التراث “هو تراكم ثقافي وحضاري تحقق لمجتمع ما عبر الاجيال، ويتضمن المعتقدات والافكار والمعارف والاخلاق والقيم والتقاليد الموروثة والفن والاعراف وسلوك الانسان وتجاربه وخبراته. ويشكل بذلك السمات الثقافية والحضارية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وهو عملية تراكمية دائمة ومستمرة بدأت قبل مئات السنين وما زالت مستمرة حتى اليوم.
وفي ضوء ذلك، فان التراث ليس مجرد حنين الى الماضي ومشاعر فياضة تجاه هذا الماضي وقيمه ومفاهيمه ومكوناته، ليس لها اهداف او اغراض او وظائف بل يحمل معه التجارب والخبرات والحكمة وخلاصة العلاقة بين الانسان والطبيعة وبين الشعوب في علاقاتها بعضها مع بعض، السلبية منها والايجابية، وبين الانسان والانسان، وهو في النهاية العامل الذي يشكل هوية الافراد والشعوب. وهكذا، فان تراث أية امة لا يتكون من تراكم معرفة وخبرة وتجارب فقط، يمثل خلاصة شخصية الامة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فلا تولد الشخصية القومية الحضارية في الحاضر وانما هي وليدة ارث اجيال متعاقبة عبر التاريخ وعبر تجارب وخبرات وافكار تلك الاجيال…”
وعليه، فان التراث يمثل لأية امة، القاعدة التي تنطلق منها والمخزون الذي تستمد منه طاقاتها، ويمثل كذلك الادلة على عراقة الامة في مجال منافستها للامم الاخرى، لذا فان التراث جدير بالاحترام ووضعه في مكانته التي تليق به، غير ان ما يجري عندنا خلاف ذلك.
لقد تعددت في الآونة الاخيرة، الدعوات والدراسات التي يحاول اصحابها من خلال تقديم قراءات جديدة للتراث العربي بالتوقف عند بعض نصوصه او بمحاولة القاء ضوء جديد على بعض قضاياه ومشكلاته او بتحليل يكشف عن جوانب خفية ومتشابكة لم تكن على هذا القدر من الوضوح في كتابات المتقدمين، حيث تطالعنا دراسات مختلفة، وكذلك المحاضرات والندوات التي تقام وفي مضمونها ابتذال واضح للتراث. واصبحنا نقرأ ونسمع كثيراً عن هذا الطرح الجديد- قراءة جديدة- وتعدد القراءات بتعدد الاجتهادات ووجهات النظر وتنوع المداخل والمناهج واختلاف الاسس التي يقوم عليها كل من الاختيار والتقديم. ولعل انجح هذه القراءات وافضلها هو ما توقف عند بعض النصوص التاريخية والفكرية وحتى الادبية، واخذ يتعامل معها باعتبارها اولاً لغة تعبير تراثي، ونصاً له مقوماته وعناصره، ومعمار تشكله، واسلوب بنائه وتركيبه، وهو نوع من رد الفعل لدراسات عديدة سابقة عنيّ اصحابها بالدوران والالتفاف حول النص التراثي دون ولوج ساحتة، واكتفوا بالحديث عن صاحب النص وعصره والمؤثرات الخارجية فيه، تاريخاً واجتماعاً وسياسة وعلم نفس، وظلت مفاتيح هذا النص اللغوية والفكرية والتاريخية بعيدة عن المتناول بعد ان تتقطع الانفاس في تقديم اطاره الخارجي، اما الاقتراب اللغوي والتحليلي فهو الجهد الاشد صعوبة والاكثر تطلباً للتفسير والتعليل واقتحام اسرار اللغة ورموز البلاغة.
والى جانب ذلك، هناك ايضا من يطلب باعادة بلورة العقل العربي الذي يتخذ من التراث طريقاً له، وقد كانت اطروحة اعادة تقويم وبلورة العقل العربي ضبابية في ظاهرها، ولكنها في الحقيقة تذهب مذهباً بعيداً وهو طرح القرآن الكريم للعرض والنقاش، وهذا ناجم عن الشك في مصدره، وهذا الطرح تحاشاه زنادقة العصور المتقدمة، ولكنه للاسف يطرح في بداية القرن الواحد والعشرين، ويرى بعضهم ان وجود الجوانب السياسية والاجتماعية والنفسية في القرآن الكريم، تمثل دافعاً من دوافع الشك حيث يرى وجود انحصار القرآن في الناحية الدينية، اذا كان مصدره خارج البشر، اما الجانب السياسي والنفسي فهو ذهن بشري.
ترى لو قارنا هذه العقلية بعقلية اهل الجاهلية الا نجد تقدماً ذهنياً كبيراً لدى اهل الجاهلية على هذه الذهنية الحاضرة؟
انني هنا اريد ان استنطق وانقد دعوة القراءة الجديدة للتراث التي اكتسبت في الاونة الاخيرة، زخماً اجتماعياً ايديولوجياً مميزاً، ومن ثم ابين مواطن الاستتار والصمت فيها، ومبلغ ما تعاني فيه هذه الدعوة من غموض، فهي في ظاهرها بريئة وشفافة لكنها في الواقع مضمخة بالذنب الايديولوجي المذهبي حتى الثمالة، ولا سبيل الى التحرر من سطوة الايديولوجية التنويمية الا بتعريتها والكشف عن عوراتها ومواطن الصمت الايديولوجي فيها.
ويتجلى الذنب الايديولوجي الذي يضمخ هذه الدعوة في اولى صوره في الدعوة المستمرة الى ضرورة اعادة قراءة تراثنا او بالتحديد قراءة جانب منه من دون دعوة مماثلة الى معرفة شروط القيام بها. ولعل الخطوة الاولى على درب الكشف عن تفصيلات هذه العورة الايديولوجية هي بيان اهم هذه الشروط، فما هي شروطها؟
من البديهي ان لا سبيل الى قراءة جديدة ممنهجة للتراث من دون معرفة تفصيلاتها واركانها واشكالها…. لكن المعرفة في هذه الحال في حال تراث توقف فعله في الماضي ولم يبق منه في وجداننا العروبي (القومي) العراقي سوى نذر يسير من مخلفات مشوهة ليست تلقائية ولا تأتي بوصفها تحصيلاً حاصلاً. كلا، فالمعرفة في هذه الحال لا تأتي الا كنتيجة للدراسة المكثفة والبحث المضني والتنقيب العميق.
وهنا تبدأ المشكلة الحقيقية باجراء دراسات مكثفة تستلزم في دورها عدة شروط قد لا تتوفر حالياً في مجتمعنا العربي عامة والعراقي خاصة بصورة كافية.
فهل لدينا من الباحثين المؤهلين ما يكفي لدراسة تراثنا دراسة شاملة وموضوعية امينة؟!
نظرة واحدة الى حجم الانتاج التراثي، كفيلة باقناعنا بأن الجواب هو اننا لا نملك حتى مجموعة بسيطة من الباحثين التراثيين المؤهلين بالفعل في هذا المضار. هذا ناهيك بنوعية الانتاج. فقلما تجد انتاجاً معرفياً عربيا او عراقياً حديثاً تتوافر فيه اساسيات البحث التراثي من امانة علمية ودقة وتسلسل منطقي وعمق استنطاق. ولا يكفي ذكر عدد حملة الشهادات في هذا المجال، فحتى لو كانت الشهادة في مستوى قيمتها الاسمية تظل هناك حقيقة ان البعد الاكاديمي لا يشكل سوى واحد من مقومات التأهيل في مجال حيوي مصيري من هذا القبيل.
والحق ان دعاة القراءات التراثية الجديدة بصمتهم الايديولوجي عن هذه الحقائق، يعمدون الى تجريد هذه الدعوة- دعوتهم- من معناها الحقيقي كيما يسخروها، مجرد اداة ايديولوجية في صراعاتهم الفكرية والسياسية الطائفية والمذهبية، وتراهم احياناً يلجأون الى التعويض عن هذا الصمت الذنب بدعوة العلميين منهم الى تحويل جهودهم في اتجاه دراسة تراثنا واحياء ما يخدم توجهاتهم، وكأنهم يبغون بذلك سحب المتخصصين على قلتهم، وضعف كفاءاتهم بصورة عامة من مشاغلهم واهتماماتهم وصوامعهم ودوائرهم حيث ينتمون لاجراء دراسات لم يدّربوا ولم يؤهلوا جيداً من اجل اجرائها.
من الواضح اذاً، ان الحل الحقيقي يكمن في تدريب او ربما افراز كادر من المؤهلين لهذه الغاية. وهذا بطبيعة الحال ليس بالامر السهل، اذ انه يتطلب التزاماً عروبياً قومياً على اعلى المستويات، وثورة في صميم نظامنا المعرفي والاكاديمي. انه يتطلب في واقع الحال خلق انماط جديدة من المثقفين العرب والعراقيين تربطهم علاقات جديدة بالحركات الاجتماعية والسياسية العربية والدولية.
هذا كله من ناحية، ومن ناحية اخرى ينبغي طرح السؤال الجوهري الآتي عند تدبر مسألة القراءة الجديدة للتراث. ما المنهجية التي ينبغي اتباعها في دراسة تراثنا؟ ما المنهجية المناسبة لذلك؟، وما هي شروط اتباع المنهجية المناسبة؟ هل نعود الى التراث نفسه لاستلهام هذه المنهجية وادواتها، ونهمل ما حصل من تطورات علمية عالمية مذهلة في هذا المجال؟ وهل من الممكن ان يتم استلهام من دون اطار فكري نظري مسبق ومنهجية استنطاق معينة مسبقاً ننطلق منهما؟ فالتراث بحكم كونه جسماً معقداً من النواتج الحضارية المترابطة لا يمكن ان يكون احادي البعد بل انه يزخر بالاطر الفكرية والمنهجيات المتباينة والمتناقضة معاً. بذلك فقراءته ثابتة واستلهامه ينطوي على عمليتي الانتقاء والنقد. لكن هاتين العمليتين لا يمكن ان تتما من دون اطار نظري ومنهجية مسبقين.
ولئن شئنا ان يكون منطلقنا النظري المنهجي لاعادة قراءة التراث، ما خلفه تراثنا من عناصر في وجداننا الحضاري، ولئن ابينا الا ان تكون منهجية قراءتنا نابعة من صلب التراث، الا تعد قراءتنا هذه انغلاقاً فكرياً ونوعاً من العرقية نمقتهما في غيرنا؟
ثمة وشائج وجدانية خاصة تربطنا بهذا التراث ولا تربطنا بغيره، ولا بد ان ينعكس ذلك على المنهجية التي سنستعملها في دراسة تراثنا.
من البديهي في ضوء ذلك كله ان قبولنا بخصوصية العلاقة بيننا وبين تراثنا لا يعني مطلقاً ان نقصر بحثنا او قراءاتنا عن منهجية استنطاق على تراثنا وحده. انه قد يعني ضرورة ان نطور منهجية خاصة تلائم خصوصية موضوعنا، لكنه بالتأكيد لا يعني التقوقع ضمن اطار التراث. فاذا اردنا ان نطور مثل هذه المنهجية او القراءة فكيف نفعل ذلك؟ ان المنهجيات العلمية الموضوعية لا تنبع من العدم ولا من مزاجيات الافراد والامم؟ علام اذاً نبي ما نريد تطويره من منهجيات؟
من البديهي ان المنهجيات لا تنبع من قرارات واعية نتخذها، بل تنمو نمواً عضوياً من ارض الواقع الحي وفق ما نخوضه من تجارب وما نعانيه من صراعات اجتماعية وحضارية وما يتولد فينا من حاجات. ولكن، دعونا نصمت جدلاً عن هذه الحقيقة، ونفرض مشروعية الاسئلة التي طرحناها آنفاً، اولاً من اجل مقارعة الوهم الايديولوجي الذي نقارعه على ارضيته وبلغته الخاصة، وثانيا من اجل ابراز العنصر الذاتي في المشروع الحضاري الذي نتحدث عنه كونه محور سجالنا، وثالثاً من اجل بيان ضرورة العنصر الموضوعي من خلال افتراض غيابه.
سؤالنا- علام نبني ما نريد تطويره من منهجيات لاعادة قراءة تراثنا؟
لا مفر من القول بان علينا ان نبدأ بنقد الذات الحاضرة لمعرفة الاسس النظرية الكامنة والاخرى الظاهرة لتفكيرنا وسلوكنا الحضاري المعاصر. ينبغي ان نبدأ من الواقع الحي في بعديه الذاتي والموضوعي لكشف النقاب عما يسيرنا في فكرنا وسلوكنا من افتراضات وأطر نظرية وتصورات فلسفية كامنة، ومن ثم للكشف عن بنية الادراك في مجتمعنا واصوله والتيارات والقوى المحلية والعالمية التي تضافرت لتشكيله. فنحن لا نجابه التراث من داخله وبعناصره، بل نحاربه بذات حضارية مختلفة عنه، وان كانت مرتبطة فيه بصورة او باخرى. علينا ان نبدأ بفهم هذه الذات، ثم بتسليط نصلت النقد عليها من منطلق ما يعتروها من تناقضات داخلية متجذرة في قلب المجتمع، حتى يتسنى لنا استخلاص صورة مبدئية عما نريد تطويره من منهجيات ملائمة لقراءة التراث وفهمه.
ينبغي اذاً البدء بنقد الذات وما يعلق فيها من تحيزات وخرافات وافتراضات. لكن السؤال الجوهري الذي يبرز هنا هو: ما هي شروط نقد الذات؟ أي الانماط الثقافية واي الفئات الاجتماعية تشعر بالحاجة الى نقد الذات وتستطيع بحكم موقعها الاجتماعي ممارسة نقد الذات؟
سؤال كبير يستلزم مقالة منفصلة من دون ريب، لكنه يؤكد مبلغ تشعب قضية احياء التراث وتعقدها وعمقها.
ولكن كيف يتم نقد الذات؟
انه يستلزم ادوات نظرية وعملية معينة. ومن الواضح ان هذه الادوات مستمدة من الذات نفسها ومن بيئتها الحضارية التي تهيمن عليها الذات الاوروبية. فاذا ما نظرت الذات العربية الى داخلها وجدت في الواقع انها وليدة تيارات وقوى حضارية حديثة وان بيئتها العامة تعكس تشابك هذه التيارات وتمازجها وتطورها، وان كانت عناصرها مستمدة من الحاضر الاوروبي والماضي العربي كليهما. بذلك، فان فهم الذات لذاتها، ومن نقدها لذاتها يستلزمان فهمنا العصر الحديث الذي انتج هذه الذات وشكلها، بمعنى ان شرطا اساسياً من شروط معرفة الذات ونقدها لهو معرفة العصر الحديث ونقده. ذلك ان الذات العربية تجد ادوات نقدها الذاتي التي تتبناها وتجلها وتقدرها نابعة في الواقع من قلب العصر الحديث في صورة مؤلمة ومتخلفة وقبيحة من صوره العديدة. وهكذا، فانها من خلال النقد الذاتي لا تكتشف خصوصيتها ولا خصوصية ادواتها بقدر ما تكتشف تخلفها وعجزها المتمثلين في فشلها المتكرر في استعمال ادوات النقد الذاتي الحديثة المتوافرة في بيئتها.
ويظهر نقد الذات من خلال جلد التراث عبر بعض الاراء النقدية التي تتهم بعض العقليات الحاضرة بعدم وعيها للنص الفكري الحديث نتيجة لارتباطها بالثقافة التراثية، فهل اصبحت التراثية معيبة لانها ترفض نصاً يرتبط بالنص الفكري ارتباطاً بشرياً؟
واذا كان البعض يحاول ان يجد العزاء في جلده للتراث، ويرى ان ذهنيته الفكرية تشكلت من خلال تشربه لفكر معين او اطلاعه على ثقافة ما، ترى هل قارن هذا النفر بين الفرق الدينية القديمة والاحزاب الحاضرة، وحاول رصد دور كل منها في تشكيل قاعدة ثقافية راسخة لا تتحطم مع المتغيرات السريعة، فاذا نظرنا الى دور الفرق الدينية واثرها في اثراء الفكر العربي نجد ان هذه الفرق تركت لنا من التراث الفكري ما يمثل موردنا الرئيس حتى ونحن في هذا العصر، عصر التقدم الشامل، ولأن ذهنية هذا النفر الذي يحاول تقزيم التراث ذهنية مستوردة ومرتبطة بانفعالات كثيرة منها المصلحية، فانها تجنح الى المستوردة الذي يتخذ وسيلة لمحاولة التمايز عن الاخر.
ان نظرة واعية وصادقة في اثار القدماء من مفكرينا تظهر مدى تقدم فكرهم وذهنيتهم لدرجة تجعلنا نذهل امام هذه الذهنية في عصور متقدمة.
ترى هل اطلع من يرتبط بعالم الفكر على هذه الآثار؟ واذا حاولنا رصد الحصيلة الذهنية الناجمة عن الاحزاب في ايامنا هذه ولا اقصد الاحزاب حديثة العهد بل الاحزاب العريقة حسب طرحهم، فما القاعدة الذهنية والمؤلفات الشتى التي وضعتها هذه الاحزاب لخدمة الثقافة والفنون المختلفة؟
ان العداء الذي يوجه للتراث لا يمثل قناعة ناجمة عن مطالعة بعيدة المدى واكتشاف خلل ما في هذا التراث بل ان هذا العداء مستورد باشكال مختلفة سياسية وثقافية واجتماعية… وينفذ على يد ابناء هذا التراث الذين ينتظر منهم احترامه على الاقل ان لم يدافعوا عنه. وقد يحاول بعضهم ان يجد نفسه عن طريق المخالفة وفق ما اتفق عليه (خالف تعرف) فيلجأ الى الهجوم على التراث فيصل الجهل فيه الى اتهام الجانب الديني، فيرى ان الالتزام بالجانب الديني يمثل عاملاً رئيسياً من عوامل تأخر الثقافة العربية وهو يقرر ان الثقافة العربية متخلفة تبعاً لما املاه عليه اتجاهه السياسي، ويعلق فشله محاولة تمايزه وظهوره كمبدع على التراث.
ومهما يكن، فان التراث لا يحتاج للدفاع بل ان قوته وعمقه يمثل سداً منيعاً في وجه هذه الطروحات التي تحاول الانتقاص منه. فقد تعرض من قبل المستشرقين بل والمغرضين من ابناء العربية دعاة تحطيم الثوابت بحجة اكسابه الحياة المتجددة المتطورة التي تقوم على فهم مغلوط، اذ التراث لا يمنع من التطور والانطلاق، ولكن الخلل في الانفصام عن التراث وفي محاولة تقزيمه واخفاء دوره.
من الواضح اذاً اننا في محاولتنا بناء منهجية ملائمة بقراءة جديدة لتراثنا، لا نستطيع مطلقاً اهمال تجربة العصر الحديث في هذا المضمار، وهي تجربة اتت اكلها في كثير من الميادين وبخاصة في ميدان التاريخ.
لكن هذه التجربة متجذرة في التراث الاوروبي الحديث الذي بدأ جدياً بالنهضة الاوروبية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. وهذا يعني ان لا سبيل الى التعمق في المنهجيات العلمية الحديثة وتمثلها الا بالعودة الى التراث الاوروبي الحديث الا باحياء التراث الاوروبي الحديث في وجداننا الحضاري، مثلما فعل الاوروبيون في مطلع نهضتهم بالتراثين الاغريقي والعربي الاسلامي….
اعادة قراءة تراثنا لغرض اعادة احياء ما يتلائم مع راهننا، ينطوي بالضرورة على محاولة احياء التراث الاوروبي الحديث في صميم وجداننا، محاولة ان نعانيه ونعيشه بكل جوارحنا ونتمثل تناقضاته ونحاول تركيب منطقه في وجداننا؟ نعم، هذا بالضبط ما قاد اليه تحليلنا.
نخلص الى القول اذاً بناءاً على ما تقدم، ان شروط اعادة قراءة التراث التي قادنا اليها تحليلنا النقدي حتى الآن هي:
1- ضرورة معرفة التراث عن طريق دراسته.
2- ضرورة احداث تغييرات جذرية في مؤسساتنا وفي آليات اعادة الانتاج في مجتمعنا وفي العلاقات التي تصل المستويات الاساسية في مجتمعنا ببعضها، وذلك من اجل خلق انماط جديدة من المثقفين العرب قادرة على تشكيل جماعة علمية عربية مؤهلة اكاديمياً واجتماعياً وسياسياً لدراسة التراث واستنطاقه.
3- ضرورة تحديد المنهجيات الملائمة لدراسة التراث وتحديد شروط تطبيقها.
4- ضرورة معرفة الذات العربية الحديثة.
5- ضرورة اجراء نقد ذاتي لاستخلاص ما نحتاجه من منهجية وادوات معرفية لدراسة التراث.
6- ضرورة احياء التراث الاوروبي الحديث في وجداننا.
ويقودنا ذلك كله الى السؤالين الآتيين: ما هي شروط قراءة التراث الاوروبي واحياءه في وجداننا الحضاري؟ وما هي منطويات اعادة قراءة تراثنا وبالتالي احياءه…؟
ان العكوف على دراسة وفهم تراثنا، يلقي عليه من ضوء الحاضر ومن روح العصر ما يكشف عن قدرته على الاستمرار والعطاء وعن عناصره الداخلية وعن مناطق توجهه واشعاعه،وعن الدلالات والرموز المستكنة في ثناياه وعن طرائق واساليب الفهم المختلفة في نطاق الاقتراب منه، والعكوف عليه والربط بينه وبين غيره من النصوص.
مثل هذا الموقف المعاصر يضعنا في مواجهة مع روح هذا التراث او فلنقل في مواجهة عارية مع النفس نكشف عما في واقعنا الراهن من قصور، وعما في ابداعنا المعاصر من غربة وشتات وعما في رسائلنا التي نستخدمها ونتعامل بها احياناً من ضعف ووهن.
واولى خطوات الصحوة التي يسعى اليها العقل العربي اليوم، انه يعي وعياً جديداً متمثلاً عطاء تراثه القومي ومنجزاته في شتى مجالاته وزواياه، فليس تراث العربي مجرد نصوص شعرية ورسائل الكتاّب ووصايا البلغاء، وليس مجرد الدائرة الادبية التي هي احدى واوسع دوائره، ولكن هناك هذا التراث في شتى فروع العلم والمعرفة الانسانية منذ توقف الانسان العربي امام الكون وظواهره تطلعاً واستبصاراً واكتشافاً ومحاولة لمعرفة خباياه والسيطرة على قوانينه وظواهره.
فلتكثر اطروحات اعادة قراءة التراث ولتعدد، ولتكن قراءات في تاريخ الفكر والعلم العربي وكتب الرحلات وفكر التصوف، مثلما هي في كتب الادب شعراً ونثراً، فلعل جذوة الروح العربية تشتعل في الركام والرماد ولعل صحوة العقل العربي امام صيحات تطالعنا من جديد.
[email protected]