كثيرًا ما يتساءل غير الشيعة، وربما بعض المتابعين من خارج الوسط الإسلامي عن السرّ وراء البكاء المتجدد، والمواكب، والمجالس التي يقيمها الشيعة حول العالم كل عام في ذكرى عاشوراء.
لماذا هذا الإصرار الشيعي على الحزن؟ ولماذا لا يترك الشيعة قصة عاشوراء وما جرى في كربلاء بعد كل هذه القرون الطويلة؟
الحقيقة أن البكاء على الإمام الحسين عليه السلام ليس مجرّد طقس عاطفي أو عادة متوارثة، بل هو تعبير عن التزام عقدي وولاء شرعي، متجذّر في صلب الإيمان الشيعي.
نحن نؤمن أن حب آل بيت النبي “ص” فريضة إلهية، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ﴾ [الشورى: 23].
ومن هنا فإن البكاء على مصابهم، لا سيما مصاب الامامالحسين، هو طاعة قبل أن يكون تعبيرًا وجدانيًا.
إننا نبكي الحسين لأننا نؤمن أن ثورته كانت من أجل الدين والكرامة والعدالة والحياة العزيزة، وأن الأمة بفقده فرّطت بفرصة تاريخية لبناء نظام قيمي عادل.
وما جرى في عاشوراء لم يكن حدثًا عابرًا، بل شكّل منذ لحظة وقوعه علامة فارقة بين الحق والباطل في كل زمان. ولهذا، فإن تمسّك الشيعة بإحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين عليه السلام ليس تمسّكًا بالتاريخ، بل تجديدٌ دائم لبوصلة التمييز بين ما هو حق وما هو باطل.
فعندما تشتبه المفاهيم ويتقنّع الباطل بقناع الصلاح، تبقى كربلاء هي المعيار الذي يُعيد الناس إلى وعيهم الأخلاقي، ويمنع تمييع المبادئ أو خداع الجماهير بالشعارات المزيفة.
إن كربلاء لم تكن مجرد حادثة استشهاد مأساوي، بل كانت لحظة فارقة في التاريخ الإسلامي، تمخّض عنها ميزان أبدي بين الحق والباطل.
الإمام الحسين عليه السلام، حين خرج في وجه يزيد، لم يكن يطلب سلطة أو مكسبًا دنيويًا، بل جسّد أرقى صور الفداء في سبيل المبدأ: أن لا يُباع الدين في سوق السياسة، وأن لا يُهادَن الفساد مهما كان الثمن.
ومن هنا، فإن إحياء الشيعة لذكرى عاشوراء كل عام ليس مجرّد استرجاع تاريخي، بل تأكيد متكرر بأن كربلاء لا تزال حاضرة بمعناها ومعيارها.
فعاشوراء تذكّرنا في كل زمن أن هناك حقًا ينبغي نصرته، وباطلاً لا يجوز التعايش معه، وأن الصمت عن الظلم هو خيانة لله والتاريخ.
إن هذه الذكرى تصون وعي الأمة من الضياع، وتمنحها القدرة على التمييز في أزمنة التباس المعايير. ومن لم تكن له كربلاء، تضيع عليه بوصلته حين يُجمّل الباطل، أو حين يُشوَّه وجه الحقيقة بآلة الإعلام والدعاية.