في لقاء برنامج ( المراجعة ) وفي حلقته الخامسة والتي على اثارها، توقف البرنامج، واجه اية الله الحيدري ومقدم البرنامج ( سعدون محسن ضمد ) وقناة العراقية حملة شرسة لم تتضح ابعادها بعد. يبدو ان هذه الحملة لا تحمل معها سوى الرياح السوداء.
ويلاحظ ان حلقة البرنامج كان فيها بعض من افكار وبحوث الحيدري. لست هنا بصدد الترويج لطروحات الحيدري، فهي متداولة على صفحات الانترنت وفي كتبه وغيرها، لكن ما يهمني هو خوفي من تلك الرياح المسمومة التي تهب من كهوف السلفية ومحاربة العقلانية وروح البحث الجاد والتفكير الحر في واقع حالنا البائس ودفعنا الى مستقبل لا يحيطه سوى الخراب. أما يكفي أن ننظر الى حاضرنا ومستقبلنا من كهوف الماضي، فلقد دفعنا الكثير ويبدو ان هناك من لا يريد ان تنتهي أقساط التسديد.
لم يكن الحيدري هو الاول في الكثير مما اثاره في الحلقة من طروحات. هناك أسماء عراقية عديدة، ابرزها السيد أحمد الكاتب وكتابه الشهير عن الفكر السياسي الاثنى عشري و أحمد القبنجي، وكتابات ميثاق العسر والى حد ما اية الله فرقد القزويني وغيرهم ولا ننسى هنا أحد أهم الكتب التأسيسية في دراسة الفكر السياسي الاثني عشري وهي أطروحة الدكتوراه ( 1939) للعلامة جواد علي.
السيد الحيدري يحرث في ارض يعرف طبيعتها، فهو مرجع وله مدرسته وطلبته ومقلديه. لم يكن محتجب عن الناس، لكنه اطل عليهم من اوسع الابواب وهو الانترنيت. تشكل جملة من اراءه والتي اثيرت في الحلقة كحد أدنى، تقويض لأسس الاسلام السياسي الشيعي وللسلفية الشيعية، ولدور طائفة واسعة من رجال الدين الشيعة وبمختلف مستوياتهم، الذين يسعون لهندسة علاقاتهم مع الناس من خلال استبعاد العقل وتمجيد الخرافة والجهل وتكريس إذلال الناس وخنوعهم.
لقد تناول الكثير من الكتاب والباحثين التنويرين والاكاديميين كتب الفقه السني ومنها البخاري ومسلم وابن تيمية وغيرهم. لقد فندوا وهتكوا الاطروحات الغير العقلانية في هذا الفقه ولكن حصد الكثير منهم ما لا يطاق بما فيها القتل والسجن والتشريد. المشكلة الحقيقية أن الفكر الاثنى عشري، بقى في العموم بعيداُ الى حد كبير عن هذه القراءات العقلانية وبعيداً عن التنوير ورغم محدودية هذه المحاولات الا انها تلقت كالعادة هجوما غير مسبوق. لم يكن هذا الامر غريبا في حالة نقد الفكر الشمولي أو الماضوي ( من الماضي ) والذي تقع كل الاديان التوحيدية الكبرى تحت سقفه، بل على العكس من ذلك فان الامر يشتد سوءاُ حين يتعلق الامر بالفرق والمذاهب وبالذات تلك التي تسعى للتسييد والتي تكون قاعدة اساسية لربط السياسة بالدين كما في حال الاسلام السياسي على سبيل المثال لا الحصر.
كما هو معروف فأن الاثنى عشرية تضيف الامامة والعدل الى اصول الدين الثلاثة المعروفة عند مذهب أهل السنة والجماعة. يعتبر قسم من فقهائهم ان الامامة هي الجذر الاساسي وبالتالي فان غالبيتهم العظمى تكفر ناكري الامامة وفي افضل الاحوال تعتبره مسلماً ظاهرياُ ( الحيدري يقطع بان جميعهم يكفر).
اذا عدنا الى العقود الثلاثة الاخيرة، بتقديري ان جوهر الصراع وعلى كل المستويات بما فيها الثقافي في ما يسمى بالبلدان الاسلامية أو لنقل الشرق الاوسط، كان بين تيارين من الاسلام السياسي السني والشيعي. الاول قادته الوهابية والتي هي حنبلة المنبع، وتلقى هذا المشروع فشله بصورة القاعدة ومشروع الدولة الاسلامية التكفيري واللاإنساني، وتخلى لاحقاُ جزئيا لصالح الاخوان المسلمين وهم يتغذون من نفس منابع السلفية المتعددة في الفكر السني، والتيار الثاني كان هو الاسلام السياسي الشيعي والذي يشكل الفكر الاثني عشري منبعه الوحيد. المتلقي وبجهد بسيط في البحث، ومن أجل تدقيق قناعته سيجد أن الاثنين وجهين لعملة واحدة في مجال التكفير وأنعدم وجود اي فكرة حقيقية للمواطنة، ليس فقط خارج إطار الدين، وانما لا يوجد هذا الامر وغيره خارج أطار الطائفية، حتى الدخول الى الجنة لا يصح الا وأن يرتبط بالحالة الطائفية. بذلك اسقط الحيدري وما طرحه الاخرين، القدسية عن هذا الفقه، وبالتالي جاء تأكيده باعتباره نتاج بشري بحاجة الى المراجعة والتدقيق واستحكام العقل في قبول مصداقيته. تجري الاشارة ايضا للنص القرآني في تدقيق هذا الفقه ولكن هذا الامر لا يعدو كونه سوى لعبة يجيد المتدينون فنونها.
هم يعرفون أكثر من غيرهم أن القران حمال وجوه ويلغي نصفه النصف الاخر. لذا يقولون أن الطريق للقرآن هو السنة بطريق أهل السنة والجماعة وكتبهم المعروفة أو عن طريق روايات آل البيت في الفقه الشيعي. هنا يتضح الامر بأن الاثنين كانا “في الهوى سوا ومفيش حد أحسن من حد” كما يقول المصريون، أقلها على مستوى التكفير. بمعني آخر أن الحكم الاسلامي أو الدولة الاسلامية سواء كانت دولة الخلافة السنية أو دولة الامامة الشيعية هي دولة تكفير وحرب أهلية وقتل وتدمير وتشريد ولن تجد المواطنة فيها مكاناُ لا في الارض ولا في السماء. كل هذا التكفير الذي تمتلئ به كتب السلف والتي شكلت المباني الاساسية لهذه الفرق ومنها الاثنى عشرية والتي لا يستطيع المتأخرون من رجال الدين تجاوزها الا تقية أو عن طريق اللعب في المفردات وربطها بالتزامات معينة، كل هذه الوحشية وهدر الدماء وخراب البلدان الا أنهم يصرخون كذباً (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة) –الحجرات ١٠ أو ( أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة ٣٢
مشروع الدولة الاسلامية ليس له علاقة بالحاضر ولا بالمستقبل وتعصف بين جدرانه رياح الموت والخراب المسمومة. لا يحتاج المتلقي النبه ان يدرك أهمية الدولة العلمانية، رغم أن الرجل لم يقل ذلك ولكن الحليم تكفيه الاشارة كما يقال، طروحاته هي إسقاط لخرافة الفرقة الناجية والتي بقى المسلمون قرونا وسيبقون كذلك لقرون لاحقة في البحث عنها وكل منهم ينسبها الى نفسه ورغم أن فرق الاسلام جاوزت الثلاثة والسبعون الى المئات من الفرق، وهو المسكوت عنه فيما ورد في مقدمة الحديث المعروف، في حين تتقاتل الناس تمسكاً بالجزء الثاني من الحديث فيما لو افترضنا صحته.
شهدت بغداد في القرن الرابع الهجري فتن ومذابح بين الشيعة الامامية المدعوين من البويهيين والسنة. ابتدأت من هذا القرن واشتدت في النصف الاول من القرن الخامس الهجري وعصفت بحياة الناس في وقتها. الذي يرجع الى المصادر، سيلاحظ أنه ما مرت بضعة سنوات الا وكان هناك فتنه واقتتال بين الطرفين، هدأت لاحقاً بزوال الدولة البويهية ( 334 – 447 ه / 945-1055 م ). في النصف الثاني من القرن الخامس اشتدت الفتن والمذابح بين أطراف السنة أنفسهم من الحنابلة والاشعرية المدعومين من السلاجقة السنة. كان القرن الخامس قرن الفتن والقتل والتكفير والذي كان اساس كل ذلك.
التكفيرلا يصدرالا من فقهاء المذاهب وتتلقفه العامة لتدفع ثمنه بحار من الدماء والخراب والدمار. و لم تكن مؤسسة الخلافة بعيدة عن دعم هذا الطرف أو ذاك والتي عملت على تكريسه وخاصة في عهود انحطاطها. لقد بقيت إمكانية أصلاح الامر بين الاطراف المكفرة لبعضها تدور في حلقة مغلقة، حتى بين أطراف السنة أنفسهم المكفرين لبعضهم البعض، فما بالك بإصلاح الامر مع الاخر المختلف والذي لا يقل تكفيراً عنهم. بمعنى اخر، كانت رحى الاحتراب والموت تدور على قناعة محتوها ” أذا أنك لم تترك لي شبراً في الجنة بسبب تكفيرك لي، فكيف تنتظر مني أن أترك لك شبراً في الارض!!”
يتحاشى الكثير من الفقهاء الشيعية نقاش ( نقاش وليس سرد مرويات يحاول البعض تصويرها على انها مقدسة ) قضية المهدي المنتظر في أوساط العامة، وقبل سنوات كان السيد الحيدري يقول أن نقاش هذا الامر يجري في حدود الخاصة،الا نقاشه العلني لهذه القضية المحورية أو بعض جوانبه وإشكاليته عليها وبهذا الشكل، فهو يقوم عمليا بإخراج النقاش من الخاصة الى عموم الناس. ان مخاطر نقل النقاش حول هذه القضية الى العامة وما ادراك ما العامة، مثل الذي يفتح قارورة العفريت، هي جوهر الفكر السياسي الشيعي وهي عماد الاسلام السياسي الشيعي سواء ذاك الذي يعترف بولاية الفقيه أو الذي لا يعترف بها، سيكتشف من يحترم عقله، وهن اسس هذه النظرية وهشاشة تركيبها ( يمكن الرجوع في الامر الى ما كتبه السيد أحمد الكاتب بهذا الصدد كذلك الكتابات الجريئة للسيد ميثاق العسر). من جانب آخر هو ضرب لدور رجال الدين في المجتمع وتسلطهم عليه، بما في ذلك الخوف من انفضاح طبيعة الصراع الخفي والعلني بين المراجع وسلسلة المؤسسات وجيوش المعممين المتربطين بها، أستباقاً لمرحلة ما بعد السيستاني. خاصة أن مسالة المرجعية وكما تثبت الوقائع التاريخية وواقع الحال لم تعد قضية داخلية سواء على مستوى المرجعية الشيعية كمؤسسة او على مستوى البلد.
واقع الامر ان الفكر السياسي الشيعي الاثنى عشري في مسيرته لم ينتج نظرية مستقلة خاصة به في الامامة و كل ما أنتجه هي نظرية في جوهرها نظرية موازية للنظرية الاموية في الخلافة. أستطاع العباسيون لاحقا وهم اصلاً أحد فرق الشيعة، أن يضفوا على دولتهم لباسها الديني ويدفعوا بالنظرية الشيعية التي انتجوها في الخلافة الى مسارات مكنتهم تصفية كل معارضيهم من فرق الشيعة الاخرى. لم تكن نظرية الاثنى عشرية سوى خدمة بالمجان للدولة العباسية ومثلت تلك الاوساط الشيعة التي كانت على أكبر قدر من المساومة مع مؤسسة الخلافة العباسية وهي التي ابعدت جمهورها ولقرون طويلة من حقها في النضال من اجل السلطة، والحقت بهم أكبر الاضرار.
أن أحد المداخل الاساسية بتقديري للتصدي لكارثة الاسلام السياسي بكل أشكاله في العراق والذي يتسيد فيها الاسلام السياسي الشيعي والذي قادنا من خراب الى خراب آخر، يكمن في تعرية البنى التي قام عليها ونزع القدسية عنها، هي في اساسها فقهية وبالتالي هي بشرية المنشئ. العقل هو في نهاية المطاف الطريق الوحيد الذي يقربنا من ادراك الحقيقة وهو ما يجعلنا مهمومين بواقعنا ويرسم افاق مستقبلنا، هذا اذا كنا نريد أن نحيا كبشر له الحق في الحياة الكريمة.