المشهد الاول: في ثمانينات القرن الماضي و بعد النقص الكبير لدى جيش “القائد الضرورة” في عدد الضباط نتيجة عبثية حرب الخليج الاولى التي اودت بالرعيل الاول من الضباط و ما تفتق عنه ابداع القائد و منافقيه من “خبز” دورات سريعة للكلية العسكرية لا تتعدى فتراتها 6-8 أشهر، ازدحمت شوارع بغداد بسيارات السوبر و البرازيلي يقودها شبّان غّر قرع لما تختط شواربهم، و كان أهم ما يميز تلك السيارات، ضرورة و حتمية وجود بزّة عسكرية معلقة على حمالة الجانب الخلفي من السيارة اشارة ل”شخصية” صاحبها، بل و أعرف احدهم كانت لا تفارق جسمه بدلته العسكرية صباح مساء حتى انتشرت عنه “اشاعة” انه قد خاط رتبته العسكرية على ملابسه الداخلية كيما لا تغيب عن أحد “ولو كانوا أهله أو زوجته” مرتبته الرفيعة…يا عيني.المشهد الثاني: في صيفية قائضة بنهاية القرن الماضي (أتموز كان أم آب؟) زار السيد رئيس الجامعة المستنصرية كليتنا و بالاخص مكان عملي حيث لا وسيلة تبريد ما خلا “شبه” مروحة سقفية ناخت احدى ريشاتها جرّاء عاديات الزمن فصارت تصرّ كركبتي عجوز في هرير شتاء قارص، فلعمري لم أك ادري أأحتمل حر الصيف أم صرير المروحة؟ المهم أن السيد الرئيس ببدلته الرسمية و ربطة عنقه المحبوكة بعناية لم يحتمل مفارقة سيارته المكيفة أكثر من دقائق معدودة قام أثناءها بالتوجيه بضرورة معاقبة من لم يجدهم في حمامات الساونا (عفوا مكاتبهم) أثناء زيارته الميمونة…و حينها تساءلت: ألم يك ممكنا للسيد الرئيس ارتداء زي أخف أثناء تفقد سيادته لمرؤوسيه؟لا يكاد كلا المشهدين يغيبان عن بالي كلما تكحلت عيناي برؤية احد المسؤولين (من مسؤول شعبة الى رئيس الجمهورية) ببدلته الرسمية اللماعة (القاط) و في أشهر الصيف القائض خاصة، سواء كان ذلك داخل مكاتبهم او خارجها، في اجتماع رسمي أو لقاء عادي، و يعنّ على بالي سؤال ما وجدت له جوابا و لا تفسيرا ليومنا هذا: ما علاقة المنصب بالبدلة الرسمية و هل تنتفي صفة المسؤول او أهميته أو احترامه بدون بدلته؟لقد أجهدت نفسي بالبحث في بطون الكتب القديمة و مراقبة أحوال الدول الحديثة، فما وجدت دليلا على أن الرسول الامين و وصيه عليهما صلوات الله و سلامه قد التزما كسوة بعينها (بصفتيهما الرسمية و بعيدا عن قيمتيهما الدينية) و وجدت أن سيرتي الخليفيتن الاول و الثاني قد حفلتا باشارات على عدم التكلف في الملبس خاصة، هذا قديما، أما حديثا فقد وجدت رؤساء و مسؤولي كبار الدول و أكثرها تقدما على مختلف درجات مسؤولياتهم و مناصبهم الوظيفية، قد نوعوا في ملابسهم حسب المكان و الزمان فتراهم باللباس الفصير (شورت) و القميص الخفيف تارة و بالزي العادي (كاجوال) تارة ثانية و بالبلدلة السوداء (التوكسيدو) تارات اثناء الاجتماعات الرسمية عالية المستوى…و مما لاحظته دليلا على ذكاء اولئك المسؤولين و حنكتهم القيادية، حرصهم على ارتداء الازياء الاكثر قربا لازياء العامة عند اجتماعهم بهم او اثناء اللقاءات التلفزيونية المعدّة لاغراض الحوار معهم مما يسهّل عملية التواصل و تحقيق النتائج المرجوّة….فما بال ثقافة المنصب تلك بعيدة ما زالت عن أذهان مسؤولينا (و أكررها، على مختلف درجات المسؤولية)، حتى أنني لأشعر بالأسى على شباب صغار، أثقلت حركتهم تلك البدلات اللماعة ما أن تم وضعهم على سدّة أي منصب، و ما دروا أن لا البدلة و لا ربطة العنق الخانقة (في غير ضرفيهما الزماني و المكاني) ستصنع منهم مسؤولين ناجحين، كما أنها لن تمنحهم الهيبة التي يرجون بعيون الآخرين ان لم يكونوا يستحقونها أصلا، بل على العكس أحيانا كثيرة، فانها ستكون مثار سخرية و انتقادات لاذعة و الاسوأ أنها قد تكون حاجزا كبيرا يعرقل عملية التواصل مع الآخرين (مرؤوسين و مواطنين) حين لا يرى هؤلاء طحينا بعد ان تصك أسماعهم و ابصارهم جعجعة الابهة المفتعلة من اولئك…..أقول للمسؤول، أيا كان و حيثما كان، دع عنك سفاسف الابهة و مبتدعات الزيف، فلو كنت كفوءا و ذو خبرة و دراية بامور مسؤوليتك، فلن تزيدك بدلتك خبرة و لن تنقص احترامك عادي الثياب…ستقوم و أنت “المسؤول” و تقعد و أنت “المسؤول” فلا تخف عواقب البدلة و خف عواقب “التبديل”، و لتكن لك في السلف عبرة و في تطبيقات العصر الناجحة درسا…ألم يئن لكم تحديث قاعدة البيانات، و ملئها بضرورة لبس لبوس الكفاية و العمل المنهجي المدروس الشفاف بديلا عن لامع البدلات و ربطاتها في كل حين و زمان؟أصدقكم القول، أنني صرت أتجنب لبس البدلة الكاملة مع مكملاتها من ربطة عنق و سواها خوفا من أن أُشمل بتلك النظرة غير الودودة التي يرمق بها المواطن مسؤوليه في دول العالم النائم و منها دولتنا الحبيبة….فارحموني و ارحموا أمثالي و اسمحوا لنا بلبس البدلات بعد أن آمنّا أن لا مكان لنا ضمن خانة المناصب…..ما قولكم؟ .