17 نوفمبر، 2024 4:51 م
Search
Close this search box.

للأسف لا أستطيع الإنتحار !

للأسف لا أستطيع الإنتحار !

استلمت قرار مكتب الأمم المتحدة في العاصمة الأردنية عمان بالرفض ، كنت بين حصارين : الفقر المالي لدرجة الإفلاس ، وحصار مدة إقامتي شارفت على الإنتهاء ويجب ان أغادر، كان وضعي النفسي شبه محطم تعصف بي الأيام والأحداث وتتناهشني سوء الأقدار ، ليس من عادتي البكاء على أحزاني وخسائري فلزمت الصمت ، وتوجهت صوب المسجد الكبير في العاصمة لأداء سجدة الشكر لله على كل حال إمتثالا للآية القرآنية (( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون )) وبإعتباري كنت حينها مؤمنا مستلب العقل بسجون الدين لم يكن يخطر على بالي سؤال: لماذا يُكتب على البشر المصائب إذا كان الله قادرا على جعلهم يعيشون سعداء ، وكيف يليق بالرب الرحيم تعذيب مخلوقاته بالإمتحانات والابتلاءات وكأنه يتلاعب بهم ؟!

ذهبت الى المقهى المعتاد ووجدت الصديق خالد مروان ينتظرني لمعرفة النتيجة ، بعد ان أخبرته بحصولي على الرفض سألني :
– ماذا ستفعل ؟
أجبته بجزع :
– للأسف لا أستطيع الإنتحار.

رد عليّ خالد ببرود صادم عرفت سره بعد عدة أعوام حينما قرر الإنتحار وإنهاء حياته .

– أين المشكلة في الإنتحار إذا كان فيه نهاية للمأساة ؟

وجدت نفسي من باب الإحترام له أجاريه في الحديث وأنا على تلك الحالة فأجبته :

– خالد أنت تعرف أنا ملتزم دينيا ومؤمن بوجود حياة وحساب بعد الموت ، هل تتخيل الجحيم عندما يضع الله شخص ما في عذاب النار بسبب الإنتحار بشكل أبدي ؟ علق خالد :
– أعتذر منك وأنت في هذه الحالة الصعبة ، لكني يجب ان أكون أمينا معك في الحوار ..لا يوجد إنسجام بين منح الحياة للإنسان ، وفي نفس الوقت يتم منعه التصرف بها بحرية حسب منطق الأديان ، وفي نفس الوقت لا توجد مساعدة للإنسان من الله في حالة تعرضه للمشاكل والمصائب والكوارث ، ويُترك للإمتحان والإختبار ماحاجة الله لإختبار البشر ، هل تعلم ان مفهوم الاختبار يشير الى ان الله لا يعلم أسرار القلوب ولايعلم الغيب ، وهو في حالة شك وقلق من نوايا مخلوقاته وخوف من عدم محبتها وطاعتها له ، والرب ينتظر رؤية تصرفات البشر للحكم عليها ، صديقي هذه الصورة المرسومة لله هي صورة حاكم إمبراطور يسعى الى تكريس سلطة حكمه ويريد التأكد من إخلاص رعيته ، وهي لاتليق بالله ان كان فعلا موجودا وقادرا على كل شيء !

أخذ خالد مروان يكرر سؤاله عليّ ((ماذا ستفعل ؟)) .. يدهشني الإنسان النبيل الذي يتبنى همومك وعذاباتك بهذا التعاطف ، ذهبت الى السفارة اللبنانية للحصول على الفيزا لكنهم رفضوا الجواز العراقي ، ثم ذهبت الى السفارة المغربية وأخبروني يجب عليّ الحصول على التأشيرة من بغداد ، كل هذه المحاولات وأنا مفلس ماليا ، أخذت حقيبتي وفراش نومي وأردت الإعتصام أمام باب مكتب الأمم المتحدة ، لكن الشرطة بعقليتها العربية التي لاتعرف معنى حقوق الإنسان عاملتني بقسوة وفشل الإعتصام ، كنت في الشهر التاسع من عام 1991 وكانت مشاعر الخيبة والكآبة والإحساس بالخراب طازجة بسبب ما أصابنا من كارثة جماعية بعد غزو الكويت ، لذا لم يكن واردا الرجوع الى العراق ، ، كانت فجيعتنا الكبرى هي ان الوطن قُتل في داخلنا !

قبل غزو الكويت بحوالي شهرين عملت حمالا في معمل دواجن قريب من كربلاء كان يملكه حسين كامل ، المعمل فرنسي متطور جدا ، وتم بيعه ضمن حملة الخصخصة الزائفة التي وزعت ممتلكات الدولة على عائلة وأقرباء صدام حسين ، بعد خدمة ثمان سنوات في الجيش وجدت نفسي أعمل حمالا والمسؤول عني عامل ( مصري ) كان أمرا فظيعا ، كنت أتعامل مع المصريين بروح إنسانية وأدين الإعتداء عليهم ، لكن نحن مجتمع مغلق لا يوجد لدينا ثقافة العمل تحت يد الأجنبي داخل بلدنا العراق ، لم أستطع إكمال الأسبوع الأول في العمل تركته وفي داخل النفس جرح من هذا الوطن التعيس .

– (( هل تعرف حينما كنت في السجن .. كنت مطمئناً على توفر السكن والطعام ، لكن الآن في المهجر أعيش قلقا فظيعا حيث لاشيء مضمون وأشعر أن حياتي أصبحت عبئا علي بسبب الفقر ومحدودية الحركة )).

أخبرني خالد مروان بتلك الحقيقة المؤلمة حينما كان يعيش في الأردن وهو في حالة فقر و جواز السفر العراقي غير مرحب به .. حقيقة الإنسان المهاجر مثل العراقي كانت كارثية ، كان التيه الجماعي بعد غزو الكويت مأساة حلت بالعراقيين ، صار الوطن لايطاق ، وحتما في زمن الحصار تحول الى جحيم ، ولعل من أكبر المآسي في مثل هذه الظروف هو ان تتقلص همومك اليومية الى مستوى الطعام والشراب والسكن ويُقضى على خياراتك وهواياتك وعاداتك الجميلة في عملية تعليب وقولبة ، وجرح الهجرة يتسع نزيفه حسب الحساسية والشعور بالذات والحرية وقوة الإرتباط بالمكان والأشياء في البلد الأصلي .

إنتهت رحلة اللجوء بأقل خسائر ممكنة ووصلت الى أميركا .. لكن عذاباتي لاتزال مستمرة حتى بعد الحصول على اللجوء والإستقرار .. غادرت العراق بعمر 31 عاما ، وهذا عمر لايصلح للسفر والهجرة الدائمة ، فأنا عشت خلاله كثافة عاطفية مع المكان والأشياء وخلال تلك الفترة من العمر حصلت برمجة عاطفية وفكرية وعصبية نتج عنها تثبت وإمتزاج المكان وتفاصيله في ثنايا الروح وأصبح يمثل لي رموزا حية تتحرك في داخلي أعيش معها حوارات دائمة ، وعلى الصعيد الأخلاقي كنت وفيا الى طبقتي الفقيرة ومنسجما مع تفاصيل حياتها ، بل كنت أستمتع بالجلوس على الحصير والنوم على الأرض ، والتجوال بعشق فوق الطرق الترابية والأزقة القديمة والأسواق الشعبية ، لكني أعارض بشدة تسلم أبناء الأرياف والمناطق الشعبية المناصب العليا في الدولة فهم لايصلحون نفسيا وعقليا لهذه الوظائف مثلما ثبت لنا بالتجربة بعد إنقلاب 14 تموز البشع عام 1958 ولغاية الآن ، وإكتشفنا خسارة العراق بعد القضاء على الطبقة الأرستقراطية المتوازنة نسبيا والتي أسست العهد الملكي الذي يعتبر الفترة الذهبية الوحيدة بتاريخ العراق الحديث ، بعد الهجرة زرت أجمل مدن العالم ورأيت أجمل العمران الحديث ، وسرت على شواطيء البحار .. لكن الحنين ظل الى النشأة الأولى والمكان الأصلي ، ليس من باب المشاعر الوطنية ، فعلى الصعيد الوطني لا يوجد في العراق ماهو جدير بالإنتماء ، وإنما على صعيد الحنين العاطفي القهري الذي ليس لي أي دور وإرادة فيه ، فانا سجين مخلفات تلك السنين التي عشتها في ذلك العراق النكبة !

أحدث المقالات