3 نوفمبر، 2024 12:38 ص
Search
Close this search box.

لماذا اختفت مجلة “الآداب”؟!

لماذا اختفت مجلة “الآداب”؟!

“شهادة كاتب هامشي نزيه في زمن الضياع والتيه”!”ل الآداب قيامة جديدة في زمن الموات العربي العميم الجديد”!استعراض لمواضيع عدد تموز/1999: الترجمة وقضاياها النظرية والتطبيقية:
وقع بين يدي وأنا اجرد مكتبتي عدد قديم لمجلة “الآداب” اللبنانية صدر في تموز/1999، وكنت قد اشتريت العدد وقرأت بعض المقالات وتصفحت اخرى، ثم حفظته جانبا، وقد علمت قبل فترة بانقطاع صدور هذه المجلة الثقافية العريقة، التي لم يزد سعرها المعلن عن دينارين ونصف، وهو مبلغ زهيد لمجلة شهرية ثقافية جامعة، وقد تألمت بالحق عندما علمت بافلاسها وبنداء الاستغاثة التي أطلقته قبيل انقطاعها، ثم بنبأ تحولها مؤخرا لموقع ألكتروني…وباعتقادي أن هذه المجلة الأدبية- الفكرية الرفيعة المستوى كانت سابقة لعصرها، وكانت موجهة لنخبة عربية راقية ولكل الباحثين والطلاب والادباء اللذين افتقدوا المنابر النزيهة في أوطانهم ولم ينضموا للشلل الثقافية،
ولكنها كحالنا نحن العرب البائسين اللذين نبدو دوما “متراجعين” في كافة المجالات، فهي لم تستطع مواكبة “تفاهة العصر” وانحدار بعض النخب للتبعية والارتزاق، كذلك لظهور منابر اخرى منافسة أقل جودة وتطلبا وعمقا، وأكثر تحقيقا للأنا النرجسة وعقد العظمة والظهور والاستعراض، ويمكن ببساطة أن نلاحظ ذلك من تصفح مقالات هذا العدد اللافت الذي تطرق بعمق “غير مسبوق” للترجمة وقضاياها النظرية والتطبيقية (كأبحاث وشهادات):
نبدأ بمقالة مؤثرة عن المفكر والمناضل الباكستاني الكاريزمي “اقبال أحمد”، حيث تطرقت المقالة لدعمه ومواقفه تجاه قضايا التحرر العادلة في العالم كفيتنام وفلسطين، فهو يقول عن فلسطين المغتصبة في احدى محاضراته: “لكن اياكم أن تضعوا رؤوسكم على الوسائد وتنسوا أن هناك شعبا لا ينام تحت سقيفة بيته اوعلى وسادته”!
ويكفي وصف ادوارد سعيد لاقبال أحمد بأنه “الأحذق والأكثر ابتكارا بين جميع المحللين المعادين للامبريالية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية”.
ويكتب “محمد الرناؤوط” مقالة شاملة عن “ثلاث كوسوفات في القرن العشرين: قوصوة-كوسوفا-كوسوفو”، كما يتحدث “ماجد السامرائي” عن الحصار المفروض على العراق، ويتضمن العدد مجموعة من المقالات عن حصار العراق تحت عناوين: نهارات الحصار ولياليه، أوراق محاصرة، البلاد التي كانت كشهادة حب في زمن الحقد، في الزمن الغريب، ارفع يدك عني فهذا بلدي، وهنا أشتق الفقرة المعبرة التالية من مقالة كتبتها الروائية “لطيفة الدليمي” بعنوان “أربعة قرون من الظلمات”: “كم يحتاج قائد الثعالب من رياح عربية، ليغدق برك الدم على صحائف التضامن، أو يصوغ بيانات الاعتذار من أنفاس الموتى؟ كم يحتاج الملوك من بوصلات طائشة ليرتطموا بأشلائنا الطائرة فوق القباب؟ كم يحتاج الآخر من حروب ليعلن وثيقة انقراضنا؟!”
تتضمن صفحات الشعرالحديث قصيدة لافتة لمحمد ماجد الخطاب بعنوان ” المعري…والاياب الجديد”، أشتق منها: “…هل انبيك عن زمن المهازل، زمن تدثر بالشقاق، ما زال يا شيخ المعرة يستوي نور الظهيرة والظلام، ما زال يعبرنا الدخان، فارجع لأرضك مرة اخرى…ونم…ان الزمان هو الزمان”!
أما بصفحة الاصدارات الجديدة فنقرأ ملخصات وافية لخالد الكركي بعنوان “دم الشرق الذي لا يتخثر، حماسة الشهداء، “رأيت رام الله” لمريد البرغوثي، ومجموعة قصصية بعنوان “هدؤ حذر” لحمزة عبود تتضمن الواقعي والغرائبي…
أما ملف الترجمة التي أصبحت عمل من لا عمل له، فقد تم انتهاكها من قبل الهواة وانصاف المثقفين والمتعلمين، وهؤلاء اللذين سبق وتعلموا اللغات الأجنبية ثم نسوها بالتقادم ورغبوا باستعادتها والتكسب من امتهانها، فهو حافل بالمقالات التحليلية ضمن ملف بعنوان “الترجمة: قضاياها النظرية والتطبيقية”، ويتضمن مقالات وأبحاث وشهادات، تتطرق للتشويه الذي لحق بالترجمات العربية من اللغات العالمية كالانجليزية والألمانية والروسية، وذلك من جراء ثلاثة أسباب: استخدام لغة وسيطة، عدم كفاءة المترجمين او لضعف الدعم المؤسساتي لعمليات الترجمة. وأقتبس هنا عن معد الملف “سماح ادريس” “كيف نفصل أثناء القيام بدراسة رواية (مترجمة) ما بين النقد الذي تمارسه للمجتمع العربي بهدف الاصلاح، والنقد الذي تمارسه بهدف دغدغة عواطف “الغرب” ولا سيما قضايا الختان والارهاب والاصولية وتهجير اليهود العرب”؟
كما احاول فيما يلي تلخيص باقي المقالات القيمة الواردة في هذا الملف الفريد:
ترجمة الأدب العربي الحديث الى اللغة الفرنسية حيث بعض الفرنسيين يتعاملون مع االنص العربي بفوقية، فيجيزون لأنفسهم تشذيب النص وتمتينه، ثم مقالة “من عصر النهضة الى زمن العولمة”، ويتضمن فقرة تقول: “يرى العربي في محفوظ مؤرخا وناقدا لمجتمعه، ولكنه يسوق في الخارج كعالم اعراق”! ثم التركيز على مقولة بأن هناك عدد كبير من الروايات تكتب بالعربية لكن الجمهور الذي تستهدفه غربي في الأساس (بغرض احراز الجوائز العالمية)، ونستنتج بأنه لا علاقة لشعبية العمل العربي بترجمته، حيث تتحكم سياسات الهيمنة الروائية العابرة للقارات…
هناك مقالة لافتة لنانسي كوفن (استاذة العربية في جامعة كولومبيا في نيويورك) بعنوان: “بيع فلسطين-تسويق الأدب الفلسطيني باللغة الانجليزية”، وجملة عناوين هامة مثل: ملاءمة الكتاب الفلسطينيين للمزاج السائد في السوق الغربية اليوم هي التي تحدد النشر، لا شعبية العمل الأدبي بين القراء العرب، ثم “ترويج أعمال الكاتبات الفلسطينيات المترجمة باعتبارها نصوصا في دراسات المرأة مما يحجب احيانا معالجتها لمسائل المجتمع الفلسطيني”.
يكتب حنا عبود مقالا عن شكسبير بعنوان “من مطران الى جبرا”، حيث يتمسك مطران بالعربية الرفيعة بينما يضيف جبران كلمات من عنده ليحافظ على القافية…ثم يقدم عبده عبود مقالا ثوريا بعنوان “هكذا يشوه الأدب العالمي: الترجمات العربية لأعمال غوته عنوانا”، ويصل لنتيجة مفادها: “حين تكون الترجمات بالصورة التي تمثلها ترجمات غونه، يفتقد المجتمع العربي وسيلة هامة من وسائل التقدم”، كما يصل فؤاد المرعي بمقالة “قبلة من وراء زجاج شفاف” لاستنتاجات معبرة عندما يقول: “الترجمة الرفيعة المستوى وان كانت لا تنطبق على النص الأصلي خير من ترجمة حرفية رديئة فنيا”، ويضرب مثالا معبرا …”حذفت احدى ترجمات _آنا كارنينا_ الأفكار الفلسفية والشخصيات الثانوية، فتحولت الى رواية عن الاسرة”!
كما يلخص صاحب المجلة سهيل ادريس خلاصة الموضوع في مقالته المعبرة “نهضة والتزام…وبعض نزوة”، عنما يقول “…وفي البلاد العربية اليوم ترجمات حرفية تبلغ حدا بعيدا من السقم والسخف…لأن المترجم نفسه يبدو وكأنه غير مدرك لما يترجم”!
وأنتقل للجزء الأخير من عرض هذا العدد اللافت، واستهل ذلك بمقالة للكاتب المصري الراحل “ادوارد الخراط”، وهي بعنوان “ان لم تكن عشيقة فهي على الأقل رفيقة”، واصفا الترجمة الأدبية أنها أصبحت غواية لا مجرد مهنة بالنسبة له، ثم يقول “اترجم…كما اكتب…مدفوعا بقوة قاهرة، لأني لا املك الا هذه الوسيلة سلاحا للتغيير: تغيير الذات وتغيير الآخر، الى الأفضل ربما، او الى الأجمل، الى الأدفأ في برد وحشة ما، والى الأروح في حر العنف والاختناق…اترجم لأنني أتمنى أن أقتحم، ولو مقدار خطوة في ساحة حقيقية لا حدود لها ولا وصول اليها…”، ثم يصنف نفس الكاتب مدرستي الترجمة: مدرسة الدقة والأمانة المطلقة للأصل، ومدرسة الوضوح والسلاسة وتقريب المعنى الى الافهام دون تعقيد بكلمات الأصل.
كذلك يتحدث “عبد الغفار مكاوي” عن ترجمته للشعر، فيورد في آخر مقالته قصيدة مترجمة بعنوان “الحنين المبارك” من “الديوان الشرقي” للشلعر الألماني الكبير غوته، تحفل بالرؤيا الشعرية والدلالات الصوفية والكونية، اقتبس منها:
سوف تعروك من السحر ارتعاشة ثم لا تجفل من بعد الطريق
وستأتي مثلما رفت فراشة تعشق النور فتهوى في الحريق
واذا لم تصغ للصوت القديم داعيا اياك: مت كيما تكون
فستبقى دائما ضيفا يهيم في ظلام الأرض كالطيف الحزين
وانهي رحلتي الشيقة هذه بمقتطفات من آخر مقالة بعنوان “تقنيات الترجمة…ونهجي فيها” لكاتبها “رمضان بسطاويسي محمد”، يقول فيها “ينبغي فهم النص في اطار ثقافته الأصلية، لا استنطاقه بمفاهيم لم يقصد اليها الكاتب الأصلي”، ثم يلخص منهجه العملي في الترجمة قائلا: “في الترجمة لم انقل النص نقلا حرفيا مبااشرا وانما اعتمدت على الفهم”…الآن وبعد مضي اكثرمن عقد ونصف فهل تغيرت صورة الترجمة في عالمنا العربي؟ أم بقيت كما هي بل وتراجعت؟!
هكذا ككل الأشياء والأحداث في حياتنا في “الزمن العربي الجميل-القديم” سنغرق كقراء وكتاب ومبدعين وحتى “كمعلنين” في ندم “شكسبيري مزمن” لأننا خذلنا واحدة من اعرق المجلات العربية الثقافية في الوطن العربي، وبعثرنا اشعاعها الابداعي وتجاهلنا مستواها الرفيع وتنوع مواضيعها الجدلية الممتعة وسعيها للتجدد ومواكبة العصر، وكذلك طباعتها الراقية وورقها الصقيل…فهل نتوقع أخيرا كما قال “نبيل سلمان”: “ل الآداب قيامة جديدة في زمن الموات العربي العميم الجديد”؟! [email protected]

أحدث المقالات