الدولة الأمريكية دولة مؤسسات ، و الذين يرسمون سياستها خلف الكواليس يشكلون قوتها العقلية التي تراقب و تستنتج و تخطط و ترسم المسار المستقبلي للبلاد ، هذا صحيحٌ جداً .
ولكن الرئيس الأمريكي ـ على مدى تاريخ هذه البلاد ـ ليس رئيساً فخرياً تقتصر مهامه الرئاسية على إستقبال الضيوف و توقيع البروتوكولات ، كما في بلدان كثيرة ، غير أنه ـ أيضاً ـ ليس مطلق الصلاحيات و لا دكتاتوراً ، بل يعمل تحت مظلة القوانين الوضعية الصارمة في التعامل مع الشؤون الداخلية و الخارجية و التي تصب في مصلحة أمريكا أولاً و أخيراً .
و كما هو معروف ، فإن الرئيس لابد أن يكون منتمياً لأحد الحزبين الرئيسيين في أمريكا : ( الحزب الجمهوري ) و ( الحزب الديمقراطي ) ، اللذين تعود جذورهما الى ( الحزب الجمهوري الديمقراطي ) الذي أسسه ” توماس جيفرسون ” و ” جيمس ماديسون ” عام 1792 ، و ربما كان الرئيس الأول لأمريكا ” جورج واشنطن ” ( 1732 ـ 1799 ) هو الرئيس الوحيد الذي لم يكن منتمياً لحزب ، و إنْ قيل أنه كان مناصراً للحزب الجمهوري .
و الأكيد أن لكل حزب منهجه و رؤيته و سياسته ، فالحزب الديمقراطي مثلاً كان مؤيداً لمؤسسة العبودية ، على الرغم من إسمه ( الديمقراطي ) ، و قد أستقل بعد إنقسام الحزب الجمهوري الديمقراطي في النصف الأول من القرن التاسع عشر ، و كانت لهذا الحزب شعبية كبيرة ـ خصوصاً في الولايات الجنوبية ـ منذ إنتهاء الحرب الأهلية حتى عهد الرئيس الديمقراطي ” فرانكلين روزفلت ” ( 1882 ـ 1945 ) الذي حوّل الحزب الى طرف مؤيد للحركات الليبرالية و لنقابات العمال و لتدخل الدولة في الإقتصاد ، و هو ما يلتقطه ” دونالد ترامب ” و يوظفه في حملته الإنتخابية محذراً من أن منافسه الديمقراطي ” جو بايدن ” سيوجه أمريكا ـ في حال فوزه ـ بإتجاه الإشتراكية و يلقي بها في أحضان الصين الشيوعية .
و في المفهوم العام ، فإن الرئيس يسير على منهج حزبه ، أي وفق فلسفته ( السياسية و الإقتصادية في الدرجة الأولى ) . ولكن مهما يكن فأنه لابد للرئيس أن يترك بصمته على سياسة أمريكا الداخلية و الخارجية ، فهو ليس رئيساً من رؤساء دول ( الكومنولث ) على غرار ( حكم ) الملكة ” أليزابث الثانية ” . صحيحٌ أن ثمة مؤسسات خلفية ترسم الملامح الأساسية لهذه السياسية إلا أن الكلمة الأخيرة إنما هي للرئيس .
فالرئيس الجمهوري ” إبراهام لنكن ” ( 1809 ـ 1865 ) هو الذي قرر إلغاء نظام الرق في الأول من يناير / كانون الثاني عام 1863 و حرر العبيد في أوج الحرب الأهلية الأمريكية ( 1861 ـ 1865 ) .
و الرئيس الديمقراطي ” هاري ترومان ” ( 1884 ـ 1972 ) هو الذي أمر بـ ( مشروع مانهاتن ) لصنع القنبلة النووية عام 1942 ، و هو الذي أمر بإلقائها على مدينتي ( هيروشيما ) و ( ناكازاكي ) اليابانيتين في اليومين 6 و 9 من شهر أغسطس / آب عام 1945 .
الرئيس الجمهوري ” دوايت آيزنهاور ” ( 1890 ـ 1969 ) هو الذي منح الضوء الأخضر لوكالة المخابرات الأمريكية بالبدء بخطة للإطاحة بنظام ” فيدل كاسترو ” الشيوعي الناشئ في كوبا ، و الرئيس الديمقراطي ” جون كنيدي ” ( 1917 ـ 1963 ) هو الذي أمر بتنفيذ الخطة التي تسببت بأزمة ( خليج الخنازير ) و التي كادت أن تؤدي الى حرب نووية بين الولايات المتحدة و الإتحاد السوفييتي السابق .
الرئيس الجمهوري ” جورج بوش ” ( 1924 ـ 2018 ) هو الذي اتخذ القرار بشن الحرب على العراق عام 1991 و جند عدداً من الدول في هذه الحرب لإخراج الجيش العراقي من الكويت . و الرئيس الجمهوري ” جورج بوش ” الإبن هو الذي قرر غزو أفغانستان عام 2001 في حملة أطلق عليها عنوان ( الحملة الصليبية ) وسط انتقادات دينية و سياسية عالمية لهذه التسمية ، و هذا الرئيس هو نفسه الذي خطط و جَنــّـد ( مثل أبيه ) عدة دول تحت تسمية ( التحالف ) لغزو العراق و إسقاط نظام ” صدام حسين ” .
القوات الأمريكية التي أبقاها الرئيس الجمهوري ” بوش ” في العراق ، إتخذ الرئيس الديمقراطي ” باراك أوباما ” قراراً بسحبها عام 2011 ، و توقيع معاهدة أمنية هشة مع ” نوري المالكي ” ليترك العراق في العراء بلا قوة و لا حماية و ليضعه ” المالكي ” لقمة سائغة في فم إيران المُلتهم .
” أوباما ” الديمقراطي كان هو الحاضن للإتفاق النووي مع إيران الذي فتح شهيتها على التنمّر ، و ما أن حلّ ” ترامب ” الجمهوري في البيت الأبيض حتى ألغى هذا الإتفاق ، و زاد على ذلك بفرض عقوباتٍ إقتصادية متتالية على إيران غايتها كسر ظهرها و الحد من نزعتها التوسعية في المنطقة ، خاصة و أن ” ترامب ” يدرك بحسه التجاري أن سيطرة إيران على مياه الخليج يعني تحكمها بنسبة 40% من صادرات النفط في العالم .
كل هذه الشواهد ، على مر تاريخ الرئاسات الأمريكية ، تعني أن للرئيس الأمريكي كلمته ، حتى و إن لم يمثل رأي حزبه ، و أن له قراره ، خصوصاً و أنه بات له حق الفيتو ضد قرار الكونغرس إذا ما اعترض على إجراء يتخذه الرئيس .
إذاً ما معنى القول أن الرئيس الأمريكي ، أكان جمهورياً أم ديمقراطياً ، ليس صاحب قرار ؟
تخوفنا على العراق من فوز الديمقراطي ” جو بايدن ” يستند الى :
1 ـ سيُحيي الإتفاق النووي مع إيران الذي تم في عهد رئيسه ” باراك أوباما ” . ما سييحي قدرة إيران على التنمّر في المنطقة و بعث الهمة في ذراعها الوحشي ( الحرس الثوري ) .
2 ـ سيحيي ” جو بايدن ” مشروعه حول ( تقسيم العراق الى أقاليم ) الذي طرحه عندما كان نائباً للرئيس ” أوباما ” .
3 ـ سيفرض سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدى الدول ( كسياسة عامة للحزب الديمقراطي ) مايعني إطلاق اليد الطولى للإحزاب الإسلامية و الحركات المتطرفة ، و بالنسبة للعراق : إطلاق العنان للمليشيات الهمجية المتوحشة الموالية لإيران .
4 ـ سيعيد مَنهَجَة سحب القوات الأمريكية من العراق ، وفق سياسة رئيسه السابق ” أوباما ” و ترك العراق في العراء مرة أخرى .. من دون حماية ، و هي مسؤولية أمريكا التي قادت العراق الى هذه الحال .. مع أن السبب هو حماقات ” صدام حسين ” .
أخيراً ، على الرغم من المآخذ التي سُجلت على الرئيس ” دونالد ترامب ” و شطحاته ، إلا أنه أشرف رئيس أمريكي في تعامله تجاه العراق ، و أكثرهم واقعية في الحياة السياسية الأمريكية .
” دونالد ترامب ” غير السياسي ، أسّس لمنهج سياسي أمريكي .. جديد .