في المقالات السابقة، تحدثت عن الجوانب السيكولوجية للنخبة الفلسطينية وكذلك لقناة الجزيرة التي تستحق منا وقفة تأمل، و دراسة ومعاينة هادئة، لأن الواقع الذي أفرزته الدواخل النفسية لكلتيهما هو واقع مريض و مؤلم، بكل ما فيه من معانات و هزائم و خداع و نفاق. من المفيد أن نتحدث عن تكوين قناة الجزيرة قليلا، قبل الحديث عن فلسطين التي تتعمد هذه القناة و النخبة الفلسطينية و أوساط أخرى إبقائها، العلكة المفضلة، وسط الفشل و الإنهيار و اليأس القنوط. تأسست قناة الجزيرة، وهي مؤسسة قطرية تابعة للدولة، في عام 1996 من قبل الدولة القطرية و الإخوان المسلمين وفلسطينيين (منهم من هو من الإخوان)، و كوادر أخرى موزعة بين بعثيين عراقيين، و شيعة وأقليات دينية أخرى.
قطر دولة صغيرة على مساحة حوالي 11 ألف كيلومتر مربع دون عمق إستراتيجي. وتتشكل قطر من حوالي 300 ألف مواطن قطري من الذين يملكون حق المواطنة و الجنسية. وما تبقى ليس سوى عمالة وافدة، أو زائرون بقصد العمل أو “السياحة”. أي أن ثلاثة ملاعب كرة قدم مثل ملعب كامب نو في برشلونة، تتسع للشعب القطري بأكمله. المواطنون القطرييون في عمومهم ليسوا أهل العمل والحرب و المشقة. فهم أناس وقعوا على المال دون تعب. النصيب الأكبر من عائدات قطر (المسموحة لقطر!) هو للعائلة الحاكمة، و هناك مبالغ تعطى للقطرين بما يكفي لتأمين رفاهيتهم التي لا تشكل رقما كبيرا في ميزانية قطر. لقطر خصومات و حساسيات مع السعودية و الإمارات و البحرين. ولأن قطر، دولة صغيرة مع عدد سكان قليل جدا، على مساحة أرض صغيرة ولكن بمال كثير، فإن التنافس و الخصومة بينها و بين من تخاصمهم غير متكافئان. لذلك لجأت قطر إلى عدة طرق للتمتع بالقوة و تأمين ردع من تهابهم، ولإيجاد قوى بديلة (بشرية و عسكرية) لتعويض نفسها من النقص، بل وللإمتداد خارج أرض قطر بفضل المال. نستطيع تلخيص هذه الطرق كالآتي:
أولا: إقامة تحالفات مع بعض دول المنطقة بناء على الخصومات و النزاعات المتقاطعة. فبنت قطر علاقات قوية مع النظام السوري ضد السعودية إلى عام 2011، حين انطلق الربيع العربي واختلطت العلاقات و الموازين. حينئذ غيرت قطر سلك علاقتها، فوجدت من الثورة السورية أرضية لإيجاد نفوذ و قوة لنفسها. فتحالفت مع تركيا ضد قوى إقليمية، و لردع قوى أخرى. وأقامت علاقات جيدة مع إيران و قوى شيعية في العراق على نفس الأساس.
ثانيا: إيجاد نفوذ لها في الدول العربية، كمحاولة من أجل إقامة بدائل محتملة لبعض الأنظمة، و لخلق الضغط على أنظمة أخرى، لتعيد حساباتها في العلاقة مع قطر و مع خصومها، وكذلك لإيجاد أذرع بشرية و عسكرية في المنطقة موالية لها. وكان الإخوان المسلمون في مصر و الدول العربية، القوة الحزبية التي لعبت بها قطر لعبتها السياسية في المنطقة، كما أراد الإخوان استخدام قطر لسياساتهم و أجنداتهم.
ثالثا: دفع الجزية إلى أمريكا و بريطانيا (معظم ميزانية قطر)، من أجل تأمين حمايتها عبر قاعدة العُديد الأمريكية، نظرا لكون قطر لا تملك القوة البشرية و العسكرية التي تقدر على حماية الدولة. ولاحقا أضيفت تركيا إلى المعادلة، فأصبحت القوة العسكرية التركية موجودة على أرض قطر، من أجل حمايتها، منذ حصارها من قبل دول الخليج.
رابعا: قناة الجزيرة كوسيلة إعلامية مثيرة تبت في القضايا الحيوية و الحساسة في العالم العربي، و كان لها الدور الريادي في تحريك العالم العربي، بل والتمهيد لتسونامي سياسي ضرب المنطقة منذ عام 2011.
خامسا: اللعب على وتر القضية الفلسطينية و تحويلها إلى علكة إستهلاكية مفضلة، من أجل الظهور بمظهر الوطني المناضل من أجل هذه القضية، ضد المحور الذي يتفاوض مع إسرائيل برعاية أمريكا (المحور الذي يبدو مؤيدا من قبل السعودية و الإمارات ومصر)، وللتغطية على ما قامت وتقوم به قطر في المنطقة.
في ما يخص النخبة الفلسطينية، فقد تحدثت عن دوافعها لتطبيلها الصاخب و المستمر للقضية الفلسطينية، على حساب القضايا الخطيرة و المهمة للعرب و المسلمين، و للقارئ العودة إلى المقال وهو من ثلاث حلقات بعنوان (سيكولوجية النخبة الفلسطينية)، ولكن بإختصار، فإن هذه النخبة تجد في قضية فلسطين ميدانا للإرتزاق المستمر. أما دوافع الجزيرة، فإنها تستدعي تحليلا موضوعيا و دقيقا، و هذا ما سيقدمه هذا المقال. إن دوافع قناة الجزيرة تتكون من تشكيلتها التي ذكرناها آنفا، وهي التشكيلة التي تكونت منها الجزيرة وهي التي تدير هذه القناة، في شبكة علاقات متداخلة ليس من الصعب فك رموزها. بالنسبة للبعثيين، فمعلوم أنهم مع الفوضى و الثورة الشاملة في المنطقة. منذ سقوط نظامهم في عام 2003، تعمل أجنحة حزب البعث على صب الزيت على جميع النيران بهدف تخريب أي محاولة للإستقرار، ولتبييض صفحاتهم الماضية. و بما أن تأريخ البعث في العراق هو تأريخ دموي، منذ عام 1968، خصوصا بين بعضهم البعض في تصفيات معروفة (أشهرها حادثة قاعة الخلد عام 1979)، وكذلك بسبب الكوارث و الويلات التي جلبها البعثييون على المنطقة؛ فإن فلسطين تشكل الرداء الذي يتستر به البعثييون للتخفيف من ثقل و حدّة الإنتقادات و اللوم الموجه إليهم. وكأن فلسطين تعويذة، تقيهم من سيئاتهم التي اكتسبوها و جرائمهم التي ارتكبوها. أما الشيعة (التابعون لولاية الفقيه بقيادة إيران)، فإن استراتيجيتهم هي أيضا الفوضى و إسقاط الأنظمة القائمة، لصالح دولة شيعية قوية تقودها إيران. وهذا المحور وجد من قضية فلسطين مطية ملائمة لأجنداتها، مع العلم، لا تشكل فلسطين أي شئ يُذكر في أدبيات الشيعة قبل عام 1979، أي تأريخ مجئ خميني للسلطة في إيران، وهي مسألة مستحدثة في أدبيات الشيعة المعاصرين، وهي نتاج رؤى وأجندات سياسية نابعة من استراتيجيات مذهبية سلطوية. أما الإخوان المسلمون، كحركة سياسية فاشلة، فشلت في الإستحواذ على السلطة منذ تأسيسها عام 1928، فهم على علاقة استراتيجية وقوية مع الشيعة بقيادة إيران، ويشتركون معهم ومع البعثيين في توظيف فلسطين لصالح أجنداتهم. ويتضمن خطاب الإخوان الدائم الإشارة إلى فلسطين، كمسألة أساسية، لعدم وصولهم إلى السلطة و “معاداة العالم لهم” بسببها حسب إدعائهم. وحاول الإخوان أثناء تسنّم الرئيس الراحل محمد مرسي رئاسة مصر أن يبدوا وكأنهم حماة فلسطين، وأنهم سيحررونها قريبا. وحتى بعد الإنقلاب على مرسي، ظل الإخوان يتمسكون بشعارات فلسطين وهم في السجون (مثلا محمد بديع في إحدى جلسات محاكمته توجه إلى القاضي بالقول “أطلقوا سراحنا وسنذهب لنحرر فلسطين” مع أن هذا التصريح يفتقد إلى أدنى درجات الواقعية).
الجهة الأخيرة والرئيسية في قناة الجزيرة هي دولة قطر، صاحبة القناة وراعيتها.
أشرنا إلى قطر و وضعها السياسي و الجغرافي بإيجاز. في الواقع، قطر عبارة عن حقل غازي أو آبار الطاقة، وحولها مجموعة سكانية صغيرة مع عائلة الأمير. أنظار دول العالم و أطماعها، لاسيما أمريكا وبريطانيا، مصوبة نحو هذا الحقل أو هذه الآبار. إن العداوة الموجودة بين العائلة الحاكمة في قطر، و العوائل الحاكمة في الإمارات و السعودية، هيئت أرضية غنية وسهلة لتدخل القوى العظمى والإقليمية الطامعة في ثروات قطر، والتحكم بها وأخذ خيراتها، وابتزاز حكامها والسيطرة عليهم. في هذا الواقع، و في ظل المنافسة و العداوة بين دول الخليج، اتجهت قطر إلى إيجاد أذرع لها في الدول العربية ودعم الفصائل و القوى، بأمل وصولها إلى سدة الحكم أو لعب دور قوي في هذه الدول، لإيجاد إمكانية تحويلها إلى ورقة قوة وذراع استراتيجي لقطر. وبلغت محاولات قطر ذروتها في خضم الربيع العربي. وبما أن الإخوان كانوا يتمتعون برعاية قطر، ولهم دور رئيسي في قناة الجزيرة، فإن قطر دعمت الإخوان في مصر وفي دول أخرى. في سوريا، دعمت قطر جبهة النصرة، و في ليبيا، دعمت فصائل مسلحة انضوت في حكومة الوفاق الوطني المدعومة من قبل تركيا أيضا. إن دور قطر في المنطقة، هو دور خطير و مأساوي جدا. فمن أجل أن تجد قطر لنفسها مواطئ قدم و أذرع قوة في المنطقة، ومن أجل الخروج من عنق الزجاجة الجغرافية والسياسية الضيقة التي هي فيها، بسبب صغر المساحة و قلّة السكان والقوة، فإن قوة قطر هي المال الذي تحصل عليه من حقول الغاز. فحاولت أن تستثمر هذا المال للدفاع عن نفسها، بل وأبعد من ذلك، هرعت نحو الحصول على القوة خارج أرضها. فهي تورطت في ثورة ليبيا، وقامت بتوفير التغطية على العدوان الغربي على ليبيا، ودعمت ثوارا أسقطوا نظاما عربيا بطريقة بعيدة عن الأعراف والتقاليد العربية والإسلامية، بل وأهانوا رأس النظام أمام الكاميرات، بوضع العصا في مكان في جسده، في عملية مشينة غير لائقة. كما أن أرض قطر أتخذت من قبل أمريكا وحلفائها لتدمير العراق وحرقه.
في ظل هكذا واقع متشابك و معقد ومؤلم، وفي غياب أي قوة حقيقية لقطر غير آبار الغاز و قناة الجزيرة، فإن قطر كانت وستظل مرغمة على أن تفتح فوهات الغاز والدولارات التي تدرها هذه الحقول نحو بنوك وجيوب أمريكا و بريطانيا، وبمقدار أقل نحو تركيا وربما إيران أيضا. أكد هذا أمير قطر تميم بن حمد، أثناء زيارته لترامب في العام الماضي، حيث دفع له 193 مليار دولار (منها ثمانية مليارات دولار للقاعدة العسكرية الأمريكية بقطر). وهذا بحد ذاته يشكل هروبا سريعا لقطر نحو الأمام، تاركة ورائها نتائج كارثية صنعتها أو ساهمت في صناعتها في أكثر من دولة عربية. وحين يكون وضع دولة صغيرة وضعيفة على هذا النحو، فإن خير وسيلة، للتغطية على هذه الكوارث المأساوية التي ورطت نفسها فيها، هي إختلاق صخب إعلامي كثير لتمويه الرأي العام العربي والإسلامي. وهذا التمويه يأتي من قبل قناة الجزيرة، وتطبيلها المستمر للقضية الفلسطينية و القدس الشريف. فالتركيز المستمر على قضية فلسطين (أصبحت بمثابة ورقة الجوكر يستعملها الكل)، يغطي على السياسات الفاشلة والكارثية لدولة قطر وحلفائها في قناة الجزيرة: البعثيين، الإخوان، الشيعة الخ. ما يربط هؤلاء جميعا مسألتان رئيسيتان: الأولى المشاركة القوية لتدمير المنطقة و شعوبها ومقدراتها، بالتعاون مع هذه القوة الخارجية أو تلك. والثانية هي إمتطاء فلسطين التي تُتخذ كشارة للأبهة والنقاوة والتطهر، للمزايدة على الآخرين وابتزازهم من جهة، و للتغطية على كوارثهم و فشلهم على الساحة العربية والإسلامية من جهة أخرى. مع أنه في واقع الحال، فإن هذا الصخب الكثير والتطبيل الكبير لفلسطين و القدس لا يخدمهما، ولا يقدم شيئا للشعب الفلسطيني المسكين، بل يطيل آلامهم ومعاناتهم، ويديم بازار الإرتزاق والتمويه، كلٌ حسب حاجته. قطر و قوى أخرى مثل إيران تموه وتلعب بقضية فلسطين، مع أنه في الواقع ليست فلسطين هي مربط الفرس. أما النخبة الفلسطينية و الجماعات الإسلامية، فهي تسترزق من هذه القضية على الصعيدين المادي والمعنوي (آخر صرعات الإرتزاق هو إفتخار حركة حماس بإطلاق صواريخها العنترية على إسرائيل، برعاية إيران، التي تذبح مع نظامها العميل في سوريا ومع الروس، الشعب السوري منذ عام 2011). لهذه الأسباب ستبقى فلسطين علكة شهية في فم الجزيرة و الأجنحة المختلفة التي تدير هذه القناة.
والأمر في جلّه لا علاقة له بالدفاع عن العرب و المسلمين، أو إنجاز شئ للفلسطينيين. ولو كان هذا هو الدافع، لكان الأحرى استثمار الأموال الهائلة في بناء وإقامة برامج ومشاريع تنموية ونهضوية ترتقي بالعرب والمسلمين، وهذا ما لم نجده حتى الآن، رغم أن كثيرين (ومنهم كاتب هذا المقال) قدموا مقترحات مشاريع مهمة إلى قطر وغيرها من دول المنطقة لكن دون جدوى. بل وجدنا مشاركة هذه الفئات والجهات في تدمير المنطقة مع القوى الخارجية المعادية، بينما أموالهم وخيراتهم تذهب إلى أحفاد الروم وحلفائهم. المشروع الوحيد الذي تسوّقه قطر و قناة الجزيرة، هو استضافة كأس العالم لكرة القدم. لعل اللعب بالكرة يخفف اللعب بالعرب والمسلمين. ولكن إلى ذلك ستظل قضية فلسطين علكة مرغوبة ومطلوبة، على غرار القاط اليمني!