جرت العادة ان تتطلع الشعوب وترنو المجتمعات في اوقات المحن والأزمات والتحولات العاصفة الى دور انقاذي للمثقفين ، باعتبارهم حبل نجاة للمجتممعات الساكنة الخاملة ، وكنوع من الاقرار بوظيفتهم ودورهم الريادي الخلاصي في حمل مشعل التغيير وقيادة المجتمع من الوجهة الثقافية والتأثير فيه ، وقيادة العمل الوطني والكفاحي الثوري ، والوقوف في صدارة الاحداث وطليعة النضال والصفوف الامامية ، والاسهام في اعادة بناء وتأسيس الوعي النقدي وتوليد الأفكار الجديدة ، وتجديد القيم الثقافية والفكرية والمجتمعية وتجذيرها ، التي يفترض انهم الأقدر على بنائها وتذويتها ، فضلاً عن الـتأثير في الشأن العام للمجتمع سعياً لتغيير الواقع السياسي السائد والقائم .
وعلى امتداد التاريخ البشري لعب المثقفون دوراً طليعياً وريادياً وتعبوياً هاماً في مجتمعاتهم وقيادتها والتاثير فيها ، ولكن للأسف الشديد ان دور المثقفين والنخب الطليعية في عصرنا آخذ بالتراجع والانحسار الى حد التلاشي ، وبرز ذلك جلياً خلال انتفاضات وثورات ما يسمى بـ “الربيع العربي ” ، وقد غاب دورهم في المناخ السياسي والاجتماعي في اوطاننا العربية . فلماذا تخلى المثقفون عن دورهم في قيادة المجتمع والتأثير فيه ، ومقاومة الراهن ، وقيادة التغيير ، والمساهمة في اصلاح المجتمع والسياسة وتطويرهما ، وابتعادهم عن الصف القيادي التنويري الى التماهي مع فكر المؤسسة وسياستها ..؟!.
يجب ان نعترف بان المثقف في زمن العولمة والتكنولوجيا أصبح ينقاد وراء ما يريده الناس وفق اذواقهم وأفكارهم ، وبات رهينة لما يريدونه . وأصابه اليأس والقنوط بعد فشل المحاولات في التصدي للواقع والسباحة ضد التيار واحداث التغيير المطلوب والمنشود في المجتمع ، فآثر الانسحاب والوقوف على الرصيف والهامش . وهنالك مثقفون غابوا عن ساحة الفعل والمواجهة مع السلطة وراحوا يبحثون عن مصالحهم الذاتية والشخصية واختاروا الهروب والتقوقع في بروجهم العاجية ، ومنهم من تم تدجينهم وترويضهم وشرائهم بالمال النفطي وادخالهم الى الحظيرة ودوائر السلطة ، ما ادى الى تكاثر نخب السلطة ومثقفي المؤسسة في البلدان العربية .
وفي ظل الانعطافة الكبيرة التي تشهدها شعوبنا العربية ، فإن مجتمعاتنا بحاجة ماسة الى مثقفين عضويين ، يمارسون دورهم الخلاصي الانقاذي الجذري والقيادي في الدفاع عن قضايا الامة ومطالب شعوبها ، وحمل شعارات ومشاعل الحرية ، ورفض الاستبداد والغبن والاضطهاد والقمع ، والمطالبة بالتغيير والكرامة الانسانية والعدالة الحقة . وليكن للمثقف الصوت المدوي المجلجل في نقد السياسات التي تقترن بالديكتاتوريات والممارسات القمعية القهرية والتعسفية ، التي لا تحترم حقوق الانسان وحريته وكرامته ، والمشاركة في عمليات البناء والتحول الديمقراطي، وتأسيس مجتمعات مدنية حضارية فاعلة في الحياة الانسانية عمادها وقوامها العدل والمساواة والحرية والديمقراطية ، وارساء تقاليد سياسية وفكرية قائمة على التعددية واحترام الرأي الآخر والقبول بالاختلاف ، وسواها من الأفكار التي تسهم في تأصيل وتعزيز قيم حضارية وديمقراطية منبثقة من قلب أمتنا العربية الاسلامية وتراثها الحضاري ، في اطار التفاعل مع الثقافات الانسانية الأخرى والاستفادة من منجزات العصر والحضارة وتطوراتها .