التساؤل الذي وضعناه عنوانا لهذه المقالة غالبا ما نسمعه من بعض الموظفين والمتقاعدين ممن يبحثون عن تفسيرات مقنعة عن مسوغات حجب الدولار عنهم في حين انه متاح للمسافرين والتجار وشركات ومكاتب الصيرفة ويباع في كل مكان وتتعامل معه ابسط المنافذ التجارية وحتى في البسطيات ، وهم يستندون في ذلك لشيئين أساسيين أولهما التصريحات التي يروجها البعض بخصوص عجز الدولة عن دفع الرواتب خلال الأشهر القادمة نظرا لشح العملة المحلية ( الدينار ) بعد انخفاض مبيعات البنك المركزي من الدولار الذي يأتيها من وزارة المالية لتحويله إلى الدينار ، فتلك المبيعات انخفضت بالفعل عن مستوياتها قبل أشهر التي كانت تزيد عن 200 مليار دولار في اليوم إلى معدلات بيع بمقدار يقل عن ال100 مليون دولار نظرا للظروف المعروفة للجميع و التي يقال إن غاياتها تقليل تهريب العملة الصعبة والحد من غسيل الأموال ، أما السبب الثاني فيأتي من القناعة المرسخة لدى البعض بان الدولار هو حقا للمواطن لان منشأه هي مبيعات النفط والثروات الطبيعية ملكا للشعب كما نص عليه مواد دستور 2005 ، كما إن التعامل بالدولار متاحا وليس محظورا بدليل إن الكثير من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لا تزال تتحاسب بموجبه مع الأفراد كشركات السياحة والطيران والفنادق والمحلات التجارية والسكن وغيرها رغم التوجيهات الأخيرة بحصر تعاملها بالدينار ، وكل الأسباب التي يشيرون إليها تبدو مقنعة للكثير في إتاحة الدولار للجميع من خلال منافذ رسمية ومنها توزيع الرواتب للموظفين والمتقاعدين كلا او جزءا من المستحقات الشهرية واستنادا لرغبة المستفيد والبعض يقول إنها تجربة مورست في 2003 حين تم الدفع الرواتب بالدولار .
ومن وجهة نظر بعض المختصين فان توزيع الرواتب بالدولار قد يحل بعض المسائل الجزئية ولكنها لا ترتقي لتكون حلول فمن المحتمل أن تكون لها تأثيرات معقدة على الاقتصاد وما يرتبط به من سياسات مالية ونقدية ، أولها انه سيعمق من الدولرة وربما تنطمس هوية الدينار العراقي شيئا فشيء في حين إن الصحيح هو تعزيز الثقة بالعملة الوطنية ليكون لها قبول ورواج مناسبين في الداخل والخارج ، كما إن ذلك سيثخن من جروح الاختفاء الواضح في الكتلة النقدية الصادرة للتداول فمن مجموع الكتلة المصدرة التي يبلغ حجمها 80 تريليون دينار لا يظهر منها في التداول أكثر من الثلث حيث يتم الاحتفاظ بمعظمها في ادخارات بعيدة عن التداول المصرفي لعدة أسباب ، كما إن تحويل الرواتب من الدينار إلى الدولار من شأنه أن يربك كثيرا من الأمور ويشجع البعض على استغلال هذه الحالة للحصول على الدولار وتهريبه او غسيله او الاستفادة منه لمصالحه الخاصة فهناك من يسعى للحصول على الدولار بغض النظر عن سعر التصريف الموازي ، فحين يكون من يشتري الدولار من السوق الموازي مستورد ( مثلا ) بقصد الابتعاد عن إجراءات الدولة لا يهمه السعر لأنه سيحمل قيمة مشترياته عند تحديد سعر البيع لما يستورده معتبرا السعر المرتفع لشراء الدولار ضمن التكاليف ، ومن الناحية الإنسانية والاجتماعية فمن الممكن أن تظهر حالات للتحايل والتسويف وبشكل ربما يشجع تزييف وانتشار العملات المحلية والأجنبية ومن الممكن أن تظهر خلافات بين الناس بخصوص شراء الدولار وتسديد قيمته وغيرها من التفاصيل ، فليس الجميع لديهم معلومات عن أسعار الصرف والقدرة على تمييز الأمور ، ولسان حال الرافضين لفكرة توزيع الرواتب بالدولار يقول لماذا هذه الإضافة على المواطن الموظف او المتقاعد أفلا تكفيه ما يعيشه من معاناة وأعباء جراء الإهمال وضعف الحال والأحوال .
ورغم إن الرأي المتعلق برفع النظر عن موضوع صرف الرواتب بالدولار يثير انتقادات البعض ، إلا إن واقع الحال يؤشر عدم أهلية ظروف البلاد للدخول بهكذا مجازفة لا يمكن التوقع بتفاصيلها وتداعياتها ونهاياتها في ظل وجود المتصيدين للازمات ، فالدولار موجود ولم يتم حجبه عن المواطن وهو متاح في كل مكان ونرى إن من واجبات الجهات المعنية تبسيط إجراءات الحصول عليه للحالات الإنسانية والاجتماعية ولتحويل مرتبات المتقاعدين المقيمين خارج البلاد بيسر وبدون البيروقراطية التي نشهدها اليوم ، أما غيرهم ممن يرغبون بالاحتفاظ بالدولار لغايات بأنفسهم ممن يشكون من الفارق الكبير بين السعر الرسمي والسعر الموازي في الأسواق فربما يحتاجون للتريث قليلا لحين استقرار التوازن بين العرض والطلب وانجلاء الموقف الحالي ، وأسعار الموازي للأيام الماضية والحالية ليست مقياسا للحكم واتخاذ قرار قد تكون له نتائج وخيمة عند دفع الرواتب بالدولار ، فتلك الأيام ( وربما التي ستليها فيما بعد ) حصلت فيها متغيرات من حيث تطبيق أنظمة التحويل الخارجي والتغيير المفاجئ في أسعار الصرف إلى 1300 دينار للدولار وبشكل اخضع المضاربين بصدمة يحاولون فيها الحصول على ما يستطيعوه من الاستغلال او التعويض ، ومن يعلم فقد تكون الأزمة الحالية حافزا لإدارة الدولة في المراجعة المتأنية للسياسات المالية وترميم او معالجة الثغرات في اقتصادنا الوطني ، والذي تثبت الأحداث المتعاقبة انه اقتصاد واهن من الممكن أن يتأثر ويؤثر ( سلبا ) ويصيب لقمة العيش بأبسط المتغيرات المحلية والعالمية ، فاقتصادنا أحادي الإيرادات وقليل التنوع في مصادر الناتج المحلي ، وكل الازمات التي مررنا بها منذ زمان تعطي البرهان بان كل ما يتم إصلاحه بعيدا عن التنمية المستدامة للاقتصاد لا يمكن ان يفي بالغرض مما يبقي الاحتفاظ بالدولار أمنية للكثير اعتقادا منهم إن فيه الأمان .