23 ديسمبر، 2024 1:12 م

لماذا منع الشهيد محمد الصدر العمل بطريق الإحتياط؟

لماذا منع الشهيد محمد الصدر العمل بطريق الإحتياط؟

الشيء الملفت لإنتباه القارئ اللبيب الدقة التي يتميّز بها السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) بمعنى أنه لا يترك حرفاً إلا وأخضعه للنقد والتمحيص.. وعندما يتميّز عالمٌ بالدقة فهذا يعني دقة الدقة لأن العلماء المجتهدين يمتازون بالدقة والسيد الشهيد محمد الصدر(قدس) منهم بل وأعلمهم ولكن إن يتميّز المجتهد بالدقة فهي دقة من سنخٍ آخر..

وأودُ أن أعرض مثالاً على هذه الدقة فيه فائدةٌ للقارئ الكريم وفي نفس الوقت فيه دفاعٌ عن الشهيد محمد الصدر(قدس) لأنه دفع ضريبة علمه ودقته العالية بحيث أصبح هدفاً للحُسّاد والحاقدين وأنتج هذا الحقد البغيض أفعالاً وأقوالاً ظالمة من أجل صدّ الناس عن هُدى محمد الصدر(قدس سره) ونحن تعوّدنا منهم بأن يضعوا مقابل كل إبداع يصدر من الشهيد الصدر مجموعة من الأكاذيب التي أوحى بها الشيطان الى نفوسهم المريضة وحسبنا الله ونعم الوكيل..

وخيرُ مثالٍ على الإلتفاتاتِ والدقةِ المنقطعةِ النظير للشهيد محمد الصدر(قدس) فتواه بترك العمل بطريق الإحتياط حيث جاء ما نصه في رسالته العملية منهج الصالحين الجزء الأول كتاب الإجتهاد والتقليد:

((“مسألة 3″ الأحوط ترك طريق الإحتياط في عموم المسائل والإختصاص بطريقي الإجتهاد والتقليد لكن الإحتياط في بعض المسائل جائز سواء إقتضى التكرار أم لا لكن يلزم المكلف معرفة ما هو الأحوط شرعاً)).

وأحاول تسليط الضوء على هذه المسألة التي قلما تعرض لها أساتذة الفقه بشيء من الدقة والإستيعاب وكثيراً ما يخطأ البعض منهم في شرحها بالرغم من أن السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) تعرّض لهذه المسألة في الجزء الأول من موسوعة ما وراء الفقه..

وسوف ألتزمُ بشرحها على ضوء شرح السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) حتى يكون الشرحُ أكثرَ بياناً وأقوى حجة وعلى الله التوكل.

ما هو طريق الإحتياط؟

ليس كل إحتياط يمثل طريق الإحتياط فإن للإحتياط صوراً عديدة وسوف يأتي تعداد هذه الصور التي تصل الى ستة عشر صورة كما صرّح بذلك السيد محمد الصدر(قدس) في الجزء الأول القسم الأول من كتاب ما وراء الفقه وأفضل جواب لهذا السؤال ما ذكره السيد محمد الصدر(قدس) في ما وراء الفقه حيث قال ما نصه ((هو في الإصطلاح إيجاد العمل أو التطبيق الذي ينتج اليقين بفراغ الذمة والخروج عن العُهدة)) انتهى.

وقد أفتى به الفقهاء كطريقٍ بديلٍ عن طريقي الإجتهادِ والتقليدِ..

إن طرقَ إمتثال المكلف لأحكامِ الشريعةِ هي ثلاثةُ طرق:

1.طريق الإجتهاد.

2.طريق التقليد.

3.طريق الإحتياط.

ومن خلال تعريف طريق الإحتياط يتضح أنه لا يمثل أي إحتياط بل هو حالة خاصة من الإحتياط..

وحيث أن التعريف لابد أن يكون جامعاً مانعاً فقد قام السيد الشهيد محمد الصدر (قدس) بإستعراض المحتملات ومن ثم وعلى ضوء التعريف حدد طريق الإحتياط (الذي يقصده الفقهاء من خلال تعاريفهم) ولمزيد من الفائدة أنقل لكم تعريف المحقق الخوئي(قدس) لطريق الإحتياط حيث قال في المسائل المنتخبة ما نصه ((هو العمل الذي يُتيقن معه ببراءة الذمة من الواقعِ المجهولِ)) انتهى.

إن الملفتَ للإنتباهِ أن الإحتياط منتجٌ لليقينِ يعني طريق الإحتياط وليس غيره من صور الإحتياط التي سيأتي إستعراضها..

إن أي صورة من صور الإحتياط لابد أن نلحظ فيها أربعة أمور:

الأمر الأول:

الإحتياط إما أن يكون كلياً(تاماً) أو جزئياً (غير تام) ((المراد من الإحتياط الكلي هو الإحتياط المستوعب لكل الإحتمالات الواردة في محل الإبتلاء قلة أو كثرة)) المصدر” ما وراء الفقه الجزء الأول القسم الأول فصل في الإحتياط السيد محمد الصدر”

وهذا الشكل موجب لليقين بفراغ الذمة….

و(( المراد من الإحتياط الجزئي, هو الإحتياط المقتصرعلى بعض الإحتمالات دون بعض, كما لو كانت هي الأهم أو هي التي قامت عليها الحجة أو نحو ذلك, وهذا الشكل لا ينتج اليقين بالفراغ, بال الظن به)) انتهى نفس المصدر السابق.

وعلى ضوء تعريف الإحتياط الذي يكون بديلاً عن الإجتهاد والتقليد يكون الشكل الأول يعني الإحتياط الكلي (التام).

الأمر الثاني:

الإحتياط إما أن يكون في كل الأحكام أو يكون في بعض الأحكام.

وللتوضيح إما أن يكون الإحتياط في جميع أبواب الفقه أو يكون في بعض الأبواب وعلى ضوء التعريف وحيث أن طريق الإحتياط هو طريق ثالث ومستقل عن طريقي الإجتهاد والتقليد فلابد أن يكون في كل الأحكام.

الأمر الثالث:

الإحتياط إما أن يكون في الأحكام الواقعية أو أن يكون في الأحكام التي قامت عليها الحجة وحيث أن طريق الإحتياط مستقل عن طريق الإجتهاد وطبقاً لتعريف الأعلام المحققين لطريق الإحتياط فإنه لابد أن يكون في الأحكام الواقعية لكي يكون منتجاً لليقين..

وبطبيعة الحال فإن الواقع يشمل الأحكام التي ثبتت بالحجة الشرعية(يعني بطريق الإجتهاد) والأحكام التي تكون رواياتها غير معتبرة أو تكون بعض أوجه دلالتها لم تقم عليها الحجة الشرعية..

فعلى سبيل المثال إن الذي يسلك طريق الإحتياط ليس له العمل بالأصول العملية كالبراءة وإستصحاب إصالة الطهارة لأنها حجة ولكنها لا تنتج اليقين!!!!..

الأمر الرابع:

إن الإحتياط إما أن يقتضي التكرار أو لا يقتضي التكرار..

والإحتياط الذي يقتضي التكرار المراد منه هو ما قد يتطلب تكرار العمل كما هو الحال في متحير القبلة فإن الإحتياط هنا يقتضي الصلاة الى جهات متعددة..

أما الاحتياط الذي لا يقتضي التكرار فهو إما أن يقتضي الترك كما لو كان أحد المحتملات الحرمة..

أو يقتضي الفعل كما لو كان أحد المحتملات الوجوب..

وإن طريق الإحتياط قد يقتضي التكرار وقد لا يقتضي التكرار..

وقد قلنا في بداية الكلام ان السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) قال بإن هناك ستة عشر إحتمال وصورة للإحتياط تختلف كل صورة عن أختها…. حيث قال في نفس المصدر ما نصه((فالحاصل ستة عشر إحتمالاً, ناشئاً 2 أس 4 يعني مضروبة في نفسها أربع مرات)) انتهى.

ولكي تعم الفائدة للقارئ الكريم يمكن تفصيل هذه الإحتمالات الستة عشر الى:

1.إحتياط كلي في جميع الأحكام الواقعية يقتضي التكرار.

2.إحتياط جزئي في جميع الأحكام الواقعية يقتضي التكرار.

3.إحتياط كلي في بعض الأحكام الواقعية يقتضي التكرار.

4.إحتياط جزئي في بعض الأحكام الواقعية يقتضي التكرار.

5.إحتياط كلي في جميع الأحكام الحجة يقتضي التكرار.

6.إحتياط جزئي في جميع الأحكام الحجة يقتضي التكرار.

7.إحتياط كلي في بعض الأحكام الحجة يقتضي التكرار.

8.إحتياط جزئي في بعض الأحكام الحجة يقتضي التكرار.

9.إحتياط كلي في جميع الأحكام الواقعية لا يقتضي التكرار.

10.إحتياط جزئي في جميع الأحكام الواقعية لا يقتضي التكرار.

11.إحتياط كلي في بعض الأحكام الواقعية لا يقتضي التكرار.

12.إحتياط جزئي في بعض الأحكام الواقعية لا يقتضي التكرار.

13.إحتياط كلي في جميع الأحكام الحجة لا يقتضي التكرار.

14.إحتياط جزئي في جميع الأحكام الحجة لا يقتضي التكرار.

15.إحتياط كلي في بعض الأحكام الحجة لا يقتضي التكرار.

16.إحتياط جزئي في بعض الأحكام الحجة لا يقتضي التكرار.

إن طريق الإحتياط الذي أفتى بجوازه مجموعة من الفقهاء كطريق بديل عن طريق الإجتهاد والتقليد وهو فقط في الإحتمال الأول والإحتمال التاسع.

يعني طريق الإحتياط هو إحتياط كلي في جميع الأحكام الواقعية سواء إقتضى التكرار أم لم يقتضِ التكرار ..

أما الإحتمالات الأربعة عشر فهي لا تمثل طريق الإحتياط وإن كانت هي مصاديق للإحتياط وهذا هو المراد من قولنا إن طريق الإحتياط هو ليس كل إحتياط بل هو حالة خاصة من الإحتياط… نعم هناك صورتان وإحتمالان منتجان لليقين هما الإحتمال الثالث والإحتمال الحادي عشر(يعني الإحتياط الكلي في بعض الأحكام الواقعية سواء أقتضى التكرار أم لا)!!!!

وسوف يأتي الحديث عنهما في مستقبل البحث لأنهما يمثلان طريق الإحتياط في بعض المسائل والأحكام الواقعية…

ويمكن القول أن بين الإحتياط وطريق الإحتياط نسبة عموم وخصوص مطلق… وعلى ضوء ما تقدّم هل من الممكن العمل بطريق الإحتياط أم أنه في أحيانٍ كثيرةٍ متعذرٍ ومستحيلٍ؟

وجواباً عن هذا السؤال أترك الحديث للسيد محمد الصدر(قدس) حيث قال في نفس المصدر ما نصه:

(( وأوسع أنواع الإحتياط هو التام في كل الأحكام الواقعية, فكلما عنَّ للفرد تكليف أخذ بأحوط الإحتمالات فيه وهذا هو الذي جعله الفقهاء بديلاً عن الإجتهاد والتقليد وقالوا بصحته كطريق ثالث, بصفته موجباً لليقين بفراغ الذمة.

إلا إن هذا غير صحيح, لأنه يواجه عدة إشكالات نذكر أهمها:

أولاً: قد يكون الإحتياط مستحيلاً أو متعذراً, كما في الشك في ركعات الصلاة, فإن الصلاة المشكوكة يكون قطعها مخالفاً للإحتياط كما إن الإستمرار بها بأي شكل كان مخالفاً له أيضاً, والفرد لا يخلو من أحد الأمرين إما القطع أو الإستمرار وإرتفاع النقيضين مستحيل.

ثانياً: قد يكون الإحتياط فيه عسر وحرج أو ضرر أو مشقة, ونحو ذلك من الأمور المسقطة للتكليف شرعاً. لقوله تعالى :ما جعلنا عليكم في الدين من حرج وقوله (ص): لا ضرر ولا ضرار.

ونحوها مما لا مجال الآن لإستعراضها.

كما لو كان الإحتياط موجباً للتكرار بحيث يكون موجباً للمشقة والحرج. ومنه أيضاً الإحتياط في الإجتناب من النجاسات والمتنجسات فإن الإحتياط المطلق فيها يقتضي مقاطعة الدنيا بما فيها حتى الطعام والشراب واللباس والعائلة. وخاصة في أغلب المجتمعات التي رأيناها على مدى التأريخ. وفي هذا من الحرج ما لا يُوصف.

وقد يقال بأزاء ذلك: إن الإحتياط إذا كان حرجياً, أمكن الإقتصار منه على ما دون ذلك إلا إن هذا غير صحيح, أولاً: لأننا نتحدث عن الإحتياط التام ومع الإقتصار لا يكون موجب لليقين بفراغ الذمة.

ثانيا: إن بعض أقسام الحرج يكون الأحوط تحملها, وهو أمر غير محدد في نفس الأمر.

ثالثاً: قد يكون الحرج واقعاً, فيما يكون الظن فيه راجحاً أو المظنون فيه مهماً نسبياً, فيكون الأحوط فعله وهكذا.

ثالثاً: (( في الكتاب رابعاً وليس ثالثاً ولكني أعتمدت على قرينة متصلة وهي عبارة “من الإشكالات على الإحتياط التام”))

من الإشكالات على الإحتياط التام إن الإحتياط قد يكون في كلا إحتمالي المسألة مما يجعل الإختيار متعذراً (الفرق بين هذا الإشكال والأول إنما هو في إتجاه النظر فقط. كما لو عقد أحد زوجته بغير اللغة العربية, إن وجود الزوجية بهذا العقد مخالف للإحتياط كما إن عدمها مخالف له ايضاً وكذلك البيع بالمعاطاة, فإن نية المشتري التملك على المبيع مخالف للإحتياط, كما إن إرجاعه الى البائع لبطلان المعاطاة مخالف له أيضاً والأمر قد يدور بين النقيضين, وبين الضدين أو بين الضررين وهكذا: الأمر الذي ينتهي بنا الى تعذر الحكم بوجوب الإحتياط المطلق في كل الأحكام الواقعية, أو إعتباره بديلاً عن الإجتهاد والتقليد) انتهى.

المصدر “ما وراء الفقه الجزء الأول القسم الأول فصل في الإحتياط”

إن هذا الكلام كافٍ في نفي مشروعية العمل بطريق الإحتياط بالرغم من أنه لا يمثل إستدلالاً على فتوى المنع لأن هذا ليس محله بل هو خارج عن موضوع كتاب ما وراء الفقه نعم هناك بعض البحوث الإستدلالية قد تتجاوز العشرة بحوث توجد في كتاب ما وراء الفقه بأجزاءه العشرة كما صرّح بذلك السيد محمد الصدر (قدس) في لقاء الحنانة وليس فصل الإحتياط منها وبالرغم من ذلك فهو يصلح أن أن يكون دافعاً للإستدلال على جواز طريق الإحتياط (أي نافياً لجواز العمل بطريق الإحتياط) وبعد أن تمَّ تحديد المراد من طريق الإحتياط ..

جاز لي الشروع في شرح المسألة شرحاً وافياً مستعيناً بعد الله تعالى بالسيد محمد الصدر(قدس) في ذلك: (الأحوط ترك طريق الإحتياط في عموم المسائل والإختصاص بطريقي الإجتهاد والتقليد).

هنا قد يخطر إشكال أو شبهة إشكال وحاصله كيف يكون الإمتناع عن طريق الإحتياط بالإحتياط أليس هذا هو التناقض بعينه؟

والحق إن الذي يخطر في ذهنه هذا الإشكال ولا يهتدي الى الجواب فهذا يدل على تدني المستوى العلمي لهذا المستشكل ومع ذلك يمكن الجواب عليه بأحد مستويين..

المستوى الأول: إن الأحوط هي فتوى بالإحتياط وهي لا تمتُ الى طريق الإحتياط بصلة وإنما هي مرتبطة بطريق الإجتهاد لأنها فتوى,((والفتوى هي بيان الأحكام الكلية المستنبطة من أدلتها التفصيلية)).

المصدر” منهج الصالحين الجزء الخامس كتاب القضاء”

وكما هو معلوم لدى الحوزة إن الأدلة التفصيلية شاملة للأدلة المحرزة (الإجتهادية) والأصول العملية.. والأحوط في هذه المسألة هو فتوى بالإحتياط يعني إن دليل هذه الفتوى هو الأصل العملي الشرعي ( قاعدة الإحتياط )وجزماً إن الفتوى بالإحتياط ليست إحتياط كلي في جميع الأحكام الواقعية الذي يقتضي التكرار والذي لا يقتضي التكرار يعني الأحتمال الاول والأحتمال التاسع من الأحتمالات الستة عشر فراجع يرحمك الله..

نعم الفتوى بالإحتياط هي تمثل أحد الإحتمالات الأثني عشر (يعني الأحوط في هذه المسالة) وهي إحتياط جزئي في بعض الأحكام الحجة الذي لا يقتضي التكرار فهل يا تُرى هذا هو طريق الإحتياط الذي يكون بديلاً عن طريق الإجتهاد والتقليد؟

كلا وألف كلا.

وخلاصة هذا المستوى أن الأحوط فتوى وهي من طريق الإجتهاد وليست من طريق الإحتياط وبالتالي لا يوجد تناقض في العبارة مضافاً الى ذلك إن طريق الإحتياط يحتاج الى فتوى تجوّز العمل به أو فتوى تمنع العمل به والأحوط في هذه المسألة تمثل فتوى عدم جواز العمل بطريق الإحتياط…فضلاً عن نسبة العموم المطلق بين الإحتياط وطريق الإحتياط فإنه ليس كل إحتياط يمثل طريق الإحتياط وخلاصة هذا المستوى أن الأحوط صورة من صور الإحتياط وأن طريق الإحتياط صورة أخرى من صور الإحتياط وبالتالي لا يوجد تناقض كما توهم المستشكل!!

المستوى الثاني: وهو تنزلي فإذا تنزلنا جدلاً وقلنا بأن الأحوط هي كلمة مرادفة لطريق الإحتياط فإنه أيضاً لا يوجد تناقض لأن السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) يقول:((الأحوط ترك طريق الإحتياط في عموم المسائل)).

وطبقاً للقاعدة الأصولية ( ما من عام إلا وقد خُص) فينتج من ذلك أن الأحوط هو مستثنى ومخصص بقرينة متصلة وهي ((لكن الإحتياط في بعض المسائل جائز)) وبالتالي فإن الأحوط يكون من مصاديق هذا البعض الجائز وهذا كافٍ لإثبات عدم التناقض.

هل الأحوط في هذه المسألة إحتياط وجوبي أم إحتياط إستحبابي؟

قبل الجواب عن هذا السؤال ينبغي أن أحدّد ما المُراد بالإحتياط الوجوبي والإحتياط الإستحبابي وأفضل تحديد ما ذكره السيد محمد الصدر(قدس) في نفس المصدر(ما وراء الفقه) حيث قال ما نصه:(( الفتوى بالإحتياط وهو أمر الفقيه للمكلف بالإحتياط الذي يكون عادة وجوبي وهو كثير في الرسائل العملية وهذا يكون في موارد عديدة منها: ما إذا قام دليل معتبر على وفق الإحتياط كالشهرة والإجماع المنقول أو الخبر الحسن, بحيث يكون المصير الى الأصل النافي وهو البراءة صعباً من الناحية الفقهية ومنها: موارد الإشتغال العقل لدى الدوران بين المحذورين مع إمكان الإحتياط بإعتبار زيادة الإحتمال في أحد الطرفين أو أهمية المحتمل في أحدهما أيضاً.. الى غير ذلك من الموارد)) انتهى.

المصدر “ما وراء الفقه الجزء الاول القسم الاول”

ان الإحتياط الوجوبي في الأعم الأغلب هو فتوى بالإحتياط..

أما الإحتياط الإستحبابي فقد قال عنه الشهيد محمد الصدر(قدس) في نفس المصدر ما نصه:

((وقد يكون الإحتياط إستحبابياً وذلك فيما إذا قامت الحجة على خلافها, ولكن يبقى المجال مفتوحاً للإحتياط. كما لو ذهب الفرد للإجتهاد والتقليد الى عدم وجوب السورة أو جلسة الإستراحة إلا أن الإتيان بها على أي حال أوفق بالإحتياط وأوكد للإنقياد ولكنه لا يمكن أن يكون وجوبياً لغرض قيام الحجة بخلافه بحيث لو لم يرد المكلف أن يحتاط, لكان معذوراً طبقاً لتلك الحجة كما لو ترك قراءة السورة أو جلسة الإستراحة))انتهى.

إن هذا البيان منه(قدس الله سره) كافٍ في إثبات إن الإحتياط الإستحبابي لا يمثل فتوى المجتهد بل الفتوى هي على خلاف هذا الإحتياط لأن قيام الحجة هي الفتوى بعينها سواء كانت موافقة للإحتياط أم مخالفة له.

وهذا يعني إن الفقيه حينما يستعمل تعبير الأحوط إستحباباً فإن لهذه العبارة مدلولين:

الأول: مطابقي بإستحباب العمل بهذا الإحتياط.

الثاني: إلتزامي بأن الفتوى التي يتبناها المجتهد على خلاف هذا الأحتياط والمقلِّد مخيَّر بين العمل بالإحتياط أو العمل بالفتوى المخالفة له مثال على ذلك وليكن من فتاوى السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) حيث جاء في كتاب الصوم في المنهج والصراط في بيان مفطرية الدخان في نهار الصوم حيث جاء ما نصه(( والأحوط إستحبابا إلحاق الدُخان والبخار به))انتهى.

وهذا يدلُ بالدلالة الإلتزامية أن الدُخان ليس من المفطرات لأن الإحتياط الإستحبابي هو ما قامت الحجة على خلافه والإحتياط الإستحبابي في هذه المسألة هو إلحاق الدُخان والبُخار بالغُبار الغليظ يعني كون الدُخان والبُخار مفطّرعلى الأحوط إستحباباً وهو بنفس الوقت ليس مفطراً بحسب الفتوى وهذا معنى قيام الحجة الشرعية على خلاف الإحتياط ..

وبعد هذا التحديد للإحتياط الوجوبي والإستحبابي نرجع الى جواب السؤال الذي يستفسر عن كلمة الأحوط في مسالة”3″ هل هو وجوبي أم إستحبابي؟

ذكر الشهيد محمد الصدر(قدس) في المنهج الجزء الأول كتاب الإجتهاد والتقليد وبالضبط في مسألة “34” قاعدة من خلالها نستطيع تمييز الإحتياط من حيث وجوبه وإستحبابه حيث جاء ما نصه((…. وأما الإحتياطات المذكورة فيها فإن كانت مسبوقة بالفتوى أو ملحوقة بها فهي إستحبابية يجوز تركها وإلا فهي وجوبية…)) انتهى.

وفي هذه المسألة إن الأحوط هنا إحتياط وجوبي لأنه غير مسبوق ولا ملحوق بالفتوى.

إن الإحتياط الوجوبي في هذه المسألة يقتضي ترك طريق الإحتياط في عموم المسائل.

وبعد هذا الكلام نستمر في شرح المسألة

((لكن الإحتياط في بعض المسائل جائز سواء إقتضى التكرار أم لا لكن يلزم المكلف معرفة ما هو الأحوط شرعاً))

هنا إستدرك السيد محمد الصدر(قدس) بكلمة لكن!!! وحاصل هذا الإستدراك أن طريق الإحتياط يكون جائزاً في بعض المسائل فإذا جمعنا بين ما قبل لكن وبعد لكن تكون الجملة كالآتي: إن طريق الإحتياط غير جائز في عموم المسائل وجائز في بعض المسائل.

وهنا أود طرح سؤالين أو أكثر:

السؤال الأول: ما المقصود من كلمة الإحتياط التي جاءت بعد لكن(لكن الإحتياط) هل المُراد منها مطلق الإحتياط أم الإحتياط المنتج لليقين؟

مطلق الإحتياط هو الإحتياط بجميع صوره وإحتمالاته يعني الإحتمالات الستة عشر.

أما الإحتياط المنتج لليقين فهو يشمل طريق الإحتياط الكلي في جميع الأحكام الواقعية وكذلك في بعضها

إذن فإن كلمة الإحتياط التي جاءت بعد لكن مباشرة فيها أطروحتان:

الأطروحة الأولى: أن يكون المراد منها الإحتياط المنتج لليقين يعني طريق الإحتياط في بعض المسائل الذي يكون بديلاً عن طريقي الإجتهاد والتقليد في بعض المسائل.

الأطروحة الثانية: أن يكون المراد منها مطلق الإحتياط وبالتالي سوف يشمل كل إحتمالات الإحتياط بما فيها الإحتياط المنتج لليقين( طريق الإحتياط).

إن هناك الكثير من القرائن ترجّح الأطروحة الأولى على الثانية وبدرجة لايشوبها شك:

أولاً: السياق فإن المسألة تدور حول طريق الإحتياط.

ثانياً: عبارة سواء إقتضى التكرار أم لا فهي جاءت لأجل رفع الإستغراب لأن الإشكالات التي بسببها صار طريق الإحتياط ممنوعاً في عموم المسائل بسبب إقتضائه للتكرار الذي يوجب الحرج والعسر والضرر…الخ ومع ذلك فإن السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) يقول إن الإحتياط جائز في بعض المسائل.

ثالثاً: الإستدراك الثاني يؤكّد على أن المراد من الإحتياط هو طريق الإحتياط حيث قال لكن يلزم المكلَّف معرفة ما هو الأحوط شرعاً فرُب سائلٌ عن سبب هذا الإلزام وهو بنفس الوقت تنزل عن طريق الإحتياط في بعض المسائل الى الإحتياط الشرعي حيث ان بينهما نسبة عموم من وجه يعني قد يكون طريق الإحتياط في بعض المسائل إحتياطا شرعيا وقد لا يكون إحتياطا شرعيا وقد يكون الإحتياط الشرعي هو طريق الإحتياط في بعض المسائل وقد يكون الإحتياط الشرعي غير طريق الإحتياط.

رابعاً: العموم والخصوص فإنه ينفي الحُكم ومع إنحفاظ الموضوع والموضوع هو طريق الإحتياط والحكم في العموم غير جائز وفي الخصوص(البعض) جائز.

خامساً: (ال) التعريف في كلمة الإحتياط فهي للعهد وليس للجنس لأنها كانت مسبوقة بطريق الإحتياط فيكون تكرارها مخالفاً للذوق اللغوي فتكون عبارة لكن الإحتياط أبلغ من عبارة لكن طريق الإحتياط وهو مشابه بدرجة كبيرة فيما لو إستغنينا عن إستعمال الضمائر.

سادساً: إنه لو كان المراد من الإحتياط هو مطلق الإحتياط (بحسب الأطروحة الثانية) فإنه لا يصح ان يقول الإحتياط في بعض المسائل جائز لأن الإحتياطات الوجوبية والإستحبابية كثيرة في الرسالة العملية وليس من السهل اليسير عدُها وإحصائها وهي بمجموعها لا تمثل بعض المسائل.

لماذا إستعمل لفظ المسائل ولم يستعمل لفظ الأحكام؟

إن المسألة تتألف من:

1. موضوع الحكم الشرعي.

2. الحكم الشرعي.

3. متعلق الحكم الشرعي

فموضوع الحكم الشرعي المراد منه ((هو مجموع الأشياء التي تتوقف عليها فعلية الحكم المجعول))

المصدر “دروس في علم الأصول الحلقة الأولى السيد محمد باقر الصدر))

والحكم الشرعي ((هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان))

“نفس المصدر السابق”

أما المتعلق فهو إما ان يكون فعلأً من الأفعال وهذا هو متعلق الحكم التكليفي أو يكون شيئاً آخرغير الفعل كالمال وذات الإنسان وهذا هو متعلق الحكم الشرعي الوضعي.

إن أغلب الأحكام الشرعية تحتاج في معرفتها الى إجتهاد (إستنباط)..

أما الموضوعات فإنها لا تحتاج الى إجتهاد ولكنها مرتبطة بالأحكام الشرعية..

وقد يحصل شكٌ في الحكم وهذا ما يصطلح عليه بالشبهة الحكمية وهي دائماً تواجه المجتهد أما الشك في الموضوع فيصطلح عليه (الشبهة الموضوعية) وهو يواجه المجتهد والعامي على حدٍ سواء كما لو إشتبه الفرد في تحديد إتجاه القبلة.

وحيث أن الحكم والموضوع مرتبطان وخاصة في الإمتثال يكون الاحتياط مراعياً للموضوع والحكم معاً..

فالفرد الذي يشتبه بإتجاه القبلة أو يشك في بلوغه المسافة الشرعية في السفر فإن معرفة الحكم الشرعي وهو وجوب إستقبال القبلة والحكم الشرعي في وجوب القصر لا يمنع الفرد من الإحتياط في حال شكه في الموضوع وفي مثالنا شكه في القبلة والمسافة وهذا سوف يزيد بالطين بلة بالنسبة لطريق الإحتياط لأن الصعوبات التي ذكرها السيد الشهيد محمد الصدر (الإشكالات على طريق الإحتياط) كانت بالنسبة للأحكام فإذا أضفنا إليها الشُبهات الموضوعية كانت الصعوبة أكبر ويؤيّد ذلك إن السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) قال في هذه المسألة ((الأحوط ترك طريق الإحتياط في عموم المسائل)) حيث أنه(قدس سره) ذكر المسائل بدلاً من الأحكام..

إن السير في طريق الإجتهاد وطريق التقليد أو حتى طريق الإحتياط معناه أن الموضوع قد تحقق والحكم أصبح مجعولا(فعلياً) وكذلك المتعلق فينبغي مراعاة كل هذه الأمور الثلاثة التي دلت عليها لفظ (المسأئل)..

س/هل يصح التقليد في الموضوعات؟

ج/ كلا فإن إحراز الموضوع لا يحتاج الى إجتهاد وهذا ما يعبّرون عنه بصغرى المسألة والكبرى هي الحكم الشرعي وهذا السؤال يحتاج الى بحث مستقل لما فيه من أهمية قد تتوقف عليها فهم الكثير من المسائل!! وقد وفقني الله في كتابة بحث عن هذا الموضوع بعنوان(التقليد في الأحكام وليس في الموضوعات)

هل يهتم طريق الإحتياط بالموضوع أو بالشبهات الموضوعية؟

نعم لأنها تلعب دوراً في فعليّة الحكم الشرعي فإذا كانت الشبهة الموضوعية مقترنة مع الشبهة الحكمية فإن طريق الإحتياط يراعي كلا الشبهتين لأن المهم في طريق الإحتياط (الإحتياط المطلق) هو إنتاجه لليقين بفراغ الذمة لأنه مستقل عن طريق الإجتهاد والتقليد.

س/ كيف جاز الإحتياط (طريق الاحتياط) في بعض المسائل؟

ج/ السيد محمد الصدر(قدس) أكّد على مشروعية الإحتياط المطلق في بعض المسائل سواء إقتضى التكرار أم لا وهذا الجواز له منشأن:

الأول: في بعض الحالات قد يتردد المجتهد في الفتوى أو يعدل من الفتوى الى التردد وهذا يؤدي الى غلق طريق الإجتهاد في مسائل التردد وهي قليلة وبالتالي يؤدي الى غلق طريق التقليد وهذا يؤدي الى فتح طريق الإحتياط في هذه المسائل ويؤيّد هذا الكلام ما جاء في مسألة”16″ في المنهج كتاب الاجتهاد والتقليد..

((إذا تردد المجتهد بالفتوى أو عدل من الفتوى الى التردد فالأحوط هو العمل بالإحتياط)).

والفتوى تمثل طريق الإجتهاد.

الثاني: المكلّف العامي أثناء الفحص عن شرائط مرجع التقليد لا يمكن أن يسلك طريق التقليد وإلا كيف يقلّد وهو لازال يفحص عن شرائط من يجب عليه تقليده وهذا المعنى نصت عليه مسألة 10 في نفس المنهج ((.. ويحتاط وجوباً في مدة الفحص…)).

وهذا الإحتياط في مدة الفحص قد يكون واجباً تعيينياً إذا كان الفرد يريد أن يقلد إبتداءاً ويكون الإحتياط في مدة الفحص واجباً تخييرياً إذا كان المكلف يفحص عن أعلم الأحياء لأن له أن يبقى على تقليد الميت حتى مع كونه مفضولاً يعني خلال فترة الفحص إما أن يسلك الإحتياط وإما أن يبقى على تقليد الميت وهذا المعنى أشارت إاليه مسألة 10 أيضاً((ويحتاط وجوباً في مدة الفحص وله أن يعمل خلالها بمن كان مقلداً له قبل وفاته ولو مع ثبوت كونه مفضولاً…)).

المصدر” منهج الصالحين الجزء الاول ”

والحاصل أن الاحتياط جائز سواء كان واجباً بالتعيين أو بالتخيير.

ومن خلال هذين المنشئين لجواز العمل بالإحتياط إتضح ما المراد من بعض المسائل حيث إرتبطت هذه العبارة بمسألة “10” ومسألة “16” وحسب فهمي لم أجد من اساتذة الفقه ممن تشرفوا بتدريسهم للمنهج من تعرض لهذه المسألة فأرجوا منهم الإلتفات والمراعات خصوصاً ما لهذا الأمر من فائدة وأثر كبير في تنمية ملكة طالب العلم هذا الأمر كان السيد محمد الصدر(قدس) يراعيه حتى في البحث الخارج حيث كان يهتم بتنمية الملكة حيث قال في أحد دروس الأصول ((لا أريد حوزة ضحلة)) وغيرها كثير..

ولو لم يكن يهتم بذلك فلماذا يؤلّف موسوعة ما وراء الفقه ويستهدف من ذلك ثقافة فقهية عامة ومعمقة فلماذا يكون مستوى تدريس الفقه أقل بكثير من مستوى ما وراء الفقه ولماذا لا يعتمد أساتذة الفقه على هذه الموسوعة العظيمة في تدريسهم؟ وهل يصح أن يتهم هذا الشرح لمسألة 3 بأنها وهم ؟ أليس هذا يمثل شرح السيد محمد الصدر(قدس) ولولا شعوري بأن البعض بهذا القول قد أساء الى السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) من حيث يشعر أو لا يشعر ما كتبتُ هذا الشرح غفر الله لهم وحسبي الله ونعم الوكيل.

س/ ما المراد من لفظ جائز؟

ج/ إن المراد من كلمة جائز في هذه المسألة هو الجواز بالمعنى الأعم يعني الذي يشمل الإستحباب والإباحة والكراهة والوجوب بل وحتى الحكم الوضعي..

أما الجواز بالمعنى الأخص فهو يُراد منه الحكم الشرعي الترخيصي (الاستحباب والإباحة والكراهة) وهذا ما يُستعمل في مقابل الواجب والدليل على لفظ جائز يشمل الوجوب ما جاء في مسالة”10″ ومسألة”16″ فان الإحتياط في مسألة 10 كان حكمه الوجوب وفي مسالة”16″ كان بالوجوب على الأحوط التي يكون فيها الإحتياط جائز يعني إن الإحتياط في بعض المسائل جائز على نحو الوجوب فهو من الموارد التي إن جازت وجبت أضف الى ذلك إن طرق الإمتثال هي طرق واجبة فالمجتهد الذي يفتي بجواز العمل بطريق الإحتياط فهو يفتي بوجوبه ولذلك قال السيد محمد الصدر(قدس) ما نقلناه سابقا ونكرره للفائدة((وهكذا ينتهي بنا الى تعذر الحكم بوجوب الإحتياط المطلق في كل الأحكام الواقعية)).

المصدر” ما وراء الفقه الجزء الأول القسم الأول الفصل في الإحتياط”

يعني إن الفتوى إما بوجوب طريق الإحتياط وإما تعذر الوجوب..

فالإحتياط المطلق(طريق الإحتياط) متعذر في عموم المسائل وجائز في بعض المسائل يعني واجب.

س/ إن الإحتياط في بعض المسائل جائز سواء إقتضى التكرار أم لا وهذا يعني نفس الإشكالات واردة على هذا البعض فكيف أفتى السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) بالجواز؟

ج/ أولاً: إن جواز العمل بالإحتياط كان بسبب تعذر العمل بالإجتهاد والتقليد وبالتالي تكون الإشكالات أهون لأنه لا يوجد أمام المكلّف خياراً آخر غير العمل بطريق الإحتياط.

ثانياً وهو العمدة والرئيسي في جواب السؤال ودفع الإشكال وحاصله أن السيد محمد الصدر(قدس) إستدرك وأشار الى الإحتياط الشرعي.

وللتوضيح أقول أن الواجب هو العمل بالإحتياط إذا لم يستلزم الحرج أوالعسر أو الضرر…الخ وإلا فاللأزم هو التنزل عن الإحتياط المطلق الى ما دونه حيث قال يلزم المكلف معرفة ما هو الأحوط شرعاً.لأن العمل بالإحتياط المطلق قد يؤدي الى سقوط التكليف بالحرج أو العسر أو الضرر فاللازم هو أن يكون الإحتياط شرعياً سواء أنتج اليقين أم لا!!

وقد يخطر سؤال من هو المكلّف المذكور في مسألة 3 (لكن يلزم المكلّف معرفة ما هو الأحوط شرعاً)…المكلّف في هذه المسألة يشمل المجتهد والعامي…

ومن هنا يحق للسائل أن يقول كيف يتسنى للعامي معرفة ما هو الأحوط شرعاً؟ والجواب وبكل وضوح عن طريق المجتهد نفسه!!!

وفي الحقيقة أن العامي لا يشعر بذلك لأن السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) يحدّد

الإحتياط الشرعي في موارد وجوب العمل بالإحتياط عن طريق إلحاقه بالإحتياط الوجوبي وهذا ما نصت عليه مسألة”34″ ((ويلحق بالثاني ما إذا قلنا يجب على إشكال أو على تأمل أو قيل كذا أو فيه تأمل أو فيه إشكال أو هو المشهور بدون فتوى بإزائه)).

المصدر “منهج الصالحين الجزء الاول”

فإن الملحق بالإحتياط الوجوبي من ناحية نظرية يغاير الإحتياط الوجوبي..

أما الإحتياط الوجوبي فهو في الأغلب فتوى بالإحتياط وفي بعض الأحيان إحتياط بالفتوى وعلى كلا التقديرين فإنه يوجد دليل من الأدلة التفصيلية عليه أي أنه من طريق الإجتهاد ولذلك عبّرعنهما فتوى بالإحتياط وإحتياط بالفتوى..

أما الملحق بالإحتياط فهو فهو ليس فتوى لعدم قيام الدليل المحرز والأصل العملي (يعني التردد) فتكون الوظيفة الشرعية هو العمل بالإحتياط الشرعي الذي صار ملحقاّ بالإحتياط الوجوبي!!!

ومن هنا يتضح أن مسألة “3” لها إرتباط في مسألتي “10” و”16″ من جهة كونها مصاديقاً لجواز الإحتياط في بعض المسائل ولها إرتباط في مسألة “34” من جهة الإحتياط الشرعي لإن إلحاق الإحتياط الشرعي الجائز في بعض المسائل بالإحتياط الوجوبي هو بسبب أن الاحتياط الشرعي مما يلزم معرفته والإحتياط الوجوبي ليس إحتياطاً مطلقاً بل هو إحتياط شرعي.

أفبعد هذا الشرح الذي كان العمود الفقري فيه ودعامته الأساسية السيد محمد الصدر(قدس) هل يبقى مجال لمن يتسامح في شرح هذه المسألة وغيرها من المسائل؟ وهل من العدل أن يوصف هذا الشرح بالوهم؟ وإذا كان وهماً فما هي الحقيقة؟ وقبل الختام لابد لنا من الحديث على الفتوى بالإحتياط والإحتياط بالفتوى وخير شرح وبيان ما ورد عن السيد محمد الصدر(قدس) في ما وراء الفقه حيث قال ما نصه(( بقي الإلماع في النهاية الى الإنقسام الأخير الذي ذكرته فإن الإحتياط كما يقوم به المكلف, كما هو الأغلب, قد يقوم به المجتهد الفقيه أيضا وذلك, فيما إذا قام لديه طريقان كلاهما حجة على القاعدة ولكنهما يتعارضان في الدلالة على الحكم, فااللازم أحيانا أن يختار في فتواه أقربهما الى الإحتياط فيفتي به فتكون الفتوى ناشئة من العمل بالإحتياط وهو المسمى “بالإحتياط بالفتوى”.

يقابله “الفتوى بالإحتياط” وهو امر الفقيه المكلف العمل بالإحتياط الذي يكون عادة وجوبياً وهو كثير في الرسائل العملية)) انتهى.

المصدر ” ما وراء الفقه الجزء الأول القسم الأول فصل في الإحتياط للسيد محمد الصدر”

إن الإحتياط في الفتوى بحسب ما قال السيد محمد الصدر(قدس) هو قيام طريقان حجة ولكنهما مختلفان بالدلالة ولا يمكن للفقيه أن يتبنى قولين في مسألة واحدة فتكون فتواه هو إختيار أحوط القولين.

أما الفتوى بالإحتياط فإن المجتهد ليس له إلا طريق واحد حجة ومعتبر وهو إصالة الإحتياط فتكون فتواه بالحكم إحتياطا وليس إحرازاً.