لم إذهب الى كتاب دارون المسمى ( أصل أنواع ) ولم اذهب الى أي كوسوعة علمية تتحدث عن الزواحف لأبحث عن الحيوان المائي ( الرفش ) سوى قناعتي بتعريف موظف الخدمة في مدرستنا الواقعة في عمق الأهوار بقوله الرفش (عتوي) جبان يعيش في الماء والعتوي هو الأسم الشعبي لذكور القطط ، وهناك تعريف آخر لواحد من المعلمين بأن الرفش تمساح صغير طردته افريقيا لأنه حيوان لايبحث سوى عن الاعضاء التناسلية للذكور.
التعريف الثاني يضحكنا كلما نرى رفشا على ضفاف الاهوار يتشمس في كسل ويهرب مذعورا الى الماء كلما سمع تلاطم الامواج مع مقدمة قوارب الصيادين او انه يسمع وبذعر حوافر اقدام الجواميس وهي تنقل خطواتها في الماء فيخشى ان تسحقهُ فيذهب الى عمق اغمق.
وبالرغم من هذا فأن الرفش الذي نسج المعدان حوله اساطير كثيرة هو اخطر حيوان مائي في الاهوار بعد الافاعي والخنازير التي تختفي بين القصب الكثيف بمسافات بعيدة عن امكنة القرى العائمة على الماء .
وربما بشاعة شكله يعطيه صفة اسطورية مسماة ( عبد الشط ) حيث يتخيلوه بأكبر من حجمه ولايختطف سوى الاطفال ويسحبهم الى الماء ليكونوا وجبة دسمة لجوعهِ .
طالما حاولت ابعاد خيال تلك الاسطورة عن عقولهم ، ودائما احاول أن اشرح للتلاميذ في درس الحياتية طبيعة هذا الكائن وفصيلته إلا أنهم هم واباؤهم يصرون على أن عبد الشط موجود وانه قد يمتُ بصلةٍ وثيقة لتلك الحيوانات التي تحب ان تتشمس في ظهاري الشتاء بعيدا عن أي عين .
لكنهم يتخيلونه في ردودهم بشكله المخيف وانه يظهر كثيرا في الليالي الصافية المقمرة او النهار التي تخلوا فيها حركة الزوارع وقطعان الجواميس ، ويقولون ان الكثير من الصيادين شاهدوه وأنه خطف اطفالا من قرى غير قريتنا.
لم يصدقوا أن عبد الشط الذي يسمعون عنه في حكايات الجدات وما ورثوه من مخيلة تلك الحكايات حتى انهم صاروا ينسجون شكله المفزغ والغريب والمخيف في نقوش الازر والبسط التي ينسجوها كبعض من اثاث البيت ومستلزمات العرس . أنما هو مجرد سلحفاة كبيرة .و هو هذا الرفش الكبير الذي يتسكع تحت الشمس في الضفاف الطيني وكانوا يقولون أن الرفش يظهر في النهار ويتغير شكله الى عبد الشط في الليل ، وحين يرغمه الجوع يظهر في الظهاري وربما يتحول على هيئة بشر يرتدي ملابس رثة وبشعر كثيف ولكنه متوحش ، اذ عادة ما تكون لديه اظافر قوية وطويله قادرة على سحب ضحاياه الى الماء ، وبمقدوره ان يتحول الى اشكال عديدة حتى على هيئة حورية او إمرأة جميلة او رجل فوق رأسه تاج ملكٍ وينثر ليرات ذهبية ليغري فريسته ويجلبها الى الماء ثم اغراقها معه.
أضحك وأنا اسمع ما يمنحوه لهذا الرفش المسكين ، وكنت كلما ارى وجهه النحيف ورقبته المتحشرفة الطويلة اتخيله ليس بتلك الوحشية ولم اره طوال حياتي يهاجم شخصا ، وانه مجرد حيوان قد يدافع عن نفسه بشراسة حين يقترب منه خطر ما حتى لو كان بشرا.
وبالرغم مما يشاع عنه انه يهجم على الاطفال والكبار على حد سواء وقت سباحتهم في الماء وينتزع منهم بأسنانه القوية اعضائهم الذكورية وخصوصا الخصيتين ، إلا أنني لم ار هذا او اسمع إلا مرة واحدة في مدينتنا الناصرية عندما غرق صبي بعمر عشر سنوات كان يسبح في نهر الفرات مع اصدقائه من ابناء شارعنا في ( المسناية ) التي تقع امام ماكنة ثلج ومطحنة طوبيا .
وبعد يومين من البحث وجودوه طافيا امام محلة الصابئة غير بعيد عند المكان الذي غرق فيه .
وفي مأتمه سمعت والده يقول : انهم وجدوه من دون خصيتيه ، فقد انزعت منه بقوة ، وقال معقبا بصوت منتحب وباكٍ : حتما اكل خصيتيه الرفش.
بعد سنوات من هذه الحادثة تكرر السيناريو في القرية التي تقع فيها المدرسة التي اعمل فيها معلما عندما سمعنا في واحدة من ظهاري الصيف نساء يولولون ويصرخن ، فهرعنا نسأل عن سبب الصراخ ، فعرفنا أن طفلا بعمر عشر سنوات غرق في مياه الاهوار بعدما كان يسرح واخته في قطيع الجواميس .
تطوع الكثير من رجال القرية للغوص في المياه والبحث عنه فلم يجدوه ، وفي الليل بدأت امه تسمعنا نعائها من اعلى السوباط الذي تجلس عليه أمام غابات القصب المتشحة بظلمة داكنة من سماء لن يضيئها سوى خيوط دامعة من نجوم بعيدة ، وكانت تقول : ولدي الآن يأكله الرفش ولن يبقيَّ منه شيئا لأدفنه قرب ابي الحسنين علي .
في اليوم الثاني وجد احد الصيادين الولد الغريق طافيا بين الاكمة غير بعيد عن قريتنا .
حمله الى الزورق واتى به الى اهله ، وكنت موجودا حيث شاهدت الصبي الفقيد وقد بلل الماء كامل جسده ولم يزل مرتد دشداشته البازة ( المقلمة ) ، فيما قفزت امه الى الزورق لتحتضنه وتشمه ثم رفعت ثوبه لتتأكد أن كان الرفش قد أكل خصيتيه ، فوجدتها على حالها لم تُمس.
وقتها ادركت أن الرفش يمتلك عاطفة ايضا . وبعدها حكى لي الصياد الذي وجد جثة الطفل طافية فوق الماء : لحظة عثوره على الصبي كان في المكان اكثر من رفش يدور سابحا حول الجثة .لكن أي منهم يقترب الى جثة الطفل الغريق.