قد يكون نظام الخصخصة في العالم ، مسرحا لروح التنافس والتسابق لتقديم كل ما هو جيد ورصين وخاضع لمعايير صارمة على صعيد السّلع والخدمات ، وتقف اللجان الحكومية موقف العين الساهرة والمراقب لهذه المؤسسات ، كل ذلك ينعكس أيجابيا على المواطن المستفيد الذي يجد هذه الشركات والمؤسسات تتسابق إلى درجة التكالب لأستمالته بتقديم أرقى خدماتها وبأعلى جودة وبأرخص الأسعار ، هذا مايقوله المنطق الإقتصادي ، وهو معمول به في كل دول العالم المحترمة ، أما في الدول ذات الحكومات غير المحترمة والتي تعلم إنها غير محترمة على الصعيد العالمي ، كالعراق أنموذجا سيئا (أو الأسوأ على الإطلاق) ، فهذا شيئ آخر يجرد مصطلح (الخصخصة) من تعريفه بحيث لا يُعد الأمر خصخصة ، بل سرقة وتدمير وضياع وتكبيل وإستغلال بأبشع الصور، وقد سمع المواطن العراقي لأول مرة بهذه المصطلحات المشؤومة كالخصخصة والتكنوظ.. ط ! والشفافية من العصابات الحاكمة للبلد ، لأن الخصخصة في منظور الحكومة المنحرف والمريض والبعيد جدا عن الإخلاص والمواطنة والمهنية ، ثم الطمع الذي لا يعرف حدودا ، جعلت المواطن فريسة لها وضحية مع الإبقاء على حالة التخلف الخدماتي ، بل تردّت بشكل خطير ، وبدلا من وقوف الحكومة موقف المراقب لخدمات الخصخصة ، آثرت أن تكون شريكة لهذه الخدمات في الجريمة ! .
من أكذوبات الخصخصة الكبيرة هي خصخصة الكهرباء التي فشلت فشلا ذريعا ، فأول شروط خصخصة الكهرباء هي تحسين الخدمة وزيادة إنتاجها ، لكنها بالمقابل أبقت على طاقة إنتاجية متردية ، وفضلت تجهيز الأحياء الغنية بكهرباء مستمرة ، على حساب الأحياء الشعبية ! ، ورغم ذلك لم تنجح في مسعاها هذا ، وفشلت حتى في إستيراد هذه الطاقة من إيران ، تارة بسبب عدم تسديد فواتير الدفع للدولة المصدرة ، وأخرى تتمثل بالخضوع للإملاآت الأمريكية بقطع الأستيراد تماشيا مع العقوبات على إيران ! .
وتحول تفكير وزارة الكهرباء الفاشل إلى خصخصة الجباية هذه المرة ، وكأنها تعاني قصورا في كوادر جباتها ، وهذه الشركات أرادت إمتصاص نقمة الجماهير ، فكل ما يهمها هو الربح فقط ، وكالعادة تعامت وزارة الكهرباء عن ممارساتهم ، فيقوم الجابي بتدوين أرقام مقاييس (بالكيلوواط- ساعة) طفيفة ، أقل بكثير من القراءة الفعلية للمقياس ، وأستمر هذا المنوال أشهر عديدة ، وكانت الأجور طفيفة لأستمالة المواطن وسحب البساط من تحت قدمه ، لكنها فعليا كانت تتراكم في المقاييس ، حتى أتى يوم تفاجأنا فيه بفواتير بملايين الدنانير ! ، فمما لم نكن نعلمه أن الأجور تتصاعد دراماتيكيا ، فسعر أول 1000 كيلوواط- ساعة كان 10 دنانير لكل كيلوواط- ساعة ، لكن سعر الألف الرابع سيكون 100 دينار أي بعشرة أضعاف !، بل لماذا أصلا لا يقوم الجابي بإستيفاء أجوره كل شهر بدلا من شهرين ، بل ما الغاية من اقصاء الموظفين الرسميين من الجباة ؟!.
ظهرت لنا بالتالي خصخصة التعليم ، مئات المدارس ومئات الجامعات الخاصة في بغداد والتي تستوفي أجورا خيالية وأنتشرت كالنار في الهشيم ، وبشكل يتناسب مع تردي التعليم الحكومي ، وكأنه (إجبار) متعمّد للتلاميذ على الإنخراط في هذه المدارس والجامعات ! ، بدلا من ضياع مستقبلهم في (صروح) الدولة الأكاديمية الفاشلة والمتهالكة بعد عراقتها، هذا يذكّرني بإنتشار خدمات الإتصالات السيئة جدا تمهيدا (لإنقراض) الهاتف الأرضي الذي لا يزال يستخدمه حتى الرئيس الأمريكي ! ، وبدلا من التنمية التي يبكيها البلد لغيابها ، أهتمت الدولة بصروح من نوع آخر تناطح السماء ، إنها (المولات) المخصصة للنخب ، ومستثمريها الحكوميون ، ففي نظرهم لا شيء سوى (البزنس) ! ، ووزارة الصناعة تخلت عن شركة الصناعات الجلدية في الكرادة ، تلك المؤسسة العريقة لأجل بناء (مول) جديد ، يتزامن ذلك مع ضياع مدرسة (الكُميت) الشهيرة في نفس المنطقة ! ، وحتى مديرية المرور قامت بتأجير شركات خاصة كجهة إرتباط بينها وبين سماسرة بيع السيارات ! ، ولا ندري ما هو عمل (المعتمدين) المسؤولين بعد ذلك ! ، ويستوفون أجور جديدة يسمونها (صيانة الطرق والجسور) بمبلغ 60 ألف دينار منذ ما يقارب العام ، دون اي صيانة أو ترميم لأي شارع أو طريق ، رئيسي أو فرعي ، عدا حيلة (الفردي والزوجي) ، والتي جنوا منها المليارات ، فعلم بذلك السيد العبادي ، متأخرا 10 سنوات فألغاه ! ، عدا الصقور من آكلة الجيف ، أطلقتها شركات مزيفة ، كصقر بغداد وكركوك وغيرها ثم ألغيت ومعها ضاعت مليارات أخرى من كد وتعب المواطن ! ، خصخصوا حتى عمليات رفع النفايات ، بدفع إجور شهرية تصل إلى 20 ألف دينار رغم وجود فقرة (أجور رفع النفايات) في فاتورة (الماء) ! ، ولا نستغرب التخلف الشديد والفوضى في النظام الصحي ، بشكل يدفع المواطن إلى إرتياد العيادات أو المستشفيات الخاصة ذات الاجور الخيالية ، وبهذا حكمت على الفقراء بالموت البطيء والمؤلم ! .
يبدو أن في نية الدولة خصخصة (أقصد سرقة) كل شيء ، فلماذا لا تُخضع الجيش وقوى الأمن لنظام الخصخصة ، فيستوردون الرجال من النيبال وكولومبيا والبنغال والسند والهند ، وتسليحهم ليصبحوا (حماة الأعراض) الجدد ! ، ربما من الأفضل توظيف مكسيكيين مثلا لمسك واجهات الأمن والدفاع والإستخبارات بدلا من أن تكون بيد المتخلفين والبعيدين عن المهنية ، كانوا السبب في إسالة أنهار من الدم ، كل ذلك ، والبلد صاحب أكبر نسبة بطالة في العالم ، والذي يبدو أن الحكومة بتصرفاتها هذه ، تريد تكريس هذه الآفة ، وإستخدام التجويع سلاحا لتركيع الناس ، أسوة بأستاذتها أمريكا ! .
الحكومة بالواقع ما هي إلا جوقة من رجال الأعمال المتخلفين الهواة ومن معدومي المواطنة والضمير كزعماء المافيات ، تعلموا شتى أنواع التحايل والسرقات والفساد على مستوى دولي من المحتلّ ، جميعهم وبلا إستثناء ، داخليا وخارجيا ، إسلاميون وعلمانيون وممن يدعون الوطنية ، يرتكبون الجرائم الكبرى تلو الجرائم بحق هذا البلد ، فأختفت نهائيا الطبقة الوسطى ، وزادت الهوة بين الأغنياء والفقراء ، دون أن نكحل عيوننا برؤية أحدهم يتجرع من نفس الكأس الذي تجرعه صدام ، كل ذلك بسبب نظام قضائي فاسد ومتهرئ هو الآخر.
هكذا عمت الفوضى والفساد في كل دوائر الدولة إلى درجة لا يمكن تصور أي خدمة مهما كانت طفيفة ، يؤديها موظف دون (قومسيون) ، وأحيانا يكون المبلغ كبيرا يثير الإستغراب ، لكن الموظف يتدارك قائلا ، هذا المبلغ ليس لي وحدي ، وهو للمرة الوحيدة يكون صادقا في إدعاءه ، إنه للعصابة التي تعمل ضمن إطار عصابة داخل عصابة ، حتى الوصول لأعلى المراجع ! ، يذكرني هذا بأحد معارفي عندما طالبه موظف (من سود الجباه) في الضريبة (بحلاوة) ، واستغرب المراجع لأن يديه تقطر من ماء الوضوء ، أراد تسليم (الحلاوة) باليد للموظف ، لكنه إعتذر ، وبدلا من ذلك فتح أحد أدراج مكتبه ليجد فيه مصحفا كبيرا ، فوضعها المراجع على المصحف ، وأغلق الموظف (المتدين جدا) درج المكتب ! .
هؤلاء أسوأ من الطاعون و الأوبئة والجوع ، أسوأ من كل الغزاة الذين تناوبوا على نهب البلد ، أسوأ من كل الكوارث الطبيعية ، وهل بإمكانك أن تلتمس خيرا من شيطان ؟!.