ان الرؤية الحالية للعالم يتمثل فيها التنافس بين الامم . فكل منها تتطلع لتبوء موقعاً يضمن لها الهيبة ، لتستطيع من خلاله ديمومة استمرار بقائها ونموها . ويتجسد هذا بهيبة حكومة أي أمة . والتي مصدرها حكمتها في نهج السلوك القيادي الذي يتمثل فيه تعزيز مصادر القوة ومواجهة عوامل الضعف فيها ، واستغلال الفرص وتقويض التهديدات التي تواجهها .حكومة تنظر الى الامام وتتحرك الى الاعلى بحسابات دقيقة ونفس هادئة واثقة ورغبة في الانجاز. تحكم كل شئ من خلال التشخيص الدقيق للمشاكل سواء الادارية أوالخدمية أو الانتاجية أو الانسانية وتوضيحها وجمع البيانات والحقائق وتحليلها والتنبؤ باثارها المحتملة والتعرف على العوائق الجوهرية والعمل على معالجتها بكفاءتها وقدرتها باعتبارها المؤتمنة على المصلحة العامة . وتوجيه دفة مسيرة مؤسسات الدولة نحو تحقيق الاهداف الممثلة لتلك المصلحة . اضافة الى احترام التخصص والتعاون من خلال النظام الذي تدعمه القوانين . والعمل على التأثير في سلوك افراد المجتمع وجعلهم يتقبلونها لاحساسهم بأن حياتهم اصبحت أكثر اشراقا وامانا وتماسكا واستقرارا . فيلتفون حولها لاعجابهم باسلوبها مما يخلق لديهم حالة الاستعداد لتنفيذ اوامرها برغبتهم وارادتهم ، لرؤيتهم بانها حكومة متزنة ومثابرة ومتعقلة وانها جديرة بالثقة لتكسب قلوبهم وعقولهم بقوة سلطة التأثير بها كحكومة وليس بتأثير مناصب أو صفة لاحقة بها . مما يخلق لديهم الشعور بالسمو الذي يجعلهم يرتبطون معها بعلاقات شبكية تربط مصالحهم بمصلحة أعضاء الحكومة الشخصية والمؤسسية ، مما يؤدي الى توجيه النشاط لجهود بشرية أو تعاونية رشيدة لانجاز الاهداف التي يتطلع اليها الجميع . وهكذا اكتسبت هذه الامم من خلال حكوماتها موقعا لها يجعل الاخرين يفكرون كثيراً قبل ان يضعوها كبش فداء لفوزهم . أو لن يفكروا نهائيا في ان يقحموها في لعبة لا ترتضي هي أن تحدد موقعها أودورها فيها .
وهناك امم جعلت من نفسها كبش فداء لتحقيق مصالح أو فوز أمم اخرى ومنها ( نحن ) من خلال حكومة انبثقت عن نظام المحاصصة ( الاسلاب ). كل طرف فيها يتصرف ويغير سلوكه وفقاً لمصلحته . كما تتجسد في هذه الحكومة السياسة العبثية وغير العقلانية التي تؤدي الى الهدم أثر الرعونة والحماقة لتحقيق الطموح المتعجرف باستخدام الافكار المنمطة ، وباساليب الحرب النفسية أو حتى غسيل الدماغ . ومخاطبة ركن اللاوعي لدى افراد المجتمع ، ومن ثم التأثير على العلاقات العامة والانسانية . ليتفكك ماضي الامة بأثارة الغرائز الباطنة في النسيج الاجتماعي من قومية وطائفية وعشائرية وحتى مناطقية . وتبعثر الحاضر اثر ارتداء السياسين أو التابعين لهم كل اقنعة النفاق ، فبأمكان أي منهم ارتداء القناع المناسب للحدث المناسب . واصبح التعامل بالاوهام والاحلام والاهتمام بالذات على حساب المصلحة العامة ، والتحدث عن النموذج والشفافية والمثل بدون البدأ بانفسهم . وانعدمت من خلال هذا النفاق مصداقية الكلمة لينعدم على اثرها القدرة على الاقناع بوجود مستقبل بل والقلق منه . لقد افتقدت الحكومة الحالية الى الوقار ، الذي افقدها الهيبة بين حكومات الامم ، سواء من خلال العلاقة القلقة والمرتبكة والمشوشة بين الاطرا ف المشتركة فيها ، أو مع المجتمع الذي يتمثل عملها من خلاله . أن الافتقار الى الوقار أدى الى تفكيك واضطراب وتفتيت وتأزيم وعرقلة جهود التقدم والارتقاء بمؤسسات الدولة نحو الابداع . لان المؤسسات لا تصون نفسها الا من خلال وجود الوقار للقيادات الفاعلة ، لكي تنهض بالاعباء والاعمال التي من شأنها تحقيق المصلحة العامة والمؤتمنة عليها . وتمثل في هذه الحكومة التعامل مع الامور على اساس الولاء السياسي وليس الكفاءة من خلال استلام مسؤلية المؤسسات شخصيات غير كفوءة أو منخفضة الكفاءة . تعتمد على الاحساس الزائف بالامان والرضا عن الذات ورفض أو انكار ما لا يريدون سماعه . لتعم مؤسسات الدولة البيروقراطية السلبية وما يتمثل فيها من روتين وانخفاض للانتاجية وقلة الخدمات واالبطالة االمقنعة . وتحطبم معنويات الموظفين باستخدام أكثر من وسيلة وبتنوع الاساليب النفسية التي تستهدف عقولهم ، وفقا لخطط مسبقة لجماعات ضغط تهدف لتغيير سلوكهم وفقاً للولاء السياسي لتلك االجماعات . مما جعلهم يشعرون بالوضاعة والمهانة ، وتفكك الوعي الاداري المتماسك اينما وجد . ليصل حد اعتبار الموظفين في قبضة هذه الجماعات ، مما افقدهم الشعور بالامان الوظيفي لانهم اصبحوا غير ضامنين لما يمكن ان يحصل لهم في أي وقت . ومن يستطيع أن يقول شيئاً ، أو يفعل شيئأً ؟
لينسحق الانسان ( الموظف ) ، ضمن هفوات السياسة .
لهذا اصبحنا جنود في رقعة شطرنج لعبة الامم .
ولهذا تجسد فينا قول الشاعر العراقي احمد مطر :-
حَلَبَ البقال ضَرْعَ البقرةْ
مَلأَ السطلَ ….وأعطاها الثمنْ
قَبٌلَتْ ما في يديها شاكرةْ
لم تَكنْ قد أكلتْ منذُ زمن ْ
قَصَدَتْ دُ كانَهْ
مَدَتْ يَدَيْها بالذي كان لديها….
وأشتَرَتْ كوبَ لَبنْ !