قبل أكثر من عشرة أشهر رسمت لي الاقدار زيارة مفاجئة لأرض السعودية، وتحديدا مدينة مكة التي كانت مستقرا لرحلة استمرت أكثر من 30 يوما، تزامنت احدى لياليها مع تنصيب محمد بن سلمان وليا للعهد، فسواد تلك الليلة مازال في مخيلتي لكونها الـ27 من رمضان، والتي مِن “المفترض” ان تكون ليلة القدر، ولقرب مكان اقامتي من قصر “الصفا” الذي جرت بداخله المراسيم الملكية، التي غيرت خارطة نظام ال سعود لأول مرة منذ وصولهم للسلطة مطلع القرن العشرين.
تذكرت اجواء ماحصل في تلك الليلة بسبب “الشد والجذب” الذي نعيشه منذ ايام عدة ردًا على أنباء الزيارة المرتقبة لولي العهد الى بغداد، ونيته لقاء المراجع الدينية في محافظة النجف لايصال صورة عن التغيير الذي تشهده السعودية على جميع المستويات، سواء داخليا او في العلاقات الخارجية، فالتحول كان واضحا منذ اول يوم “لبيعة” الامير الشاب بعد انتشار صوره الى جانب والده الملك في جميع شوارع مكة، وواجهات الفنادق والمؤسسات الحكومية، بدلا عن صور ولي العهد السابق محمد بن نايف، ولا أخفيكم سرا كان الشارع السعودي في حينها “متوجسا” من هذا التحول “المفاجئ”، وطريقة ازاحة بن نايف، وهو ماكان واضحا في الأحاديث التي كانت تدور بين المواطنين وما سمعته من بعض المسؤولين في مكان اقامتي.
إرادة التغيير التي طرحها بن سلمان تركت اثارها خارج حدود المملكة وخاصة لدى الجارة التي عانت الكثير بسبب سياسات ال سعود، فهي لم تناسب جميع العراقيين مسؤولين ومواطنين على حد سواء، لعوامل عدة ابرزها مواقف الرياض من العملية السياسية بعد العام 2003، وتورطها بشكل مباشر بدعم “المجاميع الإرهابية المتطرفة” بمسمياتها كافة من قاعدة الجهاد وصولا الى تنظيم (داعش)، وهو ماجعل رفض الزيارة ياخذ مداه الواسع على الرغم من استباقها بمباراة لكرة القدم “كسرت القليل من الجمود” في العلاقة بين البلدين.
هنا قد يعترض البعض ويصفنا اخرون بالازدواجية من خلال “التصفيق” لاستضافة المنتخب السعودي ورفض الزيارة المرتقبة، الاجابة واضحة، فالمباراة كانت رياضية لرفع الحظر المفروض ظلماً على ملاعبنا، وليس لها اية ارتباطات بالشأن السياسي، على الرغم مما رافقها من تهويل إعلامي، لكن زيارة مسؤول رفيع بحجم محمد بن سلمان لن تفسر بعيدا عن سياسة المحاور ورغبة الرياض بسحب العراق حكومةً وشعبا الى جانبها “ليس حبا بعلي انما بغضا بمعاوية”.
جميع تلك الاراء والخلافات بشأن الزيارة “المثيرة للجدل” تعود إلى النظر لها من زاويتين الاولى شعبية، والثانية رسمية حكومية تمثل السياسة التي لا تعترف بالثوابت، فعدو الامس من الممكن أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى صديق مقرب، وهو ما جسده موقف القيادي في تحالف “النصر” جاسم محمد جعفر حينما خرج علينا، مدافعا عن زيارة بن سلمان بالقول، إن “الانتقاد الشديد لزيارة ولي العهد السعودي للعراق لا يخدمنا”، وزاد أن “لكل محور أهله، فهناك من يرى ان زيارة ولي العهد السعودي تأتي ضد محوره!.
حديث النائب المقرب من رئيس الوزراء حيدر العبادي يطرح العديد من التساؤلات عن الضمانات التي منحتها السعودية او التي من الممكن الحصول عليها لمنع تكرار ماحصل خلال السنوات الماضية من دعم للارهاب او فتاوى التكفير “للشيعة” وجميع من يساند الاعتدال ويدافع عن دماء بقية الاديان، وعن مدى إيمان حكومتنا “الرشيدة” بسياسة المحاور.
الخلاصة.. إن الرفض لزيارة محمد بن سلمان، لا يعني الوقوف بالضد من سياسة الانفتاح على السعودية، على العكس فالجميع يرغب بتجاوز المرحلة السابقة وبناء علاقات رصينة مع دول المنطقة من دون استثناء، شريطة ضمان مصلحة العراق وعدم احتسابه ضمن سياسة المحاور لاستهداف طرف على حساب اخر، اخيرا، رفض الزيارة لا يحتاج “لقرع” طبول الحرب بقدر ما يتطلب طرقا دبلوماسية، تجبر حكام السعودية على اعادة حساباتها والاعتذار عن اخطاء الماضي، قبل اعلان ترحيبنا بولي العهد.