22 ديسمبر، 2024 5:14 م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد نا محمد (ص) وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد.
فالخلق والتصوير من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وخلق الانسان من ضمنها (مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) الكهف51.
فالله تعالى عندما خلق الانسان خلقه في أحسن تقويم، وكرمه أعظم تكريم، وسخر له الكون أفضل تسخير. وجعل الله الانسان خليفة له في الأرض، وللخليفة معانيان إما أن يخلف الله تعالى خلفاء يتصفون بالتقوى ويحكمون بين الناس بالحق والعدالة، كما جاء في الآيات لأدم وداود وبقية الأنبياء؛ أو أنهم يخلفون من بعدهم خلفاء مثلهم؛ أو أن الانسان يخلف بعضهم بعضاً عن طريق الولادة 
كلّف الله تعالى المؤمن بأن يؤمن بكافة أمور الغيب من دون السؤال عن سبب وعلة الخلق وفائدة الخلق، ومنها موضوع خلق الانسان. ولكن الله تعالى جعل الناس غير مكلفين في البحث عن جواب لماذا خلق الله الانسان؟ لأنه من الغيبيات؟ وعليه أن لا يسأل عما لا يعنيه. قال تعالى (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء، 23.
ولكن يمكن للانسان أن يسأل ويتعلم ماذا يجب عليه بعد الخلق وما وظيفته تجاه الخالق؟ وما الحكمة من خلقه؟ وعليه أن يسأل سؤاله على نية صادقة وخالصة، وله قيمة علمية والأسئلة الي تُسأل لا بد أن تكون منطقية مع الله تعالى. كما نرى في قصص نبينا إبراهيم (ع) (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الأنعام، 76ـ 79. استخدم العقل والجدال مع أبيه آزر وقومه عن عدم فائدة عبادتهم للأصنام، وأثبت لهم الخالق الواحد الأبد. ولكنه عندما أمر الله تعالى به أن يذبح ابنه اسماعيل، فأطاعه ولم يجادل الله تعالى أبدًا. ومن دون تفكير، استجاب له ولم يتردد في ذلك. ومثله ابنه اسماعيل.وقد يتبين هذا الأمر مخالفًا للعدالة الانسانية والعقل البشري، ولكن طاعة الخالق أكبر من ذلك. وهذا هو المطلوب من العبد الصالح. طاعة أوامر الله من دون جدال. فهو خلقهم ويعرف مصالحهم وأين تكمن سعادتهم. وهناك من الخلق يشك في وجود الله تعالى، فأرسل لهم الأنبياء ولكل نبي جعل معجزته، وحتى أن النبي موسى (ع) طلب رؤية الله تعالى لأجل إطمئنان القلب، وكذلك إبراهيم (ع) عندما طلب من الله كيفية إحياء الموتى، فطلب منه أن يضع أجزاء الطيور للجبال ثم يدعوهم إليه، ومعجزات كثيرة، وأخر معجزة النبي محمد (ص) هو القرآن الكريم. وبعد الايمان الخالص بالله فالمطلوب منه أن يؤمن بكل ما أنزل في القرآن واحاديث الرسول الصحيحة. من الغيبيات والأوامر والنواهي والأحكام الشرعية وغيرهاـ
أما عن وظائف الانسان تجاه الله مبينة في القرآن الكريم بشكل مفصل. لنبدأ من فاتحة الكتاب قال الله تعالى (الحمد لله ربّ العالمين. الرّحمن الرّحيم. مالك يوم الدّين. إياك نعبد وإيّاك نستعين) الفاتحة، 2ـ4. معناه على العبد الحمد لرب العالمين وهو الرحمن الرحيم لكل العباد مها أخطأ وعند التوبة يتوب عليهم، ولكن على العبادة الاستعانة به وعدم الشرك به. وقال أيضًا (ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم يُنفقون) البقرة، 1ـ3. ومقابل ذلك يحذر الله تعالى الكافرين والعاصين على كفرهم وعلى عاقبة أمورهم. قال تعالى (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم‏ الذي خلقك فسواك فعدلك‏) الانفطار، 7. (لهم في الدّنيا خزيٌ ولهم في الأخرة عذابٌ عظيم) البقرة، 114. (إنّ جهنم كان مرصادًا، للطاغين مآبًا) النبأ، 22.
ولكن أكثر أسئلة الكفار، يتضمن نية سيئة، فيسألون أسئلة فيها الكفر والفسوق والعصيان على الله، فمثلاً يقولون: لماذا خلقني الله من دون أن يسألني؟ ولماذا ابتلاني الله بعد الخلق؟ ونحو ذلك من الاسئلة.

أهم أسباب خلق الله تعالى الإنسان

1ـ أن الله خلق الانسان لكي يؤمن به إيمانًا مطلقًا وأن لا يُشرك به شيئًا:

فالايمان بالله تعالى يكون من دون أن يراه في الدنيا. فقال تعالى (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة، 62.
الايمان بالله وبالغيب من أفضل الأعمال عند الله تعالى، فهو يؤمن بالله وبالغيب من دون أن يراهم وهو قمة الايمان والتقوى عند الله تعالى، لذا يستحق صاحب الايمان أفضل المكافأت الإلهية. ومن الغيب: ذات الله ويوم الحساب والجنة والنار ونحو ذلك. وبعد إيمان المؤمن إيمانًا مطلقًا بوجود خالق هذا الكون لذا كذلك عليه أن يؤمن بالقرآن الكريم وبنبيه محمد (ص). والإنسان الغافل أو الجاهل في أوامر الله تعالى لا يشكل عذرًا للتخلص “لا قدّر الله” من نار جهنم خالدين فيها أبدًا. فعلى الإنسان أن يفكّر ويسأل لكي يتعلم حقيقة الله تعالى ووظيفته تجاهه. ولكن سؤاله وتفكيره هذا يجب أن يكون على نية صادقة وخالصة، وله قيمة علمية. ويجب أن لايكون نية السّائل من السؤال العبث في الغاية من خلق الله الانسان. فقال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) المؤمنون: 115-116. (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) يس، 36. لقد خلق الله تعالى الإنسان من ذكر وأنثى وأولادًا كثيرةً. ليكونوا عباد الرحمان الصالحين يقيمون شعائره، ويحكمون على شرعه لكي ينالوا رضاء الله ويتنعموا بنعمه الكثيرة.
ومن المسلَّم لدى العقلاء أن يعلموا أنه لمْ يخلق نفسه، بل كان معدوماً، والعدم لا يخلق شيئاً، ولم تخلقه الطبيعة، لأن الطبيعة هي عبارة عن الأحجار والأشجار والأنهار والبحار، وكل هذه صماء بكماء لا تعقل، وهي فاقدة للقوة والبصر والسمع والعقل، وغير ذلك. فكيف تعطي الإنسان ما هي فاقدة له؟‍!‍ وكما يقال (فاقد الشيء لا يعطيه)، ثم إن المصنوع مرآة لبعض صفات الصانع، فإذا نظرنا إلى باب البيت الخشبي سنجد ما يدلنا على بعض صفات صانعه، ففيه الإتقان الذي يدلنا على أن صانعه خبير بطرائق صنع الأبواب، قادر على تشكيلها، مالك للأدوات اللازمة لذلك، غير أن هناك صفات للصانع لا نعلمها خلال الباب، مثل: ماذا يحب من الطعام؟ وماذا يكره؟ وهل هو طويل أم قصير؟ ومن أصحابه؟ ومن أعداؤه؟ فهذه الصفات لا يمكن معرفتها إلا عن طريق من يعرف النجار. فهذا المثال الذي ضربناه إنما هو من باب التقريب للأذهان، ولله المثل الأعلى  فالله جل وعلا هو خالق كل شيء، ويمكننا معرفة صفاته عن طريق الوحي، ثم عن طريق آثار هذه الصفات، قال تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها) فآثار الرحمة تدل على الرحيم، وآثار الحكمة تدل على الحكيم، وهكذا.

2ـ وقد خلق الله الانسان من أجل العبادة والسجود والتسبيح والحمد والتقديس له:

لأنه لا يكون الملك ملكاً ـ ولله المثل الأعلى ـ إلا إذا كانت له رعية يتصرف فيهم، يقتل هذا ويعفو عن هذا، ويعطي هذا ويولي هذا، ويعزل هذا، فإذا كان ملك بلا رعية، فعلام يكون ملكاً؟! فالله أراد أن يظهر سلطانه في الأرض وحكمته البالغة، وقدرته النافذة، فيظهر بذلك أثر كرم الله تعالى وإحسانه ورحمته سبحانه وتعالى فأتى بآدم (ع). وشرفه وكرمه رب العالمين على هذه الأسس وحسب درجة عبوديته له. وهذه قمة العدالة للعباد، فقال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذريات، 56-58. ( قُل إنّما أُمرتُ أن أعبد اللهَ، ولا أُشرك به، إليهِ أَدعُوا وإليه مئاب) الرّعد، 36. فلا شيء أشرف للإنسان من أن يكون عبدًا محضاً لله تعالى وحده، يأتمر بأمره، وينتهي بنهيه، ويتوجه بتوجيهاته، ويسير على صراطه المستقيم، لا نصيب لغير الله تعالى فيه. قال الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الزمر، 29. ويمكن أن نقول هنا أنه لو خلق الله الإنسان لغير العبادة، لكان مثل البهائم يعيش هملا يأكل ويشرب ويتكاثر، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة للإنسان نفسه، والمنافاة لحكمة العليم الحكيم. فالحاصل أن الله تعالى ما خلق الإنسان عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما خلقه لعبادته والتقرب إليه سبحانه. ومن كمال ربوبيتة وألوهيته أن يُعبد ويُوحّد ويُمجد سبحانه وتعالى.

3ـ وقد خلقه الله لتجلى الأسماء الحسنى والصفات العلا لله على عباده لدلالة التوحيد:

أي توحيد صفات الله وتجليه على الانسان وعند تجلي صفات الله على العباد، عليه أن يكون لائقًا لهذه الصفات، وأن لا يتبع الصفات الشيطانية التي ابتلا الله العباد بها. وقد أتصف الأنبياء والرسل والصالحين حسب قدراتهم ودراجاتهم. ولكل صفة من صفات الله واسم من أسماء الله تعالى آيات وحكم لعباده الصالحين فمثلاً :

قد نرى أن الله تعالى يريد أنه يحسن صبغته على عبده المتمثلة في الروح: قال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً) البقرة، 138. بمعنى أن يحمل الإنسان صفات الله ويتصف بمثله. والكمال لله تعالى.وما خلق شيئاً عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما يخلق لحكم بالغة، ومصالح راجحة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. وعندما نفخ الله تعالى من روحه للإنسان، يريد أن يرى تجلي صفاته على عبده المطاع، قال تعالى (ونفخ فيه من روحه) السجدة، 9. (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر، 29.

وقد نرى أن الله تعالى يظهر على عبده أنه غفور ورؤوف رحيم وأنه محيي ومميت ومالك الملك:
إذًا كيف نعرف أنه غفورٌ رحيم إذا لم نر غفرانه في الدنيا والأخرة. أ تأتي إلى ملك من الملوك فتقول: يا حليم وهو ما سبق له أن حلم عن أحد، وتقول: يا جواد، وهو ما سبق أن أعطى أحداً، وتقول: يا قوي، وهو ما سبق أن هزم جنداً، لا، لابد أن تظهر الأسماء والصفات في المخلوقين. فهو الغفور الرحيم، فلذلك أذنب آدم فظهرت مغفرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأخرجه من الجنة فظهرت قدرته، وسلط الله على بعض عباده العذاب فظهر أنه شديد العقاب. وخلق الإنسان من العدم ثم من نطفة، وسيحييهم بعد الموت، فيدل على أنه المحيي والمميت. وهكذا. ومن أجل إظهار صفاته أنه المحي، والقابض، والودود والرزاق والمحصي شجع الله الزواج الحلال، والزواج من الودود والولود. وحرم هلاك الحرث والنسل وقتل الأولاد خشية إملاق وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلاّ بالحق.

وقد يظهر وتجلى صفات الله الأخرى على الانسان: مثل الخالق والمصور السلام والرحمة والعدل والحليم والودود والغني والهادي والشكور والكريم والوهاب والرزاق ونحو ذلك. فخلق الخلق والانسان من العدم وصورهم أحسن تصوير، وكان بإمكانه أن لا يخلق الإنسان، ولا أى مخلوق آخر. ولكن الله بكرمه وجوده ورحمته خلق الكائنات والجن والإنس وغيرها وسيخلق كائنات أخرى وأقوام وأمم أخرى كما علمنا القرآن الكريم. وبكرمه ازداد ذرية بني آدم بالزاوج الصحيح وسيزداد إلى يوم القيامة، وأنعمهم بالنعم الكثيرة وسيستمر إلى يوم القيامة، وسوف يكرمهم بنعم أكثر في جناته الواسعة التي تسع كل البشرية الذين ولدوا والذين سيلدون إلى يوم القيامة، وبرحمته يرحم ويغفر ذنوب الفاسق والعاصي عندما يلجأ إلى الله ويتوب إليهم. وهو بذلك أمر عباده أن يتصفوا بصفاته.
والله تعالى خلق الانسان بالحق: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) الأنبياء، 16. ويقول سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الدخان، 38. والمؤمن يفكر في خلق الله من أجل الايمان به. وقال أيضًا (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أل عمران، 191.

وأضيف وأقول وقد يكون أحد أسباب طرد آدم وحواء من الجنة وأن يعيشا في الدنيا لكي يتزاوجوا ويكثر ذريتهم وبكرمه وجوده أن يدخل أعداد كبيرة من الناس في الجنة، بالإضافة إلى تعليم الإنسان أن الدخول إلى الجنة ليست بهينة.

4ـ وقد خلق الله الانسان لأجل النجاح من الابتلاءات وأن يعرف أنّ الجنة ليست بهينة:

فعند الابتلاء يظهر أبرار الناس من أشرارهم، فمن عمل بما أمره الله فهو من الأبرار، وصار أهلاً للدخول إلى الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، فعيه عدم الأعرض عن ذكر الله،. قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه، 124. وقال: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت، 2-3. وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك، 2. ( لكل ّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات..) المائدة، 48. فالمؤمن يدرك أن الحكمة من خلقه الابتلاء والامتحان، وكل عمل في حياة الدنيا فهو ابتلاء. فعلى العبد أن يعمل ويسعى في عبادة ربه، وأن يستعد للقاء الله في يوم يشيب فيه الولدان، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. لأن الابتلاء أتٍ فلا محال وقد تكون في شبابه أو بعد زواجه أو بعد كبر أولاده أو بعد الشيب. وأكبر من يبتلي به من الناس هم الأنبياء ثم الأولياء، حتى يكونوا قدوة وأسوة حسنة في تحمل الابتلاءات والصبر والشكر عليها.

5ـ وقد خلق الانسان ليكون خليفة الله في الأرض من أجل اقامة العدالة في الأرض:

قال الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة) البقرة، 30. وتفسير كلمة الخليفة كما ذكرنا إما أن يجعل الله تعالى خليفة له في الأرض ليعمر الأرض، بالصلاح والتقوى والحكم بين الناس بالحق والعدالة الالهية، كما جاء في الآيات لأدم وداود وبقية الأنبياء؛ أو أنهم يخلفون من بعدهم خلفاء مثلهم؛ أو أن الانسان يخلف بعضهم بعضاً عن طريق الولاد، وقال أيضًا (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)”فاطر:40. (ثم جعلناكم خلائف في الأرض)”يونس، 15. (وإذا حكمتُم بين النّاس أنْ تحكُموا بالعدل) . وآيات كثيرة.
ويمكن أن نضيف هنا أن الله تعالى لم يخلق الانسان من أجل البغض والشقاء، فقال تعالى (ما ودّعك ربّك وما قلى، وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى) الضحى، 3ـ5. (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، الاّ تذكرة لمن يخشى) طه، 1ـ3.

6ـ وقد خُلق الانسان لأجل معرفة العبد عن سبب خلقه وعن وظائفه تجاه الخالق:

لقد رأينا اختلاف العلماء حول الغرض الأسمى والرئيسى من خلق البشر فى هذا الكون، فبعضُهم قال: إنّ الهدف هو عبادة الله سبْحانه وتعالى، والبعض الآخر قال: المُحافظة على النوع البشري وزيادتها. وقال غيرهم أنّ الهدف الأسمى هو الخلافة في الأرض وتعمير الكون. أو تجلي صفات الله على البشر ودخول الجنة ليست بهينة يحتاج إلى الصبر على البلاء والشكر عليه وهكذا.
وبعد البحث عن أسباب خلق الله الانسان، على الانسان أن يكون حذرًا تجاه وجباته تجاه الله تعالى وأن ينفذ أوامر الله وأن لا يخطأ كما أخطأ آدم وحواء في عدم طاعة أوامره في الجنة. هذه من ناحية ومن ناحية أخرى لكي يعرف قيمة العيش في الجنة العالية، بالنسبة إلى الدنيا الفانية المرهقة، ولا يطلب هذه الدنيا الفانية إلاّ من الفاسق والكافر. وأكثر الذين آمنوا بالله تعالى، أمنوا به بعد السؤال والتفكير والتعقل عن حقيقة الله ثم عرفوا عظمته وعرفوا أنه مالك ملك السموات والأرض وما فيها وما عليها، وعرفوا أنهم لم يخلقوا عبثًا، وأنه هناك الأخرة ويوم الحساب والجنة والنار، وعلموا انهم مسخرون لطاعته بأمر من الله تعالى ولا حول لهم ولا قوة الاّ بالله العظيم.
ونحن نسأل العلمانيين الذين يسألون مثل هذه الأسئلة، أنتم أثبتم على أن لكل شيء في الحياة له حكمة، ونحن نسأل أ ليس في خلق الانسان كله حكمة؟ فلماذا لا تقولون أن لخلق الانسان والكائنات حكم إلهية، وقد يعجز عقولنا لمعرفة أكثرها!!

الايمان بإزلية وجود الله وخلقه الكون والانسان

1ـ دلائل عقلية على وجود الله تعالى.

والإيمان بالله غريزية ونظرية: ففي الأولى تكون بالفطرة التي فطره الله بهم، فكل البشرية يعلم أنه يوجد قوة خارقة في الكون وهو الله أوالإله لقد خلقهم وخلق الكائنات وأنه يحيهم ويميتهم ويرزقهم ويشفيهم فقال تعالى (الَّذِي خَلَقَني فَهْوَ يَهْدِيني وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُني وَيَسْقِيني وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتَني ثُمَّ يُحْيينِ وَالَّذِي أطمَعُ أنْ يَغْفَرَ لِي خَطِيئَتي يَوْمَ الدِّينِ) الشعراء، 78ـ82. وفي الثانية تعتمد على الاستدلال العقلي وبالعلم الذي علم الله أدم الأسماء كلها، وعلمهم بالقلم. وبالعقل المهداة من قبل الله تعالى إلى الإنسان، يكون التعلم والتفكير والتدبر في خلق السموات والأرض. والعقل الإنساني يقول: لو كان في الكون ألهتان أو ألهة كثيرة لفسدت الأرض والسّماء فقال تعالى (لو كان فيهما ألهةً الاّ الله لفسدتا، فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون لا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون) الأنبياء، 22، 23.
وتأتي العلوم عن طريق الوحي ونزول المصاحف والكتب السماوية إلى الأنبياء، وأكبرها القرآن الكريم والتي يعتبر أساس مصادر العلوم، وأساس إثبات وجود الله تعالى. قال تعالى (بَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِين وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) البقرة، 213.
وتأتي العلوم كذلك عن طريق أحاديث الأنبياء وبالأخص أحاديث أخر الأنبياء وهو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. وفي هذه العلوم إعجاز علمي فيثبت وجود الله تعالى.
وهناك شهادات العلماء والفلاسفة المسلمين وغير المسلمين من الدول الغربية على الإيمان بوجود الله منذ الأزل. ومن هذه الفلاسفة (1ـ طاليس. 2ـ أرسطو . 3ـ أفلاطون. 4ـ آنا كساغورس. 5ـ أكزنوفنس. 6ـ بارمنبدس. 7ـ مليسوس “تلميذ بارمنبدس”. 8ـ نيوتن. 9ـ فيتاغورس. 10ـ عمانؤيل. 11ـ عمانئيل كانت. 12 ـ ديكارت.  13ـ سقراط. 14ـ جان جاك روسو. 15ـ جون لوك. 16ـ كانت. 17ـ فرانسيس بوتر. 18ـ شيلر). وغيرهم. لذا من العبث أن نتعمق في السؤال عن وجوده، لأن الله خلق الكائنات كلها من العدم. وليس من المنطق أن تكون الصدفة وحدها هى المسؤولة عن كل ما نحن فيه من نعمة ونظام محكم ومدبر ومركب فهذا أكبر من حجمها بكثير، وليس من المنطقي أن ينتج عن الفوضى نظاماً أو العكس وليس من الطبيعي أو المنطقي أن ينتج شيئاً من لا شيء (فاقد الشيء لا يعطيه) لذا وجب وجود إله يدبر أمور هذا الكون العظيم والمستمد عظمته من عظمة الله عز وجل منطقي وعقلي. وعلم الاجتماع والتاريخ الإنساني كله يري أن الإنسان مخلوق متديّن، ذو ميول طبيعية دينية، حتى أنه لم يوجد شعب في عصر أو مكان بدون ديانة ما، ولا وُجدت لغة في العالم خالية من اسم الله أو ممَّن هو في مقام الله. وبما أن اللّغة تعبّر عن أفكار الإنسان وإحساساته يكون ذلك دليلاً على أن شعور الإنسان بوجود الله عميق في قلوب المجتمعات البشرية. لا يقدر مخلوق أن يعرِّف الله كما هو، وإنما يمكننا أن نعرِّفه بما يميزه عن كل من سواه، كأن نقول أنه قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، حكيم قدوس عادل رحيم رؤوف، كثير الجود واكرم والإحسان. وهو غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله وجودته وحقه. وأنه إله فهو فرد صمد واحد أحد لا زوجة له ولا صاحبة ولا ابنة ولا ولد.
ومن.الأدلة على إثبات وجود الله: فلينظر الانسان إلى نفسه وكيف أنه خُلق من الطّين ثم من ماء دافق وليفكر من الذي شاء فخلقه ؟ وكيف أنه يموت ولا يستطيع أن يحيي نفسه. ولينظر كيف خلق السموات العلا بقدر؟ ولينظر كيف أن الحيوانات والنباتات والجبال والشمس والقمر مسخرات لأجل الانسان؟ وكيف أنهم خلقوا في زمن قريب من قبل الله تعالى، وكيف أن العلم أثبت أنهم لم يكونوا موجودين في الأزل.

2ـ إثبات الأعرابي على وجود الله تعالى:

سُئل إعرابي عن الدّليل على وجود الله تعالى فقال: البعرة تدل على البعير، والرّوثة تدل على الحمير، وأثار القَدم تدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج وأرضٍ ذات فُجاج وبحار ذات أمواج أما تدلّ على الصانع الحليم العليم القدير. هذا هو الأسلوب السّليم في الوصول إلى الحقائق فيكون بالتفكر والتعقل والسّؤال عن الملموسات والمواد، ونحن كبشر مسؤولون عن معرفة الحقائق وصحة الجواب، والقرآن الكريم يؤكد وبشكل مفصل على هذا الموضوع ويأمرنا على السؤال وطلب العلوم في كافة المواضيع عدا الأمور الغيبية ومواضيع ما وراء الطبيعة لأننا لسنا مسؤولون عنها ومهما استطعنا في البحث عن حقائقها نبقى عاجزين أمامها وما علينا إلاّ السمع والطاعة أمام عظمة خالق هذا الكون.

3ـ دلائل لعلماء الجيولوجيا والطبيعية على عدم أزلية العالم (الكون).

(1) العالم على هيئته الحاضرة متغيّر على الدوام، وكل متغيّر حادث. وإلا لزم وجود سلسلة أزلية من التغييرات، كل حلقة منها غير أزلية، أي لها بداية. وهو محال.
(2) الحقائق الجيولوجية تبيّن أن العالم على حالته المركبة ليس أزلياً، فقد توالت عليه تغيرات عظيمة وكثيرة، وتعاقبت عليه سلسلة نُظُم، آخر حلقة فيها هي النظام الحالي. أما القول بأزلية أصول الكون، أي العناصر المركب منها فيستلزم أن المواد قائمة بنفسها، وواجبة الوجود، أي مما لا نقدر أن نتصوَّر عدم وجوده، وهو باطل. والمادة ليست واجبة الوجود، ولا قائمة بنفسها، ولا أزلية. ويعلّمنا الكتاب المقدس أن الكون على هيئته الحاضرة نُظِّم بيد الخالق القدير. وعلى فرض صحة القول بأزلية العناصر، لا ينتج من ذلك أن الكون نشأ على حالته الحاضرة من نفسه، لأن العناصر الأصلية بلا حياة وليس لها عقل ولا إرادة ولا قدرة على إيجاد أمرٍ ما. فإذا سلّمنا بأزليتها بقي لزوم بيان علة كافية لحياة الكون وتركيبه ولعقل البشر وقواه.
والخلاصة أن الاستدلال على أن العالم معلول أزلي هو أنه مركب، وكل مركب حادث، ومعروفٌ أن الكون مركب من عناصر بسيطة، وكل مركب معلول. والعناصر البسيطة إما أزلية أو حادثة. فالأول باطل لأن الأزلي واجب الوجود، بخلاف العناصر البسيطة التي يمكن تصوُّر عدمها. وبما أنه لا يُحتمل التصديق أنها أحدثت نفسها لأنها إن كانت علَّةً لنفسها لزم أن تكون قبل أن تكون، وهو محال. وقد تبرهن فساد القول بأزليتها، فلا بد أنها معلولة، وأن لها علةً أزلية أو محدثاً أزلياً. ومهما تكررت المعلولات لا يمكن أن يكون أحدها العلة الأصلية للباقي. فإذا كانت السلسلة المركبة من ثلاث حلقات لا يمكن ثبوتها في الهواء من نفسها، فكم بالحري إذا كانت مركبة من ألوف الحلقات. فإذا لم نجد في أنفسنا سبباً أصلياً لوجودنا ولا في آبائنا وأجدادنا، فمهما رجعنا إلى الوراء لا نصل إلى العلة الأصلية في نفس السلسلة. فنلتزم حسب مقتضى العقل أن نسلّم بوجود علة خارجية واجبة الوجود لها قوة كافية لإحداث العالم وكل ما فيه. وقد اضطر الفلاسفة في كل قرن للتسليم بذلك، فقد أثبت أفلاطون وأرسطو وجود المحرك الأول من وجود الحركات الظاهرة في العالم.
ويشهد علم الجيولوجيا أن الأرض معلولة، بدليل:
(1) كل أنواع الحيوان والنبات المعروفة الآن حديثة العهد بالنسبة إلى مدة وجود العالم.
(2) المواد الحالية من الحياة لا يمكن أن تولّد حياة في نفسها ولا في غيرها، بل الحياة وحدها تُحدِث الحياة، أي لا حي إلا من حي.
(3) بعد الفحص الكافي لم يتبرهن أن نوعاً من المخلوقات الحية استحال إلى نوع آخر، فالأنواع الحية ثابتة لا يتولد منها شيء تختلف حقيقته عن حقيقة نوعه. فلا بد لكل نبات وحيوان من بداية، وما له بداية هو مخلوق، والمخلوق لا بد له من خالق. وتشهد العلوم الحديثة أن عمل بعض القوات الطبيعية لا يصح أن يكون أزلياً كالحرارة مثلاً، فإنها على خصائصها المشهورة لا يمكن بموجب تلك الأدلة أن تكون أزلية، ولا بد لها من بداية. فإذا ثبت أن للكون بداية كان السؤال: ما هو سببها، وكيف نشأت؟ والجواب: هو أن ذلك لا يمكن بيانه بل يستلزم التسليم بعلّة أصلية لتلك البداية. ومهما رجعنا إلى الوراء في البحث عن تاريخ الموجودات لا نقدر أن نجيب على هذا السؤال، لأنه وإن صحَّ الرأي السديمي في كيفية تكوين الكون نبقى مفتقرين لمعرفة علة أصلية له، لأنه لا بد له من بداية، وذلك يستلزم مُبدئاً. ثم إن الحياة لا بد لها أيضاً من مبدئٍ، لأن المواد الخالية من الحياة لا تولّد حياة، وكذلك العقل بجميع قواه السامية لا بد له من مبدئٍ. فيلزم وجود خالق هو علة العلل ومبدئ المادة والحياة والعقل.

4ـ القواعد الأربعة للوصول إلى أنّ الخالق ليس بحادث.

1ـ لا بُدّ لكل حادث من محدث: إذن فهذا العالم لابُدّ له من خالق، فإنكارهُ ضلال وخطأ.
2ـ أنّ هذا الخالق كامل مطلق: فنسبة العجز والافتقار إليهِ، ضلال وخطأ.
3ـ أنّ الكامل المطلق لا يفتقر إلى الموجد: فالسّؤال عن خالق الخالق، ضلال وخطأ.
4ـ يُعرف الكامل المطلق ولا يُحاط بهِ: فتوقف الإقرار بهِ على الرّؤية أو الأحاطة، ضلال وخطأ  .

وقال الشيخ أحمد النجمي في كتابه المورد العذب الزلال ص(49)

جوبًا لسؤال: لماذا خلق الله الإنسان؟ ما هي الحكمة من خلقه؟ وماهي الغاية التي يسعى إليها، والنهاية التي سيصل إليها؟ فيقول: هذا السؤال قد ضلت في الإجابة عليه العقول وتحيرت فيه الفهوم وتخبطت فيه مدارك الفلاسفة والحكماء والعلماء والعباقرة من ذوي الفهم الثاقب والذكاء الخارق فضلاً عن غوغاء الناس، لا يستثني من ذلك إلا العقول التي استنارت بوحي الله واهتدت بهداه واتبعت رسله فهي التي عرفت الإجابة عن هذا السؤال بالتلقي عن الله وعن رسله، ومن هنا نعلم علم اليقين أن العقل لا يمكن أن ينفرد بعلم العقيدة لأنه علم يرتبط بالغيبيات، والغيبيات إذا نطق فيها العقل بعيداً عن الوحي ضل وتاه وارتبك وتخبط تخبطاً عجيباً وتصور تصوراً غريباً، ذلك لأن العقل ماهو إلا أداة لتصور المعلومات التي تصل إليه من طريق الحواس ومتى تجاوز ما يحيط به في الأرض وقع في متاهات كبيرة وانحدر إلى مزالق خطيرة قال تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الأنعام، 122. نعم بإمكان العقل أن يستدل من خلال مشاهداته ومسموعاته أن ربه وخالقه ورازقه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. ذو القدرة العظيمة والحكمة البالغة والعلم الشامل والألطاف الخفية، قال تعالى: (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم، إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون. أولم يرو أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) السجدة، 26ـ27. وإذا علمت أن العقل عاجز عن الاستقلال بمعرفة الحكمة التي من أجلها خلق الإنسان فعليك أن تتعرف على الحكمة التي من أجلها خلق الإنسان من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فقد بين الله تعالى في القرآن الكريم الذي قال عنه منزله جل وعلا (ما فرطنا في الكتاب من شئ) الأنعام، 38. بين حكماً وأحكاماً هي أقل شأناً من هذا الأمر العظيم كيف لا وهو أهم المهمات وأعظم الواجبات إذا فالحكمة التي خلق الله الإنسان من أجلها هي العبادة قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات، 56. فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الجن والإنس للعبادة، فالعبادة هي الحكمة التي من أجلها خلقوا ومن أجلها خلق الله السموات والأرض والدنيا والآخرة والجنة والنار ومن أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وسن الأحكام وبين الحلال والحرام ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، قال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) الملك، 2. وذلك أن الله خلق عباده وأخرجهم لهذه الدار وأخبرهم أنهم سينتقلون إلى دار أخرى، وأمرهم ونهاهم وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره ونهيه فمن انقاد لأمر الله أحسن الله له الجزاء في الدار الاخرة ومن مال مع شهوات النفس ونبذ أمر الله وارتكب نهيه فله شر الجزاء” تفسير السعدي (7/429) بتصرف. فالعباد جميعاً خلقوا للعبادة ولكن لما كان منهم من خلق للعبادة من دون ابتلاء بمضاد كالملائكة، فهذا القسم صارت العبادة سجية لهم لا يريدون غيرها، قال تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) الأنبياء، 26ـ28. ومنهم من خلق للعبادة مع ابتلاء بمضاد كالجن والإنس الذين جبلوا على خلائق وسجايا تنأى بهم غالباً عن الطاعة وتوقعهم في المعاصي ابتلاء من الله لهم وذلك كالابتلاء بالشهوات، شهوة المطعم وشهوة المشرب، وشهوة المنكح، وشهوة القهر، والتغلب، والاستعلاء، ونحو ذلك. وكما ابتلاهم بقرناء السوء وبالشبه التي تلقى في قلوبهم الشكوك لأن إيمانهم بالغيب. وفوق ذلك الابتلاء بالشيطان الرجيم ذلك العدو اللدود المتربص الذي مازال منذ أن أخرج أبانا آدم من الجنة حريصاً على إغواء بنيه وإيقاعهم في الكفر والشرك والفسوق والعصيان لذلك كانت العبادة في حقهم ابتلاء واختباراً للدواعي المضادة لها، فمن استجاب لتلك الدواعي والنوازع وأطاع الشيطان كان من الغاوين الذين يستحقون دخول النار كما قال تعالى (قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) ص، 84، 85. وأما من قدم طاعة الله وحرص على رضاه واتبع رسله والتمس حل الشبهات من شرعه واستعمل الشهوة فيما أباح الله فذلك هو المؤمن حقاً الموعود بالدرجات العلى في جنة الفردوس. وأما الغاية التي يسعى لها فهي تختلف باختلاف الناس وثقافاتهم وعقائدهم، فمنهم من عرف ربه وعرف حقه عليه وآمن بلقائه وعلم قدر الدنيا وأنها ما هي إلا معبر ومنفذ ومطية إلى الآخرة فأخذ منها ما يصلحه وتزود منها ما يوصله إلى رضى ربه وجنته، وتلك هي الغاية التي يسعى لها. ومنهم من جهل ذلك ولم يعرف ربه ولم يؤد حقه ولم يؤمن بلقائه؛ بل ظن أن الدنيا وحياتها ولذاتها هي الغاية فسعى لها ورضي بها واطمأن إليها وشمر في جمعها وأفنى عمره في لذاتها، وتلك هي غايته التي يسعى إليها، ولقد تحدث القرآن الكريم عن القسمين وبين حال كل من الفريقين فقال تعالى وهو أصدق القائلين: (إن الذين لا يرجون لقائنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم إن عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون). (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) يونس، 7ـ10. ونهاية الانسان في الدار الاخرة، إما في الجنة، وإما في النار، قال تعالى (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعوا ثبوراً ويصلى سعيراً) الإنشقاق، 6ـ12.
والله الموفق.