ولدت أور ، عندما ولدت أحلام الآلهة في نشوة أمانيها مع الماء والنخل والرمل وأحلام الفقراء.
وبعد آلاف السنين ، ولد من رحم الأثر السومري حلم وال تركي أسمه ( مدحت باشا ) ليصنعَ لشغف الجغرافية بقعة خجولة وشاعرية أسمها ( الناصرية ) ، وما بين المدينتين يصنع التأريخ لنا عاطفة زرقاء يتغنى فيها الجنود وصيادي السمك ، والشعراء ، وعمال الطين ، ورواد المقاهي في أمسيات صيف الحر والغبار والعطر.
لهذا مابين الاغتراب وهذه المدينة حبل من الأساطير يمتد بين نبض قلب المكان وبين عطر الطين وسعف النخيل ، فهي من المدن التي تشعل الحنين في أسئلة الرمش عندما يتحول الشوق الى وردة ربيعها القصيدة وعيون أمهاتنا .
هذا الحنين البنفسجي الذي لايشبه سوى عاطفة المطر حين يمارس الغرام مع الأرض المالحة وصباحات القرى التي تُحيط في المدينة كما يحيطُ الرمش في الدمعة . لتؤسس في المكان ذاكرة وأحلام وسلالات لملوكٍ اشكالهم سمر وتيجانهم من حجر كريم جلبوه بمشقةِ الحروب من بلاد بعيدة .
أضع المدينة في جيب دشداشة العيد وأذهب معها في كل مدن الدنيا ، أحاكيها بنغم المفردة ، وموسيقى المطر ، فأتخيلها جسد الحياة المكافحة في طوفان الخبز ، وأتخيل شوارعها ومقاهيها ومدارس طفولتي وحدائق بيوتها معابد شاهقة بأعمدة من مرمر الروح والألم واللحظة الغرامية فأعيش هاجسها وامنياتها والألفة اليها في امكنة الهجرة والنفي والنأي .
أتذكر فراتها حين يجري في أحداقي بحر طنجة وهو يختلط بين برزخين ( البحر المتوسط والمحيط الاطلسي ) ، فيتحدث لي صديق مغاربي ونحن نزور منزل أبن بطوطة في المدينة القديمة ، أن الرحالة أبن بطوطة مر على خرائب أور وتحدث عن عرب بطائح الجنوب ، وأنحدر صوب البرية القاحلة ليعيش لحظة الصفاء الصوفي مع دراويش مقام سيد أحمد الرفاعي.
أذا ابن بطوطة صاحب كتاب ( تحفة النظار في غرائب الأنصار وعجائب الأسفار ) كان هنا يحث في بغلته السير بعد أن افزعته أساطير المكان والقول :
أن اميرات سومريات تتقدمهن شبعاد يخرجن في الليالي التي يكتمل فيها ضوء القمر ليعزفن بالقيثارات الحاناً حزينة يشتعل فيها النواح والأنين للخطأ الذي اوقعن فيه انفسهن ليذهبنَ مع الملوك والامراء المتوفين احياء الى الاقبية المظلمة كأضاحيَّ من اجل وهم حياة اخرى تدعى ( دلمون ) ، حيثُ سينهض فيها الملك ثانية ويعيش الحياة السرمدية.
ويقال أن الابوذيات التي تفنن في اناشدها ابناء الناصرية من المطربين ( داخل وحضيري وجبار ونيسه وخضير حسن ناصرية وحسين نعمة وعلي جوده وكريم العرجاوي وغيرهم ممن كانوا يأدون أطوارها الخالدة الشطراوي والصُبي ) .
هي من بعض ذلك النحيب والشجن في تلك الليالي التي كانت اميرات أور يمارسن فيه طقس الليلة المقمرة .
من الموسيقى القادمة من حناجر الأبوذيات والمطر ودموع الأمهات وحوافر ناقة الرحالة الطنجاوي ونعوش شهداء حروب المدينة عندما كانت تمنح الحروب جحافل الجنود الذين تتلقفهم التجانيد بلهفتها لتسلب منهم كتب المدرسة وقبلات الحبيبات ، وتمنحهم خوذ الجيش والبنادق واقراص الهوية واقنعة الوقاية وربايا الشمال الثلجي وملاجيء بحيرة الأسماك والفكة والقدر المجهول.
من كل هذا وذاك كان للمدينة وجودا غريبا ، أدمى فيها الكثير من الأقدار لتصبح علامة فارقة في تناقضات وجودها ، فقيرة وشهيدة وحالمة ، هذا الجمع الثلاثي بين تلك الصفات جعلها مثل أي عنقاء خالدة تتحدى اي موت حتى عندما تقسو عليها البلديات وتجعل شوارعها مغبرة وماءها مالح ونخيلها يشتاق لظل من الحياة الرفاهية لابناءها ، لكنها بقيت صامدة وقوية وساعية لتنتج القصيدة والقصة واللوحة الفنية وعمال البناء وارائك المقاهي .
بقيت لتعلم مدن الجنوب معنى أن تصبرَ قطرة المطر وتتحول مع المشاعر الرائعة لتصير دمعة لقصيدة أو نهرا للحن أغنية تقيض برقة مشاعر صاحبها.
لها ذلك المجد النبيل ، لذلك الصرح الذي يسكن القلوب والخواطر ، المكان المقدس بتواريخ أحلام أبراهيم الخليل ، وخطوة الأمام علي ، ومراقد سادته وأولياءه وفقراءه.
وحده يصلح ليكون دواء ضد هومسك غربتنا ، عندما نتذكر مع أطيافه الأمنيات والاغنيات وبساطة روحه والمسامحة التي تجمع تحت عباءتها طيور السنونو الاتية من هجراته الطويلة ، تجمع حلم المندائيون لتكون المدينة من بعض سر الضوء في حياتهم وهم يتجاورون مع اخوانهم المسلمين وبقية الطوائف منذ الختم الطغرائي لمتصرفها الأول ( ناصر باشا السعدون ) وحتى محافظها الجديد ( يحيى الناصري).
الناصرية ، تعطش وتشرب ماءها مطرا ورسائل عشق …ثم ترتوي .
ليرتوي معكَ الشوق والحنين وجوازات السفر ومدائح ملاليلها في شغف الشوق للحسين. لتصنع لنا الذكريات صروحا من صواني الشموع والياس والقيمر والخبز.
نأكل فلا نجوع ، نشرب فلا نعطش.
أنها بئر يوسف في أرواحنا ، مصدر حلم وحكمة ونبؤة .عاشت وستعيش. حتى من حزنها تتفن في صناعة اراجيح العيد ومواويل الأمل …
يأوي الغرباء اليها فيحسوا أن مدنهم البعيدة معهم ، لكن الألم والشوق اليها يكبر في روح أبناءها حين يغتربون عنها ، وكأن أي مدينة في هذا الكون لاتصلح لهم عداها .
هي عطر ميزوبوتاميا ، وأنشيد الأزل لبلاد الرافدين . وربما بسبب نكهة الوفاء في ثوبها المقلم تحمل خصوصيتها أينما يشطر وجهي جهته .
طنجة ، حيدر آباد ، دمشق ، عمان ، أسطنبول ، باريس ، فرانكفورت ، بروكسل ، الشارقة ، دورتموند ، تونس ، دوسلدورف ، شوبنكن ، ميونخ ، طهران ، الكويت ، بومباي ، كولونيا ، براغ ، أثينا ، حلب ، روما …!
مدن لترحال حياتكَ ، تفتش في ثنايا محلاتها وحاناتها وشوارعها عن عطر فجل وكراث وكرفس مزارعها ، فلا يجده حتى مع اجمل عطور الشانيل والديور فلا يجده.
فأين يجد اساطير المحلب والحناء والطين خاوه غير ضفائر أمه .
أين يجد الشاي المهيل ، وشربت الزبيب والكباب الطيب غير في مطعم المرحوم ( الحاج ضاحي ) . أين يجد سحر نغم اغنيات ام كلثوم واسطوانات حضري وزهور حسين غير في مقهى التجار وحبيب الله .
أين …
أين…
الناصرية شعرة بيضاء في شارب التأريخ …
هكذا وصفكِ صديقي الشاعر رزاق الزيدي..وأظن أن هذا الوصف هو تاجك الذي تتفاخرين فيه بين مدن الأرض كلها………..!