أثبتت الجغرافية البشرية ، بأنها هي السلطة التي تحكم الإنسان على كرتنا الأرضية ، فالمكوّن الذي يسود الرقعة الجغرافية من العالم .. هنا وهناك ، يبقى هو العامل الديموغرافي المؤثر في حياة المجتمعات .. كأن يكون قومياً ، أو عرقياً ، أو طائفياً ، أو دينياً . إذ أكدت الحروب الإنسانية الطويلة عبر التاريخ البشري القديم والحديث هذا المعنى ، فلم تجن الأمم من حروبها ومعاركها مع الأمم غير الإنشطارات والخيبات المتلاحقة عاجلاً أم آجلا .. فبالتاريخ البشري الحديث مثلاً ؛ لم تفلح الإتحاد السوفياتي ـ وإن أفلحت رهطاً من الزمن ـ أن تتوحد بإرادة الحديد والنار ، تماماً ؛ شأنها شأن بريطانيا العظمى قبلها ، ويوغسلافيا بعدها . كما لم تفلح معارك الحكومات العراقية مع الكرد في شمال العراق ـ ما حاولتْ بائسة ً ـ .. فالعراقيون قدّموا مواليد الثلاثينات والأربعينات والخمسينات لأجل حسم المسألة الكردية بالقوّة والمعارك ، فلم يجنوا إلا المزيد من القتل والمزيد من العداوات المتجددة ، دون جدوى . فالكرد هم الكرد الكردستانيون .. ما حاولت حكوماتنا أن تطوّعهم معها عربياً .. عراقياً ، إن كانت بدكتاتورية صدّام حسين أو دبلوماسية نوري المالكي .
والحالة هذه ؛ فإننا نرى عراقنا اليوم يعاني من أزمة سيسيولوجية ، لن يتخلص العراق من كوارثها وويلاتها ، مالم يذعن إلى الواقع الديمغرافي التاريخي فيه ، والذي أمسى كالطفل الذي شبَّ على حُبِّ الرضاع .
العراق للعراقيين نعم ؛ لكن لن يكون العراق للشيعة ولن يكون العراق للسنة ولن يكون العراق للكرد أو غيرهم ، إنها حقيقة على أرض الواقع منذ مئات السنين .. فتنة نائمة لعن الله من يوقظها من سباتها ، إلا أن أنها لن ولم تنم طويلا .. ما أوهمتِ الحرباءُ بتعدد ألوانها المنافقة بيئتها ! .
الكرد ؛ الذين كانوا بالأمس بيشمركا في الليل وفرسان لصدّام حسين في النهار .. أبناء الأنبار .. كبيسة والرمادي وحديثة .. أبناء نينوى .. الشركاط والكيارة .. التكارته في صلاح الدين .. السامرائيون .. الدوريون .. ووو ؛ أولئك الذي كانوا بالأمس ضباط في الجيش العراقي الصدّامي العقائدي أو العارفي الذين كانوا يحرقون قرى الكرد في شمال العراق ويهدمون بيوتهم على رؤوسهم .. ضباط الأمن والمخابرات والإستخبارات والأمن الخاص والحرس الجمهوري الذي هدموا وقصفوا مراقد الأئمة الأطهار في كربلاء والنجف وأعدموا علماء الشيعة وشبابهم الواعي الرسالي وعذبوهم في دوائر الأمن ومقرات الشعبة الخامسة .. البعثيون العقائديون الذين كانوا يحتقرون البعثيين الشروك الشيعة الجنوبيين ويتعالون على الشيعة العوجان ، والشيعة يصفقون لرفاقهم ويحمحمون ويتوددون ويهزجون حتى سقوط العقال وفوط الحرائر الماجدات بمدينة صدّام وصدّامية الكرنه .
كل تلكم التناقضات والترهات والتباينات في واقعنا السياسي الجغرافي الطائفي القومي ونريد أن نتوحد بعراق من النور ملء الوهاد !!!؟
السياسات وحدها واللآيدلوجيات لم يثبت التاريخ أنها قد وحّدت الأمم لوحدها ، مالم تكن معززة بالسيف والدكتاتورية ، ولم تثبت حقائق التاريخ أن القبضة الحديدية قادرة على أن تطوّع المجتمعات لنير إرادتها .. إن كانت في حدود الوطن أو كانت على العالم بأسره ، مالم تكن هنالك قناعات مبدئية في عقل المجتمع ، فالعقيدة النازية سقطت على أرض الواقع ، والعقيدة الماركسية سقطت على أرض الواقع ، والعقيدة الإسلامية سقطت على أرض الواقع ، تماماً ؛ مثلما سقطت سلطة الكنيسة على أرض الواقع التاريخي .
لم يستطع الإسلام أن يوحد المسلمين في عموم رقعته الجغرافية ، لهذا ظهرت المذاهب والفرق والنحل والملل في التاريخ الإسلامي ، لهذا ؛ آثر علي (ع) أن يتوجه إلى محاربة الباطل واجتثاث الفساد في المجتمعات الإسلامية على الفتوحات الإسلامية ، عندما لم يرَ ما ينفع ، فما الفائدة من مسلمين غير صالحين ، وما الفائدة من أراض شاسعة في خلافة لا تنضوي أمّتها تحت لواء عقائدي واحد ومصير مشترك ؟! فلم يجد في المدينة المنورة بعد مقتل الخليفة عثمان (رض) ما يستدعي تواجده فيها ، لهذا آثر أن يرتحل إلى الكوفة العاصمة الإسلامية الجديدة ، لعله يفلح بقبس من نور، عندما وجد الواقع الديموغرافي غير المجتمع الجغرافي الذي سيكون قادراً فيه أن يشيّد بناءه العقائدي ، لهذا آثر أرضاً وإنساناً أخراً في المنأى والبعاد عن التضاد .
والحالة هذه أيضا ؛ فنحن نعيش في عراق عربي .. سني ـ شيعي ؛ لن يتفق !
ونحن نعيش في عراق عربي ـ كردي ؛ لن يتفق !
مات من أولادنا في معارك الأربعينات والستينات والسبعينات بشمال العراق ، حتى أصبح الشهيد القادم من أبناء الملحات العراقيات وأزواجهن عادة مألوفة في جنوب العراق ، وما أكثر الجنود المطوّعون من أبناء الجنوب ، إذ كانت الكلية العسكرية والقوة الجوية حكراً على أهل الموصل والرمادي وسامراء وتكريت .. من قبلُ ومن بعدُ !!! لهذا صار أبناء الشيعة ـ عُمّار جنوب العراق السومري ـ وقوداً لإرادات الحكومات وقياداتها العسكرية ، في معارك التحرير بفلسطين التي أرسلت اليوم أكثر من 1400إنتحارياً من غزه ليفجّر نفسه بين أسواق ومآرب وبيوت الشيعة العراقيين .. الشيعة العراقيون الذين مازالت أسماؤهم محفورة على مقابر الشهداء العراقيين بفلسطين منذ عام 1948 ، والشيعة العراقيون الذين لا زالت أسماؤهم محفورة على مقبرة الغرباء في الشام منذ حرب تشرين1973،فيأتي الداعشيون السفيانيون اليوم ليحطموا أهل العراق الشيعة النجباء بإسم الدول الإسلامية في العراق والشام ، فيهجرون ويذبّحون أبناءهم بسخاء الدم البارد والحار ، ولا نعرف لماذا يقتلون شيعة العراق ويسبونهم ويقتّلونهم ويخرجونهم من ديارهم دون سبب ، حتى صار الغازي ربَّ المنزل ، وأمسى ربُّ المنزل على قارعة الطرقات ، في المدارس والقفار ، بلا سكن أو دار، يتصدّق عليه المتصدّقون من بركات شهر رمضان الكريم !!!؟
لا حل لنا نحن العراقيين غير الإنقسام .. دون إتحادات .. دون فدراليات .. دون كونتفدراليات ؛ إنشطار و إنقسام على أساس الجغرافية البشرية .. دويلة للكرد .. دويلة للسنة .. دويلة للشيعة !!!
ولن تنجح الدويلة الكردية في شمال العراق ؛ مالم تنجح الدويلات الكردية في تركيا وإيران والشام ، ولن تدوم الدويلة السنيّة طويلاً بعد إنهيار المملكة الوهابية السعودية في نجد والحجاز ، ولن تدوم الدويلة الشيعية طويلاً بعد سقوط حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران !!!
وليحترقْ من شاء أنْ يحترق في أتون غيّه وانتماءاته !
ومهما يكن من أمر؛ فالواقع المأساوي المرير يحتم الخضوع إلى إرادته التي يجب أن تكون في العراق ، فالعراقيون المستبسلون لأجل إخراج داعش من نينوى ومن الأنبار ومن ديالى ومن صلاح الدين ، وهي كلها مناطق سنية على الأغلب ، ماذا سيجنون من تحرير وعتق بقرة لا تعطي ضرعها إلى لأعداء العملية السياسية المجتمعين بعمّان ؟!!! فلينقسموا حتى يلد العراق أجيالاً غيرنا !
والله من وراء القصد ؛؛؛