تؤشر مجمل المواقف والتوجهات الرسمية وغير الرسمية العراقية على امتداد سبعة عقود من الزمن الى رفض الوجود الصهيوني في فلسطين، ورفض كل مشاريع التطبيع التي اقدمت عليها بعض الاطراف العربية والاسلامية.
قد تكون هناك استثناءات، وقد تكون هناك مواقف وخطوات وتحركات غير معلنة من هذا الطرف او ذاك في مرحلة او مراحل ما، بيد ان تلك الاستثناءات والمواقف والخطوات والتحركات غير المعلنة، لم تؤثر على المسار العام ولم ترسم صورة اخرى ولم تبلور انطباعات غير تلك التي ترسخت في الاذهان.
حقائق ومصاديق
ولعل المتابع لايحتاج الى كثير من الجهد والوقت للعثور على حقائق وامثلة ومصاديق لعموم المواقف والتوجهات العراقية الرافضة لاسرائيل كوجود هجين واحتلال ظالم لارض او اراض عربية فيها رموز دينية-اسلامية مقدسة.
ففي الحرب العربية الاسرائيلية الاولى في عام 1948 بعد تأسيس الكيان الصهيوني، شارك العراق بعدد كبير من المقاتلين، وكان دوره وحضوره فاعلا في عدد من محاور القتال، وفي حرب 1967، شارك الجيش العراق مرة اخرى بقوات مدرعة، وكانت مشاركته على نطاق اوسع في حرب اكتوبر 1973 بقوات برية وجوية، حيث قدم اكثر من ثلاثمائة شهيد بعضهم من الضباط الطيارين.
هذا على الصعيد العسكري الميداني، اما على الصعيد السياسي، فقد كان الموقف العراقي واضحا الى حد كبير من مبادرة السلام التي اطلقها الرئيس المصري الراحل انور السادات بزيارته المفاجئة لتل ابيب في تشرين الثاني-نوفمبر من عام 1977، والتي تبعتها زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي في ذلك الحين مناحيم بيغن للقاهرة، لتتكلل في نهاية المطاف بأبرام اتفاق كامب ديفيد برعاية اميركية في اذار-مارس 1979. حيث كان العراق سباقا الى قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر كما فعلت اغلب الدول والحكومات العربية، ولم تخرج المواقف العراقية حيال مجمل خطوات مسيرة التسوية العربية مع تل ابيب، من اتفاق وادي عربة مرورا بأتفاقيات مدريد واوسلو وواي بلانتيشن وغيرها ، لم تخرج عن سياق الموقف الرافض، رغم ان سياسات نظام حكم حزب البعث الحقت الضرر بالقضية الفلسطينية، وساهمت بأضعاف المواقف العربية ضد تل ابيب، ولعل الحرب العراقية-الايرانية(1980-1988)، وكذلك غزو دولة الكويت وحرب تحريرها (1990-1991)، تعد امثلة ومصاديق شاخصة على ذلك.
وبينما كانت واشنطن وتل ابيب واطراف اخرى، تأمل ان تساهم الظروف والاجواء التي افرزتها عملية الاطاحة بنظام صدام، والمساحة الواسعة من الحرية والانفتاح التي توفر بعد ذلك، في تمهيد السبيل لمد الخطوط والجسور بين بغداد وتل ابيب، برزت اتجاهات مضادة معاكسة ورافضة تماما لاي مشاريع ومخططات من هذا القبيل.
ربما نجح الكيان الصهيوني، من خلال توظيف ادوات الحرب الناعمة، اعلاميا ومخابراتيا، في تحقيق بعض الاختراقات في المنظومة السياسية والثقافية والاجتماعية والامنية العراقية، بيد ان مثل ذلك النجاح لم يكن كافيا لاحداث تحولات ومتغيرات يعتد بها، وابسط دليل، هو لم يجروء حتى الان اي طرف سياسي او غير سياسي عراقي على الترويج والتشجيع على اقامة علاقات مع تل ابيب، ويمكن ان تكون ردود الافعال الغاضبة على الزيارة التي قام بها النائب السابق في مجلس النواب العراقي مثال الالوسي في ايلول-سبتمبر من عام 2008، والذي كشف فيما بعد ان النائب الحالي فائق الشيخ رافقه في زيارته، لكنه طلب التكتم على الموضوع وعدم التقاط اي صور له!، يمكن ان تكون مقياسا لحقيقة المزاج والموقف الرسمي والشعبي العراقي تجاه تل ابيب.
وحينما نقترب كثيرا من الواقع الراهن، فأننا نجد في مواقف مختلف القوى والشخصيات السياسية والدينية والمجتمعية العراقية الرافضة والمستنكرة لاتفاقيات السلام الاخيرة بين كل الامارات العربية المتحدة والبحرين والكيان الصهيوني برعاية ومباركة الولايات المتحدة الاميركية، تعزيزا وتأكيدا وترسيخا للموقف التقليدي المعروف.
التطبيع .. خط احمر!
ولعل الامر المهم يتمثل في انه بالاطار العام، تتفق مختلف المكونات والقوى والتيارات المجتمعية والسياسية والفكرية العراقية على رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، علما ان طبيعة تركيبة ونسيج المجتمع العراقي والعوامل المساهمة والمؤثرة في بلورة مواقفه واتجاهاته المختلفة، نادرا ما تتيح التوحد والاجماع على رؤية موحدة حيال قضية معينة.
لماذا يرفض العراق، كمنظومة سياسية ومجتمعية، على طول الخط، التطبيع مع الكيان الصهيوني؟.
من خلال مجمل المواقف العراقية حيال القضية الفلسطينية ومشاريع التطبيع على امتداد اكثر من سبعين عاما، يمكن التأشير الى نقاط محددة وواضحة بهذا الشأن:
اولا: تقوم الرؤية العراقية على حقيقة ان الكيان الصهيوني وجود شاذ وغير قانوني، تشكل عبر مؤامرات دولية على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الطبيعية الاصيلة على ارضه، وقد اعتمد ذلك الكيان في ترسيخ وتكريس وتوسيع وجوده على الحروب والعنف والارهاب، لذا من الخطأ اللجوء الى خيار السلام مع كيان لايمت الى السلام بأي صلة.
ثانيا: يمتلك العرب امكانيات ونقاط قوة كثيرة وكبيرة، بيد انه لم يتم استثمارها وتوظيفها بالشكل الصحيح في مواجهة الكيان الصهيوني والداعمين والمساندين له، وبدلا من ان يكون هناك موقف عربي موحد ومتماسك، تسببت مظاهر التشضي والتفكك والانقسام بين الانظمة والحكومات العربية بمستوى فاضح من الضعف والخنوع والانكسار العربي، استغله الكيان الصهيوني بصورة خبيثة ليحقق يوما بعد اخر المزيد من المكاسب.
ثالثا: اثبتت التجارب ان انتهاج الخيار السلمي القائم على المفاوضات من قبل بعض الاطراف العربية-واخرها البحرين والامارات-لم يفض الى اي نتائج ايجابية، لان المنطلقات والاسس التي كانت تقوم عليها المفاوضات خاطئة وغير واقعية ولا متكافئة، وغالبا ماكانت تستند الى مصالح وحسابات ضيقة، بحيث انه بعد مرور اكثر من اربعين عاما على ابرام اتفاقية سلام بين مصر والكيان الصهيوني، واكثر من خمسة وعشري عاما على ابرام اتفاقية مماثلة بين الاخير والاردن، تمخضت عنهما اقامة علاقات دبلوماسية وتبادل فتح السفارات، الا ان التطبيع الحقيقي بين الشعوب والمجتمعات لم يتحقق، وبقي الكيان الصهيوني بنظر المواطن المصري والاردني كيانا عدوانيا غاصبا لايمكن بأي حال من الاحوال التصالح والتعايش معه.
رابعا: رغم التوجهات السلمية الانهزامية لبعض الانظمة والحكومات العربية، خلال الاعوام القلائل الماضية، الا انه في مقابل ذلك اتسعت ميادين وجبهات الرفض والمواجهة لتل ابيب-سياسيا واعلاميا وثقافيا وعسكريا-حتى ان التقديرات والقراءات العامة لتلك التوجهات الاستسلامية، تؤشر الى انها لم توفر الامن والاطمئنان والاستقرار الحقيقي للكيان الصهيوني، بل ربما في جوانب مختلفة تكون قد عمقت ازماته ومشاكله، لسبب بسيط يتمثل في انه كلما زادت موجة الانبطاح والاستسلام للصهاينة من قبل البعض، تصاعدت وتيرة المقاومة، وتعددت اشكالها وصورها واساليبها وادواتها.
هذه هي الصورة العامة لما تراه بغداد لمشاريع التطبيع، سواء انطلقت من القاهرة او من عمّان او من ابو ظبي او من المنامة او غيرها من العواصم العربية، المعلن منها او المستور، لافرق في ذلك بالمرة!.
—————————-
*كاتب وصحافي عراقي