لم يخسر الأستاذ غالب الشابندر حياته ولن يخسرها، إنما هو الحزن الذي يضرب المفكر عندما يجد أن طموحاته الفكرية ومشاريعه لا تأخذ مداها واهتمامها من قبل أصحاب القرار، وله الحق في ذلك ولغيره الحق أيضاً، لا سيما ونحن أصحاب مشروع فكري عريض، آمنا به وحملنا أهدافه المقدسة تحت لواء رواده ومؤسسيه الأوائل وفي مقدمتهم الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر والصفوة من العلماء والمفكرين في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
لا أعتقد ان الاستاذ الشابندر يقصد المعنى المباشر في العنوان الذي اختاره لسلسلته المثيرة (خسرت حياتي)، بل انه قصد الخوف من خسارة التجربة الطويلة بما تضمنته من تضحيات ومعاناة وهجرة وعودة الى الوطن، ثم المشاركة في العملية السياسة والوصول الى الحكم من خلال الانتخابات البرلمانية. وما يدعوني الى هذا الاعتقاد أن الشابندر الكاتب والمفكر يعرف ان الانسان الرسالي لا يخسر حياته طالما انه قصد العمل للإسلام وسار في طريق أهدافه الكبرى.
لقد اطلعت على بعض الحلقات، ومن الطبيعي أنني توقفت عند الحلقة التي تناولني فيها، وسرد بعض الوقائع التي جرت بيني وبينه، مما دعاني الى إيضاح وتصحيح بعض المعلومات لأن ذلك يدخل ضمن التوثيق الذي ينشده الشابندر نفسه، فأقول:
فيما يتعلق بمقترحته حول بحثه عن النجف الأشرف كحاضرة ثقافية عالمية، فكلامه صحيح أنني أعجبت بما كتبه، ولكنني ـ ليس كما ذكر ـ فإني لم أقدمها الى السيد رئيس الوزراء ولا الى مكتبه ولا الى أية جهة أخرى، فالمقترح كان كلاماً بيني وبينه، ولم أرتب عليه أي أثر، وليس ذلك لإهمال مني بما كتبه، ولكنه لم يكلفني في هذا الموضوع تكليفاً محدداً، فكان موقفي هو الإعجاب أولاً ونشرها ضمن منشورات الوقف الشيعي ثانياً، وانتهى الأمر تماما.
وفيما يتعلق بحديثه عن إستخراج الجانب التاريخي من كتاب شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد، فأود التوضيح، بأن هذه الفكرة كانت لدي منذ زمن، وقبل حديثه معي، وقد طرحتها على العديد من اصدقائي الباحثين والمهتمين بالتراث الشيعي، وقد خطوت عدة خطوات في هذا المشروع، وأذكر الاستاذ الشابندر بأني اخبرته بكل ذلك، لكني كنت قد توقفت عن إكمالها لأسباب متعددة منها تقديم مشاريع أخرى عليها، ولا تزال مخطوطاتها في أرشيفي الى جانب مشاريع أخرى تنتظر الوقت ان شاء الله لإكمالها. وأؤكد هنا أن الفكرة كانت وليدة نقاش وحوارات مع بعض الاخوة الباحثين، وقد حدثت عنها الشابندر في لقائي معه.
وأضيف هنا أيضاً أنني وكما يعلم أخواني وأصدقائي وغيرهم من المهتمين بشؤون التراث الإسلامي، كانت لي وقبل الحديث مع الشابندر بسنوات طويلة إهتمامات علنية بالتراث الشيعي، وقد أنشأت مركزاً باسم (مركز تحقيق التراث) عام 1992 في مدينة قم، كما قمت في أواسط التسعينات بأختصار التفسير الكبير للفخر الرازي وطباعته ونشره، ووضعت عدة مشاريع ذات صفة تاريخية وتراثية، منها تهذيب كتاب البحار، ومنها إعادة تصنيف كتاب الذريعة، ومنها موسوعة الهجرة العراقية، ومنها موسوعة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، والمشروع الأخير هو قيد العمل وأسأله تعالى ان يوفقني لإنجاحه، كما أسأله تعالى ان يوفقني لإنجاز تلك المشاريع المباركة والتي أحتفظ بمقدمات واوليات عملها في خزانة أوراقي البحثية.
أما فيما يتعلق بالعمل الجهادي، فهذه صفحات حياتي الأكثر إشراقاً وفخراً وإعتزازاً، وهي متممة لما بدأته من قبل تحت راية الإمام الشهيد محمد باقر الصدر. فان الاخ الشابندر يعرف جيداً بأني حكمت بالسجن المؤبد مع الشهيد الشيخ عارف البصري وصحبه وكنت أصغرهم سناً وأقصرهم خشبة، إذ قضيت عدة سنوات في السجن، ثم خرجت بالعفو العام عام 1978 قبل مجيئ صدام الى رئاسة السلطة، ثم إمتثلت لفتوى الإمام الشهيد الصدر في مقارعة نظام الطاغية من خلال العمل الجهادي المسلح، وكنت أحد قادة هذا الميدان في مقارعة النظام، حتى اضطررت للهجرة بعد أن اعتقل النظام وأعدم أشقائي الخمسة، وزوجتي أم علي التي أهديتها كتابي الأول عن القضية العراقية (أزمة العراق رؤية من الداخل).
وبعد الهجرة لم استرح في الظل ولم أسترخ في الأجواء الهادئة، بل واصلت من هناك مشوار الجهاد وسط الصخور والأدغال، وذلك إلتزاماً بالتكليف الشرعي الذي حدده الإمام الشهيد الصدر والإمام الخميني وكبار المراجع في مقارعة الطاغوت الجاثم على صدر العراق، وآمنا بهذا التكليف كخيار وحيد لإسقاط النظام ونيل الحرية.
ويعلم الأستاذ غالب الشابندر أن المرحلة كلها كانت مرحلة مقارعة مسلحة، ويوم كنت مسؤولاً عن معسكر الشهيد الصدر، لم أكن أدعو الشباب الى الجهاد من موقع الإسترخاء والراحة والترف، بل كنت جندياً أرتدي ملابس الثوار، وأتقدمهم في المرابطة على خطوط النار، وكنت أمنع المندفعين والمتحمسين من إقتحام المخاطر من دون دراسة وتخطيط، وقد شاء الله أن يستشهد بعض أولئك الأبرار ولم أنل شرف الشهادة التي كنت أحملها في قلبي وأضع روحي على كفي وأنا اتنقل من خندق الى خندق.
ويعرف الأستاذ الشابندر جيداً أنني دخلت العراق متنكراً تحت كوفية وعقال لعدة مرات ويومذاك كان الدخول للعراق يعني الموت في أية لحظة، وكنت اتنقل في مدن العراق من الجنوب الى الشمال في مهمات جهادية يعرفها من عاش تلك المحنة واكتوى بلهيبها.
وأذكر الأستاذ الشابندر، أن تلك السنوات الساخنة كانت سنوات مواجهة مسلحة مع النظام، وكان الشابندر نفسه يكتب وينظر ويحاضر ويتحدث بحماس بنفس الاتجاه، أي اننا كنا في مدرسة واحدة وفي توجه واحد وفي خندق واحد، لكن الفرق بيننا أنه كان يقاتل بالكلمة وحدها، وانا كنت اقاتل بالكلمة والبندقية. ولذلك فقد شعرت بالحزن والدهشة حينما قرأته في هذه المذكرات ناقداً لتلك المرحلة بشكل مطلق.
نعم، له العذر فيما كتبه لو أنه ومنذ تلك الفترة إعترض على ذلك التوجه، وصرح به ووقف موقف المعترض والمعارض، ولكنه بعد أن كان يخوض المعركة مثلنا ويشارك في أجوائها كما خضناها حتى نهايتها، فلا أعتقد أن له الحق أن يسجل نقداً متأخراً وإتهاماً قاسياً لشركائه في الدرب والمحنة.
أختم هذا التوضيح، بأني من دعاة كتابة التاريخ وقد بادرت الى ذلك من خلال ملحمتي الشعرية (ألفية ابن بركة) التي أرخت بها تلك المرحلة ورموزها وشهدائها وما انطوت عليه من بطولات وعثرات لا تخلو منها اية مسيرة. ولكن للتاريخ شروطه وللمذكرات ضوابطها وهي لا تغيب عن فكر الاستاذ الشابندر الذي نعرفه كاتباً حصيفاً ومفكراً لا يطلق الكلام على عواهنه، بل يمتاز بالوعي الثقافي والمبادرة الى نقد كتب التراث من خلال التثبت والاعتماد على المصادر الموثوقة.