يحكى ان عمرا كان يشغل وظيفة هامة وكان مثابرا على اداء عمله، وقد تميز بالصفات التالية: حبه للبحث والتفكير والتأمل الذهني، تقبله للنقد البناء وسعيه الدائم لتحسين وتطوير عمله. كما كانت لديه قناعات أساسية مبنية على الحقائق والبراهين كما يراها. ولوحظ انه يتمتع بالحصانة ضد الاحباط ويستمر بمتابعة الانجازات الجدية بالرغم من انتقاد ومعارضة الاخرين، كما أنه لا يهتم كثيرا بالرسميات الاستعراضية والتنظيمية، ويلهث مثابرا وراء أفكاره حتى يتمكن من تنفيذها. ولكن بالرغم من جديته الظاهرة، الا أنه يحب المواقف الكوميدية ويتمتع بروح مرحة، كما أنه يتجنب معارضة المتنفذين خوفا من بطشهم، وان كان يبدي أحيانا حماسا للمشروعات و للأفكار الصائبة، وقادرا على وضع الخطط ومتابعتها مع مراعاة الواقعية ودرجة التعقيد.
وقد قام مجبرا بتغيير مساره وأسلوب عمله عندما اقتضت الضرورة. ثم تبين فيما بعد أنه ليس ماهرا في العلاقات الانسانية الواقعية، ولا يتمتع
بشخصية جذابة اجتماعيا، وان كان يتمتع بدرجة مقبولة من الذكاء العاطفي الحقيقي، والأسوأ انه كان يميل للاستقلال والعزلة احيانا، منجذبا للحقائق كما ينجذب المسمار للمغناطيس! وفجأة تفاقم وضعه الوظيفي، فكثرت عليه الشكاوي والتعليقات، نظرا لضعفه في النفاق والمجاملة، ولعدم مراعاته للمحسوبية والواسطة، ولعدم انضمامه لأية شلة متنفذة!
وهكذا فشل في اداء مهماته، وقررت اللجنة العليا الاستغناء عن خدماته، بعد أن عرضت عليه منصبا متواضعا رفضه فورا. وطلبت اللجنة الموقرة من زيد ” المستعد فور” لاستلام العمل بلا أدنى تأخير، فنجح هذا الأخير نجاحا باهرا، وانتشرت شهرته في الأوساط الوظيفية القيادية، فهو دوما ضاحك الوجه او مبتسم، يظهرغير ما يبطن، سلس المعاملة لا يرفض طلبا، “غير معقد” بالمفهوم الشعبي الدارج، يتقن المجاملة والنفاق لأبعد االحدود، يهتم كثيرا بالمحسوبية ويضع وزنا للشللية! كما أنه يراعي كثيرا متطلبات المتنفذين ويضعها في سلم الأولويات، لذا فقد قبل فورا فكرة التعاون “التقني- الفني” مع مصنع “العدو” الذي كان عمرو يرفضها باصرار ويعتبره نوعا من “التطبيع القسري”، حيث تبين لزيد أن “عمرو الخبيث” كان يتلف “مراسلات العدو” خلسة لكي يتجنب أية علاقة مشبوهة، ثم كوفىء زيد مع مهندسين كبيرين آخرين على تعاونه التقني السافر، وقبلوا دعوة لزيارة “فلسطين المحتلة” تضمنت زيارة مصنع يقع في “مدينة اللد المحتلة”، ومن ثم وضع اكليل من الزهور على ضريح “مجرم حرب شهير”! هكذا قررت اللجنة العليا المبجلة رصد صفاته المميزة واعتمادها كمرجع قياسي، وكمعيار للنجاح “الوظيفي” الباهر في اداء العمل وتطبيق التعليمات، وتوصلت بعد معاينة “مجهرية ” للمزايا التالية: متشكك لدرجة السخرية وان كان لا يظهر ذلك، يستمتع بنقد الآخرين بهدف السخرية منهم والتقليل من شأنهم، يسعى لجذب الانتباه باي طريقة، ولا يخجل من السطو على أفكارالآخرين! عنيد ويشعر كثيرا بالاحباط بسهولة عندما لا يحقق مراده، ولكنه ماهر في اخفاء انفعالاته واحباطاته، يهتم
كثيرا بالاستعراض والرسميات، غير قادرعلى تجميع افكاره حيث يقفز من فكرة لاخرى! متزمت في حقيقته، ويصطنع السخرية اللاذعة للاساءة للآخرين! غير ديموقراطي باسلوب ادارته، ويعتبر أية معارضة لأفكاره تحديا شخصيا له لتبريرالانتقام، يحب دائما البقاء في دائرة الضوء، لافتا الانتباه لأعماله ومنجزاته المحدودة، وساعيا للشهرة المزيفة بالرغم من محدودية ذكائه وضعف قدراته اللغوية، وهو مستعد دوما لتغيير مساره ونهج تفكيره لركوب الموجة وتمييز نفسه وقدراته!
ثم ثبت أنه ماهر دوما في العلاقات الانسانية الظاهرة، ويعرف تماما كيف يستغل علاقاته لدعم مركزه وتعزيز انجازته، كما أنه يفضل الموظفين المتزلفين ومحدودي القدرة! ثم تغيرت الادارة، وجاءت ادارة جديدة تحكمها روح التغيير، فقررت فتح الملفات ودراسة أسباب الفساد المستشري في المؤسسة، فشكلت لجنة مصغرة لدراسة الأسباب التي أدت لنجاح زيد وفشل عمرو، ولتقصي أسباب “السمعة الحسنة” لعمرو والتي بقيت منتشرة في اوساط الموظفين البسطاء والمخلصين، وقامت اللجنة بالاستقصاء والتقصي ودراسة كافة الملفات والمشاريع، ومقابلة عدد كبيرمن العاملين، ثم احتدت المناقشات وساد الجدال، وتباينت الأراء، وأخيرا وبعد طول انتظار، وبعد أشهر من البحث والتقصي، ظهرت النتائج “الموضوعية”، حيث تم تلخيصها على النحو التالي: ” لقد كان عمرو مبتكرا وجديا وفاعلا ومبدعا ونزيها وطنيا، فيما تبين أن زيدا كان مدعيا ومتظاهرا ومنافقا ومتزلفا وفاسدا”!!…ثم نصحت اللجنة الادارة الجديدة بالتحفط والمحافظة على سرية النتائج!