سأبتعد في مقالي اليوم عما اعتدت الخوض في لج بحره، رغم أني سأدور حوله بالمركب ذاته، إذ لامناص لي من البقاء على سطحه، مادمت مبحرا مع باقي العراقيين في بحر يمتد أفقه ما امتدت نواظرنا، ولا يلوح لنا من بر الأمان جرف يؤملنا أن كل من سار على الدرب وصل، فعلى مايبدو أنه أبعد من آمالنا وأمنياتنا، أو هو كما قال الشاعر الراحل ذياب گزار: “أمشي واگول وصلت والگنطره بعيده”.
الآتي من سطور.. ليس درسا في اللغة العربية، لكنني أعرج فيه على موضوع أراه يمس وحدة عراقنا وقومياته وناسه الذين عاشوا على أرضه منذ بضعة آلاف من السنين، حيث أجدادنا في أولى حضاراتهم.
يقول ذوو الاختصاص ان هناك على مر التاريخ أكثر من 4000 لغة تكلم بها سكان الأرض. منها لغات انقرضت ومنها مازالت حية، وكل منها لها أحرفها وطرائق لفظها وكتابتها التي تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا. وكما تفتخر الشعوب بحضارتها وبأرضها وثرواتها، يفتخرون أيضا بلغتهم ولهجتهم، ويعدونها رمزا لوجودهم وكيانهم، ويدافعون عنها ويثأرون لها ان تعرض لها غريب، أو شان بها قريب. لغتنا العربية، اللغة الام لجميع اللغات التي قال فيها الشاعر أحمد شوقي:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا
جعل الجمال وسره في الضاد
هي لغة لها ميزات عن باقي اللغات، فهي لغة القرآن التي اختارها الله لينزل بها آخر كتبه، وكما قال الشاعر حافظ ابراهيم على لسان حال اللغة العربية:
وسـعتُ كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعِظات
تعد اللغة العربية الوحيدة التي مر عليها اكثر من ألف عام من دون ان يطرأ عليها تغيير كبير. وهي اللغة الوحيدة التي يدخل الإعراب جميع كلماتها ( فعل واسم وحرف). ومن اهم مزاياها هو ضبط الكلمة بالشكل من ضم وفتح وكسر وسكون، فكلمة علم مثلاً، المتكونة من ثلاثة حروف، يمكن أن تُقرأ بأوجه سبعة حسب تشكيلها كالآتي؛ (عَلِم، عُلِم، عَلَّم، عُلِّم، عَلِّمْ، عِلْم، عَلَمْ).. وهناك أمثلة كثيرة غير هذه المفردة ، فلغتنا العربية كبستان فيه من الصنوف أطيبها، ومن الأنواع أندرها، ومن الثمار أينعها وأكثرها نضرة.
اليوم في عراقنا المنطلق من مفاهيم الديمقراطية يظن البعض انه تحرر من أعراف وقيم، هي في حقيقة الأمر تشكل كيانا أساسا لوجوده، وليست طقسا دخيلا على ماضيه، او ممارسة حاضرة اقتحمت حياة شعبه ويريد التحرر منها. إذ أرى ان أشخاصا يشغلون مراكز قيادية في إقليم كردستان العراق، هذا الإقليم المتمثل والمحصور في محافظات ثلاث لارابع لها -أمس واليوم وغدا- يصرون على أن يقحموا مفردات باللغة الكردية الى لغتنا العربية، فيضمنونها في كتبهم الرسمية والمخاطبات المتداولة بين مؤسسات الإقليم من جهة، ودوائر الحكومة المركزية من جهة أخرى.
فمعلوم أن اللغة الكردية تخلو من الحركات الإعرابية، لذا فقد تم العوض عنها بما يقابلها من حروف أساسية، فالضمة يقابلها حرف الواو، والفتحة يقابلها حرف الهاء المدورة، وللكسرة حرف الياء، فكلمة كُرد تكتب عند الأكراد (كورد)، وكلمة عِراق تكتب (عيراق). وهم يكتبونها بطريقتهم هذه ولا حرج عليهم بهذا. لكن من غير اللائق أن يجبروا مؤسساتنا على الكتابة بقواعد اللغة الكردية، مادمنا نكتب عربيتنا بكنوزها الزاخرة وبجمالها الأخاذ ورشاقتها الخلابة. ومادام لدينا في لغتنا التشكيل والحركات، ولدينا علامات الرفع والنصب والجر والسكون، وبهذي وتلك وهذا تتهيأ لنا مخارج الحروف السليمة، فلِمَ نكتب سواها؟ ولِمَ نستعين بالبديل بوجود الأصيل؟ أما لو شاء الظرف ان نكتب باللغة الكردية لكتبنا كما يكتبون، وكذلك الانگليزية والهندية وحتى.. الهيروغليفية والسنسكريتية.