات كونها كبيرة وقادمة من الدولة العثمانية المسلمة.
إنسحبت السفن العثمانية لترسو في جنح الظلام وتفرغ حمولتها على وجه السرعة في ميناء مدينة (دروغيدا) الصغير شمال مدينة دبلن ب حوالي 55 كيلومتر. جرى ذلك في عام 1847م. وهو العام الأسوء للمجاعة. كانت هذه المساعدة الغذائية التي تأتي في وقتها المناسب، بالغة الأهمية وموضع تقدير وترحاب وسرور غامر من قبل الشعب الإيرلندي المصاب بالمجاعة يوم ذاك، كونها غير متوقعة، وتصل في وقت هم بأمس الحاجة اليها.
عرفان الشعب الإيرلندي بالجميل العثماني:
عرف الإيرلنديون لهذا الموقف التاريخي قدره. وشكروا هذه المساعدة الجليلة، كونها قادمة من الشرق البعيد عنهم بآلاف الكيلومترات، ومن أمّة لا تدين بديانتهم، ولا تتحدث بلغتهم، علاوة على انها تتحمل مخاطر المواجهة الحربية المحتملة في البحر مع بريطانيا. بيد انها أمّة احست بمعاناتهم الإنسانية الشديدة وتحركت لنجدتهم. متجاوزة لأي اعتبارات دينية او قومية أو عرقية. فتركت هذه الإلتفاتة الكريمة من السلطان العثماني عبد المجيد الاول اثرها الجميل في نفوس الإيرلنديين. (3)
قام النبلاء وعامة الشعب في إيرلندا بإرسال خطاب شكر وعرفان للسلطان العثماني على موقفه التاريخي الشجاع. ولا يزال الخطاب محفوظاً حتى اليوم بالإرشيف العثماني في قصر الباب العالي (متحف طوب قابي سراي) في اسطنبول، كما اكد ذلك السفير التركي في ايرلندا طارق باي كوت، وأنه أطلع الجانب الإيرلندي عليه. ويقول الخطاب :
“نحن الموقعون أدناه أمراء إيرلندا الأصليون، نتوجه باسمنا وباسم شعبنا المحاصر بخالص احترامنا وشكرنا وعرفاننا إلى السلطان العثماني عبد المجيد المعظم وإلى جميع مواطني وشعب الدولة العثمانية الكرماء الذي قاموا ببذل كل ما بوسعهم من أجل إنقاذ شعب إيرلندا المُكدر والمحاصر من قبل الإمبراطورية البريطانية، لا يسعنا إلا أن نشكركم على إنسانيتكم التي حُرم منها الكثير من الإمبراطوريات”.(4).
احتفالية سنوية بمناسبة وصول الإغاثة:
اتخذت مدينة دروغيدا من يوم وصول السفن العثمانية مناسبة احتفالية سنوية، اصبحت جزءًا من الفولكلور الايرلندي، حيث تقيم احتفالا في كل عام في نفس الميناء الذي قدم إليه البحارة العثمانيون بالمساعدات. تعكس هذه الإحتفالية عدم نسيان الإيرلنديين لتلك المبادرة الكريمة والشجاعة. وان السنوات الطويلة التي مرت والى اليوم لم تمح تلك الذكرى. احتفالية هي بمثابة تعبير عن التقدير والامتنان لموقف الدولة العثمانية.
بلدية دروغيدا من جانبها علقت لوحة رخامية تذكارية على جدار مبنى البلدية باللغة الأنكليزية والإيرلندية (الغيلية) نصها: (المجاعة الأيرلندية الكبرى عام 1847. للذكرى واعترافًا بكرم الشعب التركي نحو شعب ايرلندا). (5) ونقش على الجانبين شعاري تركيا وبلدية دروغيدا المتمثلين في الهلال والنجمة كل منهما حُفِرَ ورُسِمَ بطريقة مخصوصة. وقد يحضر العلم التركي خلال الفعاليات الخيرية التي تقوم بها البلدية.
شعار فريق اتحاد دروغيدا لكرة القدم:
حين تأسس نادي دروغيدا لكرة القدم سنة 1919م، كانت ذكرى الإغاثة العثمانية حاضرة في الأذهان. فاتخذ النادي شعار الدولة العثمانية المتكون من الهلال والنجمة شعارًأ له، كتذكار ورسالة امتنان، لنجدة المسلمين لهم يوم ان خذلتهم الكثير من دول أوربا. وهكذا مضى شعار النادي من يومها، مزيّنًا بالهلال والنجمة.
فاز فريق اتحاد دروغيدا لكرة القدم، بكأس الاتحاد الدولي لكرة القدم للمرة الأولى في عام 2005. وفاز النادي أيضًا بكأس سيتانتا في عام 2006 ، ودوري إيرلندا للمرة الأولى في عام 2007.
ما زال فريق اتحاد دروغيدا ألايرلندي. يرتدي لاعبيه القمصان التي عليها شعار الدولة العثمانية وهو العلم التركي المتمثل في الهلال والنجمة.
لقد اقيمت العديد من النصب التذكارية في الشوارع والميادين وخاصة في تلك المناطق التي كانت اكثر تضررًا وفي مهاجر الإيرلنديين، لتذكير مواطنيهم والعالم، بهول الكارثة من جهة ، وللتذكير بمن هبّوا لنجدتهم يوم محنتهم. فالاعمال الحسنة تخلد بالنصب والجداريات. والأهم من ذلك أن تبقى محفورة في ذاكرة الإنسان، تتداولها الأجيال، جيل بعد جيل، ولسان الحال يقول: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴿ 60 ﴾ سورة الرحمن.}. صدق الله العظيم.
الحاشية:
(1) السلطان عبد المجيد بن محمود الثاني. (1823- 1861) وهو السلطان الحادي والثلاثين من السلاطين العثمانيين. تولى الحكم وهو ابن 16 سنة، وحكم قرابة 22 سنة.
(2) اي مايعادل مليون جنيه استرليني في وقتنا الراهن وفق: نيال فين – تركيا إندبندنت – ترجمة وتحرير ترك برس https://www.turkpress.co/node/32205

(3) كتاب ومضات عثمانية لمحمد يوسف العوض ص 135-136. مركز الكتاب الأكاديمي.
(4) التاريخ السري للعلاقات التركية الأرلندية لنيال فين. منشور في ترك برس بتاريخ 20/3/2017م. https://www.turkpress.co/node/12218
(5) لوحة البلدية: تقرير الجزيرة المصور الدقيقة 4.40 https://www.youtube.com/watch?v=2RdMmxrJwKg ، وترك برس (موقع إخباري تركي مستقل ناطق بالعربية)https://www.turkpress.co/node/32205

الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب