18 ديسمبر، 2024 8:20 م

اتصل بي صديق من البصرة يخبرني بفكرة لاحت بذهنه لدى تأمله بوضع مدينة الناصرية. قال لي أن في الناصرية معاكسات ومتغيرات وتيارات، فشيوعيين كثر لبعثيين اكثر لإسلاميين اكثر واكثر.

فؤاد الركابي أول أمين عام لحزب البعث ومؤسس القيادة القطرية لحزب البعث في العراق حيث سجنه البعثيين لاحقاً بعد تمكنهم من السلطة سنة 1968 ومن ثم اغتياله بالسجن سنة 1971 كان قد وُلِد وترعرع في الناصرية.

يوسف سلمان يوسف المعروف بالأسم الحركي (فهد) وهو من مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي وأول سياسي يعدم شنقا بالعراق بعد محاكمته سنة 1949 كان سكنها ايام شبابه وحتى بروز نجمه السياسي حيث كان في الناصرية أحد اول فروع الحزب الشيوعي العراقي سنة 1928.

صالح جبر رئيس وزراء العراق في العهد الملكي وُلِد وترعرع في الناصرية.

عادل عبد المهدي رئيس الوزراء المستقيل سنة 2019 هو الاخر من الناصرية وقد استقال بعد اصرار اهل الناصرية قبل غيرهم على استقالته في المظاهرات الأخيرة المطالبة بالأصلاحات والحقوق وتعديل قانون الأنتخابات، وبعد المجزرة التي ارتكبت بحق المتظاهرين فيها.

هؤلاء كلهم رغم تضاد توجهاتهم السياسية من الناصرية .

فاز حزب الفضيلة بها والمجلس الأسلامي الأعلى والتيار الصدري والدعوة رغم ان بعض المرشحين ليسوا من الناصرية اصلا ولكنهم فازوا بمعية حزبهم وببركة القانون الانتخابي الداعم لهم ولتوجههم السياسي. ومن ثم تفوز مرشحة شيوعية عنها بالانتخابات الأخيرة. كلهم فازوا عنها ومن ثم تنكروا لها وأهملوها.

أليست هذه تحولات كثيرة؟ سألني صاحبي.

والحق أقول ان التنوع السياسي وانتقالات الفكر من قناعة لقناعة أخرى بميزان السياسة يمكن أن يؤشر على تقلبات في الفكر ومزاجية كما يؤشر على نمو ووعي ونضج وعدم اصرار على رديء.

هم لم ينقلبوا ضد دين سماوي بل انقلبوا ضد توجهات دينية وسياسية. والتوجهات هي كوجهات النظر، ليست وحي من السماء ولا قياداتها رسولا من الله يتلو على الناس آياته.

التحول الفكري المجتمعي من الممكن اعتباره إعادة إنتاج للمجتمع لكي يصبح مجتمع اكثر حيوية وفاعلية.

مجتمعات العالم التي تسمى متحضرة اليوم كانت وحوشا مستعمرة ضد الدول الفقيرة وعنصرية متكبرة ضد ذوي البشرة السوداء ولم تنتهي مشاكل العنصرية سياسيا وقانونيا الا قبل عقود قليلة من الزمن بعد ضغوطات شعبية ومظاهرات غيرت من فكر المجتمع والسياسة والدين والدولة وصارت العنصرية اليوم جريمة كبرى بعد أن كانت شيئا طبيعيا جدا.

هذا التغيير نمو مجتمعي وسياسي حيث كان ثمرة الاستغناء عن فكرة فيها شائبة والتحول لفكرة أخرى اكثر نقاوة.

التغيير طرأ على الفكرة الشيوعية حيث جعلت منها الصين ثورة اقتصادية عملاقة بينما كانت ذات الفكرة سبباً في انهيار الاتحاد السوفيتي.

في المظاهرات الأخيرة كانت الناصرية ولازالت صرختها العالية وجمرتها الحامية كما كانوا في الحشد الشعبي لهيب النار وهجمة الثوار لتحرير العراق من زمرة الاشرار.

اكثر المدن بعدد الشهداء والجرحى من متطوعي الحشد الشعبي وجنود الجيش ايام حرب داعش كانوا من الناصرية كما كانوا اكثر مدن المظاهرات بعدد الشهداء والجرحى.

في مواكبهم لدى استقبال الزائرين السائرين لكربلاء الحسين يبالغون بالكرم وخدمة الزائرين ويتفنون به. يتواضعون ويتمسكنون اكراماً للضيف وفي حربهم لداعش اسداً زؤورا.

اكثر محافظة تم اهمالها وعدم تنفيذ اي مشاريع مهمة ومؤثرة فيها هي الناصرية، وتكاد بناها التحتية المتهالكة تمثل ميزة بائسة ومؤلمة لها.

في ثورة العشرين كانوا شجعانها ومغاويرها ومن فرط الاجتهاد في التضحية رابط بعضهم على شجرة ليقنص المحتلين لينادي كبير الغزاة ان اقطعوا الشجرة الخبيثة فروّج لهذه حزب البعث نكاتا وسخرية تنال من رفض اهل الناصرية الكامل لهم ولما قدموه من تضحيات في الاهوار ولرفضهم الشعبي ضد ظلم حكومة البعث. كانوا في الأنتفاضة الشعبانية سنة 1991 في طليعة المنتفضين الهاتفين بالحرية.

سُميت الناصرية بلواء المنتفق (المنتفك) (المنتفج) ايام الاحتلال العثماني وبقت التسمية كما هي ايام الحكم الملكي فيصف أبرز من كتب عن تاريخ العراق الحديث المؤرخ الكبير (حنا بطاطو) بكتابه (العراق) وفي معرض حديثه عن الناصرية حيث كتب يقول: (وكان التمرد يكاد يشكل الطبيعة الثانية لأهل المنتفق. ولم يكن سكان اية محافظة اخرى من محافظات العراق اكثر غيرة من سكان المنتفق على حريتهم… وكتب ضابط بريطاني في العام 1919 يقول: “يُمكن مقارنة عرب المنتفق بالبارود الذي يمكن لأية شرارة أن تفجره”) العراق ج2 ص 145. وفي ص 55 من ذات الكتاب وصف حنا بطاطو الناصرية: (بلدة مشهورة بروح الحرية التي لا تقهر).

في الناصرية أول وأقدم حضارة عرفتها البشرية وأول كتابة وتدوين وأول نظام حكم وسياسة وأول نظام تعليمي وأوائل محاولات تدوين التاريخ وأول تكتيك حربي وأول تشييد هندسي إبداعي وأول سوق تجاري منظم للبيع والشراء وتدوين واردات وصادرات السلع وأول سباق رياضي عرفته البشرية وأول واقدم نص قانون دستوري (قانون أورنمو) وأول عزف موسيقي وآلة موسيقية. كان جميع ما ذُكر من منجزات الحضارة السومرية في الناصرية.

الناصرية محل مولد أبو الأنبياء إبراهيم الخليل (ع) وآثار بيته شاخصة لليوم ويُعرف مكان بيته في الإنجيل بإسم (اور الكلدانيين)، وفي التوراة وُصِف بالمكان الذي رأى النبي إبراهيم النور فيه.

الناصرية أرض حضارة وثروات طبيعية، تكوّن في عروق الناس فيها جينات حضارة سومر وعلى جلودها المتعبة اليوم تهبط آثار تراب الحضارة وحتى تستنشقه كثباناً عند هبوب عاصفة ترابية.

من اهم منجزات التاريخ قديمه وحديثه انه يلهم الحاضر دروساً لينشر العِبرة ويبث في الروح العزيمة ليحقق املاً في مستقبلٍ افضل.

كان صاحبي سبباً في كتابة هذه المقالة التي ارجو أن أكون قد اجبت فيها عن تساؤله وهو الذي اسمه اسم (فاعل) مشتق من كلمة (البسمة).