في زيارة كتب لها النجاح منذ اللحظة الاولى من وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى \دولة الامارات العربية المتحدة ، وأستقباله على أعلى مستوى بشخص رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل النهيان ، وكانت مجرد بداية لسلسلة لقاءات بين رئيس الدولة الروسية ونظرائه من دول الشرق الأوسط ، ذات أجندة غنية ومهمة، ولكن من بين أمور أخرى، فإن الزيارة أظهر فيها الرئيس بوتين للغرب عدم جدوى محاولاته لعزل روسيا ، ووصف مساعد الرئيس الروسي للسياسة الخارجية، يوري أوشاكوف، هذه الاتصالات بأنها “وثيقة الصلة للغاية ومهمة للغاية”. وليس هناك شك في ذلك.
وعلى خلفية العقوبات الغربية، أصبحت الدول العربية في الخليج شركاء اقتصاديين مهمين لموسكو ، وهكذا ارتفع حجم التبادل التجاري بين روسيا والإمارات عام 2022 بنسبة 68%، ليصل إلى مستوى قياسي قدره 9 مليارات دولار، وفي الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري – بنسبة 63%، ليتجاوز 8.8 مليار دولار ، أما مؤشرات التجارة مع السعودية فهي أكثر تواضعا – وهو بزيادة قدرها 4.8% في الفترة من يناير إلى سبتمبر 2023، لتصل إلى 1.35 مليار دولار، ومع ذلك، تعمل موسكو، على سبيل المثال، على زيادة إمدادات القمح إلى المملكة: ففي العام الماضي زودت روسيا السعوديين بكمية قياسية بلغت 1.8 مليون طن.
هناك جانب آخر مثير للاهتمام في تعاون روسيا الأخير مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وهو توريد النفط والمنتجات النفطية الروسية إلى هذه الدول ، وعلى الرغم من أن كلا البلدين ظلا في نهاية عام 2022 رائدتين في إنتاج النفط (وفقًا لمنظمة أوبك، تحتل الإمارات المركز السادس عالميًا، والمملكة العربية السعودية في المركز الثاني)، إلا أن ذلك لم يمنعهما من شراء الذهب الأسود الروسي بخصومات جيدة ، كقاعدة عامة، يتم إعادة تصدير النفط الخام الذي تم شراؤه بسعر مخفض من روسيا، وتستخدم المنتجات البترولية لتلبية الاحتياجات المحلية.
اللقاءات التي اجراها الرئيس الروسي مع قادة الامارات ، ومن ثم مع ولي العهد السعودي الشيخ محمد بن سلمان ، وأكتمل الماراثون الدبلوماسي ، بلقاء بوتين وأجراءه محادثات مع نظيره الإيراني ابراهيم رئيسي في موسكو ، لقاءات في بادئ ذي بدء، حدثت في وقت مثير للغاية – خلال فترة الإرهاق والانزعاج في الشرق الأوسط تجاه الأمريكيين – ، خاصة بعد أن اتخذت الولايات المتحدة وأوروبا موقفًا مؤيدًا تمامًا ” لإسرائيل ” في الصراع بين تل أبيب وحماس ، ذلك الموقف الذي وصفه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، بأن “النهج الانتقائي الذي شهدناه في تطبيق المعايير القانونية والأخلاقية الدولية، فضلا عن تجاهل الجرائم البشعة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين العزل، أثار غضب العالم الإسلامي والعربي”.
إن بوتن، بنهجه المتوازن، لا يستحق إلا الاحترام ، بهذه الكلمات أجمع من شهد أو حضر لقاءات الرئيس الروسي مع المسئولين في هذه الدول ، وقد انعكست هذه الاجواء على مستوى اللقاءات التي جرت جميعها على أعلى المستويات ، وهذا يعني عدم الوقفة الاحتجاجية طوال الليل لعقد اجتماع مع رئيس الدولة (وهو ما شهده وزير الخارجية أنتوني بلينكن في المملكة العربية السعودية) ، وعدم الانتظار على متن الطائرة حتى يتنازل شخص ما للقاء الضيف المميز عند سلم الطائرة ، وهو ماحدث ( للرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير في قطر).
وفي الواقع، لم تكن الأوضاع في غزة ، وحدها من تسيدت مباحثات بوتين في الاجتماعات الثلاثة ، حيث تقع هذه الدول الثلاث في منطقة يستمر فيها الصراع بين ” إسرائيل ” وفلسطين ، وهي مستمرة – ولديها كل الفرص للتوسع في بلدان أخرى ، وأكدت المباحثات أن إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ليست مهتمة بحرب كبيرة، تمامًا مثل روسيا، لذلك ناقش بوتين مع قيادة هذه الدول كيفية تجنب هذا السيناريو ، وأشارت إيلينا سوبونينا، عالمة السياسة الدولية وخبيرة RIAC، لصحيفة VZGLYAD ، الى انه يمكن لموسكو أن تعمل كوسيط جديد في إنهاء الأعمال العدائية ، في حين كتبت صحيفة تايمز أوف “إسرائيل“ ، إن” الزيارة جاءت في وقت تريد فيه روسيا تعزيز دورها كوسيط قوي في صراع الشرق الأوسط” علاوة على ذلك، ينبغي تعزيزها في وقت فشل فيه الوسيط السابق.
و“ حماس “، التي تعتبرها معظم الدول الغربية جماعة إرهابية، لديها علاقات جيدة مع روسيا وزار وفدها مؤخرا موسكو ، ولم تتمكن قطر، التي اعتمد عليها الغرب كمفاوض مع حماس، من إيجاد الأساس لمزيد من تبادل الرهائن بين ” إسرائيل ” والجماعة الفلسطينية (وهو ما كان شرطاً مسبقاً لهدنة إنسانية ثانية) ، لذلك، وبحسب صحيفة الغارديان البريطانية ، ليس لدى بوتين ما يخسره بالتدخل الآن، وقالت ” الأزمة هي فرصة لروسيا للعودة إلى السياسة العالمية، وتقديم نفسها كبطل غير متوقع لحل متعدد الأطراف للوضع في الشرق الأوسط ، والمنطقة بحاجة لمثل هؤلاء الأبطال ” ، وإن التجارب السابقة أثبتت إن الشرق الأوسط الغارق في الصراعات، وبدون مساعدة روسيا الاتحادية والصين لا يمكن حلها ، ولا يمكن الاعتماد على الدول التي تم الاعتماد عليها في الحرب – سواء في أوكرانيا أو في فلسطين.
وبالطبع كان الموضوع الثاني هو النفط ، فهناك العديد من المواضيع هنا ، أولا وقبل كل شيء، مصير اتفاق أوبك+ ، وهنا كانت الزيارة مناسبة للإجابة على سؤال استراتيجي ، هو ما الذي ستفعله أوبك+ بعد ذلك؟ ففي نهاية المطاف، بينما يعمل على خفض الإنتاج، والحفاظ على الأسعار مرتفعة، تستفيد بلدان أخرى من ذلك وتزيد الإنتاج ، وتأخذ مكان في السوق ، وبناء على ذلك، يتعين عليهم ( الامارات والسعودية و السعودية وايران ) أن تقرر ما إذا كانوا سيواصلون خفض الإنتاج أو تغير موقفها بطريقة أو بأخرى ، وبالنسبة لإيران فانه تمت مناقشة مسألة حصص الإنتاج لإيران بشكل منفصل ، حيث صرحت طهران ” أنها تعتزم في عام 2024 الوصول إلى حجم إنتاج وصادرات النفط قبل الأزمة ” ، وهي الآن لا تخضع لحصة الإنتاج، لأنها تخضع للعقوبات ، ولكن إذا وصل الإنتاج إلى مستوى ما قبل العقوبات، فربما حان الوقت لفرض قيود عليه، كما هو الحال بالنسبة لأي بلد آخر، علاوة على ذلك، وطرحت القيادة الروسية مع الرئيس الإيراني في موسكو هذه القضية أيضًا.
أما الموضوع الثالث هو بالتأكيد البريكس ، فقد اجتمع الرئيس بوتين مع رؤساء الدول الذين من المتوقع أن ينضموا اعتبارًا من 1 يناير 2024 إلى البريكس (حيث ستكون روسيا رئيسًا مع بداية العام الجديد) ، في وقت تقدم مجموعة البريكس وجهة نظر بديلة لكيفية هيكلة السياسة الدولية ، تتحد الدول الأعضاء في المنظمة بالرغبة في التخلص من الهيمنة الأمريكية، وكذلك خلق نوع من الاتحاد من التفاهم المتبادل مع الآخرين الذين تخلصوا منها و”تطوير التعاون الاقتصادي والتفاعل التجاري”.
إن رحلة بوتين إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية كانت واحدة من أهم مرحلة في تطوير العلاقات بينهما ، في الوقت نفسه باتت دليل للغرب على عدم جدوى محاولاته لعزل روسيا ، وتقول بلومبيرغ بسخط: “تظهر هذه الزيارة ثقة بوتين المتزايدة في قدرته على السفر خارج روسيا ، على الرغم من كل الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وأوروبا لعزله على المسرح العالمي”.
الزيارة الرئيس بوتين للمنطقة بحد ذاتها ، وكما أجمع المراقبين ، بأنها منحت الرئيس الروسي بإيجاد لغة مشتركة مع محاوريه في المنطقة ، في ظل عالم يتغير، والعولمة البدائية أصبحت بالية، ولم تعد الأساس الذي لا يتزعزع لـ “السياسة وفقًا للقواعد” ، ويتم إنشاء أسس الجديد من خلال الابتعاد عن المركزية الغربية ، وأكدت إن التوجه نحو الشرق يعني بناء مراكز نفوذ جديدة ، ولا تحتاج العديد من البلدان إلى الابتعاد عن الدولار فحسب، بل تحتاج أيضاً إلى إنشاء بنية تحتية تجارية واسعة النطاق خاصة بها ، وهكذا، فقد ضربت الصين بالفعل مثل هذا المثال من خلال بدء التداول في العقود الآجلة للنفط في بورصة شنغهاي.
كانت الجولة الخاطفة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لمدة يوم واحد بمثابة مفاجأة للكثيرين ، لكن، وبحسب المراقبين ، تبدو الزيارة منطقية تماماً ، فبالنسبة للكرملين، الذي يخضع لعقوبات غربية، أصبح الشركاء الشرقيون ذوو أهمية متزايدة ، وفي المقابل، بالنسبة لدول الخليج العربي، فإن التفاعل مع الجانب الروسي يمثل فرصة لاتباع سياسة متوازنة مستقلة عن موسكو أو واشنطن ، خصوصا وان روسيا تسعى جاهدة لتحقيق شيء آخر، وهو ما أكده بوتين ، “نريد إنشاء نموذج جديد، نموذج ديمقراطي حقًا، حيث تتولى المنافسة الحقيقية والعادلة لجميع المشاركين في النشاط الاقتصادي زمام الأمور”، حيث تكون المنافسة الحقيقية عادلة بين جميع المشاركين في النشاط الاقتصادي. يتم احترام آراء وتقاليد الجميع.