لن نأتي بفكرة جديدة أو نكتشف معلومة مجهولة حين نقول ؛ إن الصراعات الداخلية والحروب الأهلية ، هي بالمنظور السوسيولوجي والسياسي أخطر بما لا يقاس – على وحدة المجتمع – من أي نمط آخر من أنماط الحروب الخارجية ، التي عادة ما يندلع لهيبها بين الدول ويستعر أوارها على تخوم الجغرافيا . ليس من باب كونها حدث مفصلي يعزل (ما قبل) عن (ما بعد) ، بحيث لن تعود العلاقات ولا الذهنيات ولا الديناميات ولا السياقات ، التي كانت سارية المفعول في المراحل السابقة للحرب ، إلى طبيعتها الاعتيادية وإيقاعها التقليدي . والآن هل يحمل هذا الافتراض مقدارا”كافيا”من اليقين ، بحيث نستطيع أن نأخذه على محمل الجد ونعتبر بنتائجه ونسلم بقدره ؟! . دعونا نطرح الموضوع من الزاوية النطرية ، قبل أن نعالجه من الناحية العملية فنقول ؛ إن من جملة النتائج العرضية لواقعة الحروب الخارجية أنها تحفّز الديناميات الداخلية للمجتمعات المنخرطة بها ، بحيث تفضي – بشكل تلقائي – إلى تلاشي الكثير من المظاهر السلبية السائدة منها على سبيل المثال لا الحصر ؛ الفتور في العلاقات الاجتماعية ، والركود في التفاعلات الثقافية ، والخمول في الالتزامات الأخلاقية ، والجمود في المجالات الإبداعية . لتحل محلها مظاهر أخرى بديلة غالبا”ما تكون ايجابية تتسم ؛ بإرهاف الوعي السياسي ، وتصاعد الشعور الوطني ، وارتفاع المدّ الجمعي ، وتيقّض الحسّ القومي . وبناءا”على هذه المعطيات وتلك الحيثيات فقد امتدح الكثير من رجلات الفكر والسياسة – ناهيك عن بعض الفلاسفة من العيار الثقيل – ظاهر الحرب الخارجية ، معتبرين إياها بمثابة عامل مهم من عوامل ؛ تعزيز الوحدة الوطنية ، وتقوية الرابطة الاجتماعية ، وتفعيل الاواليات الحضارات ، وتنشيط الانجازات العلمية ، وتطهير المنظومات القيمية ! . وإذا ما تأملنا حصيلة الاتجاه الآخر ومن ذات المنطلق ، أي باعتماد المخلفات والإفرازات التي تنتجها الحروب الداخلية والصراعات الأهلية ، فان الأمور حينذاك ستأخذ منحا”كارثيا”بكل المقاييس والمعايير ! . فهذه الحرب هي بالتعريف صراع بيني واقتتال متقابل ينشب داخل كيان المجتمع الواحد والوطن المشترك ؛ على خلفية التعارض في الانتماءات القومية / الاثنية ، أو التناقض في الولاءات الإيديولوجية / السياسية ، أو التباين في الاعتقادات الدينية / المذهبية . بحيث إن تداعياتها وعواقبها لا تستهدف فقط الحاضر السياسي للمجتمع بكل مكوناته وقطاعاته ، ولا تطال فقط مستقبل أجياله فحسب ، إنما تشمل أيضا”عناصر تاريخه الماضي وأطياف مخياله ، بقدر ما تسهم هذه العناصر وتلك الأطياف في إبقاء جذوة الاحتقانات النفسية متأججة . والملاحظ على هذا النمط من الحروب إن مستويات القسوة في الصراع ومظاهر الشدة في التخريب ، لا تأخذ منحا”واحدا”ولا تتبع سياقا”متشابها”- كما في أنماط الحروب الخارجية التي تخضع لقواعد وأعراف دولية ملزمة – إنما تختلف من نمط إلى آخر وتتباين من حالة إلى أخرى ، وذلك تبعا”لطبيعة العوامل الاجتماعية والدوافع النفسية التي تتظافر في تكوينها وتؤدي إلى اشتعالها . وهكذا كلما كان العامل المسبب قريبا”من السياسة ومنفصلا”عن الدين ، كلما كانت مظاهر الصراع تتسم باللين والاعتدال وأطرافها تكون أميل إلى التسوية ، هذا في حين يحصل العكس عندما يكون العامل المسبب قريبا”من الدين ومتصلا”بالسياسة ، حينذاك تميل الأطراف المعنية إلى التشدد في المواقف والتعصب في الآراء ، كما وتمعن مظاهر الصراع بالقسوة وتفرط بالشراسة . ذلك لأن أنماط الحرب الأخرى يمكن أن تحل بالتسويات والتوافقات السياسية والإيديولوجية ، أو أن تعالج بالتراضيات والتنازلات القومية والاثنية ، كونها تتعلق بمصالح يمكن التفاوض بشأنها وترتبط بحقوق يمكن الاتفاق حولها . ولأن عوامل الإيمان بالمقدس والاعتقاد باحتياز الحقيقة الإلهية ، هي من يتحكم بديناميات نمط الحرب الدينية والطائفية ، فإنها لا تسمح بأي شكل من أشكال التسويات والتوافقات ، ولا تبيح أي ضرب من ضروب التراضيات والتنازلات ، وإذا ما حصل وان توصلت أطرافها إلى أي نوع من أنواع التحاور والتشاور أو التفاوض والتفاهم ، فاعلم عند ذلك أنها تحولت من خانة الدين إلى خانة السياسة ، وغادرت حقل التعصب والعنف إلى ميدان التسامح والتعايش ، وبالتالي أصبحت على مرمى من الحل والتسوية . هنا نسأل – ومنه نغادر حقل المجرد ونلج مضمار المجسّد – وفقا”لأي نمط من تلك الأنماط المذكورة يمكن تصنيف الصراع المحتدم بين مكونات المجتمع العراقي منذ ما يوازي العقد من الزمن ، ويبدو انه آيل إلى التفاقم والتعاظم ؟! . ليس من الصعوبة مكان إدراج صراع العراقيين الحالي تحت بند النمط الديني / الطائفي من الحروب الداخلية ، والذي يعد من أخطر الأنماط فتكا”وتدميرا”من حيث تسويغه ؛ اختلاط الديني بالدنيوي ، وتداخل الإلهي بالبشري ، وتلابس المقدس بالمدنس ، وتمازج الرحمن بالشيطان ، وتماهي المحرّم بالمجرّم . بمعنى إن (الأنا الطائفي) لا ينظر إلى نفسه
كنمط واحد ضمن أنماط أخرى (للتدين) ، إنما النمط الأوحد . ولا تعتقد إن تصورها (للدين) يعتبر تصورا”نسبيا”كما سائر التصورات الأخرى ، إنما التصور المطلق . ولهذا نجد أن من السهولة بمكان انزلاق الطوائف – في مثل هذه الصراعات – صوب ليس فقط تخوين الآخر سياسيا”وإقصائه اجتماعيا”وتجريمه فكريا”وتشويهه تاريخيا”، بل وتكفيره دينيا”وبالتالي استئصاله بشريا”. من منطلق إن (الذات الطائفي) يمثل جانب الإيمان ضد كفر (الآخر) ، وخير (الأنا) ضد شر (الغير) ، وحق (النحن) ضد باطل (الهم) . بعبارة مختصرة ؛ إن شكل الصراع يتبلور بصيغة جبهة (الملائكة) ضد جبهة (الشياطين) ، وجماعة (الأطهار) ضد جماعة (الفجّار) ! . ولعل مثل هذا الواقع الموبوء بكل هذه المظاهر من التقرحات الاجتماعية والاحتقانات النفسية والتوترات السياسية والحساسيات الدينية ، لا يمكن له أن ينتج مجتمع سليم ومعافى يتطلع لان يعيش كسائر المجتمعات الأخرى ، التي تنعم مكوناتها بأسباب الأمن والأمان ، وتمارس حياتها في أجواء من الحرية الشخصية والكرامة الإنسانية ، فضلا”عن التطور الحضاري والارتقاء الثقافي والتقدم العلمي . ولهذا فان نوازع البغض والكراهية التي يكنّها هذا الفصيل الطائفي ضد آخره ، في الانتماء للوطن الواحد والدين الواحد والتاريخ الواحد والثقافة الواحدة والهوية الواحدة ، لا يمكن لها إلاّ أن تقود الجميع (سنّة وشيعة) إلى هاوية الحرب الداخلية / الأهلية ، التي ليس من مصلحة أحد – حتى وان ظن العكس – الارتماء في أحضانها والاندفاع في أتونها . إذ إن الخاسر فيها والمتضرر منها – حيث لا يوجد فائز فيها أو رابح منها – لن يكون فقط الطائفة / الأنا الشيعية على حساب الطائفة / الأنا السنية أو بالعكس ، بل أن سعيرها سيحرق العراقيين بكل أطيافهم ، ويفرق دينهم بكل مذاهبه ، ويمحق تاريخهم بكل مواريثه ، ويمزق جغرافيتهم بكل تضاريسها ، ويمسخ هويتهم بكل مكوناتها ، وينسخ ذاكرتهم بكل رموزها . ولكي لا تنمو الكراهية وتشرئب العدوانية بين سنّة العراق وشيعته ، ولأجل ألا تقام الحواجز بين أقوام العراق وطوائفه ، ومن باب الحرص على إيقاف نزيف الدم بين أنصار (علي) واتياع (عمر) ، والإبقاء على وطن الأنبياء والأولياء سالما”وأمينا”يحفظ لكل مواطن حقه في اختيار نمط التدين وشكل العبادة التي يعتقدها تقربه زلفى الله رب الجميع . فالواجب ، لا بل المصير يقتضينا إيقاف صيحات التخوين الوطني والتكفير الديني والتجريم السياسي ، إذ ينبغي عليهم جميعا” إدراك حقيقية أن خطر الإرهاب الداهم لا يفرق – وان يحاول أن يخفي غرائز الفتك تحت غطاء الدين ، ويمارس طقوس الموت تحت ستار الطائفة – بين سني أو سيعي ، بين عربي أو كردي أو تركماني ، بين آشوري أو كلداني ، بين مسلم أو مسيحي ، بين يزيدي أو صابئي . فالكل في نظره خارجين عن حضيرة الدين ينبغي استئصالهم ، والجميع في منظوره كافرين يتوجب إفنائهم . ومن هنا فليتأكد كل من توسوس له نفسه الأمّارة بالسوء ، إن الحرب أو الصراع أو الاقتتال – سموه ما شئتم – الطائفي إذا ما دقت طبولها وعزف نشيدها – لا سامح الله – حينذاك لن يعود العراق عراقا”كما تذكره كتب التاريخ والجغرافيا والسياسة ، ولن يكون للعراقيين من وجود يستدل عليهم ، بعد أن يكون سعير الحروب قد أفناهم ! . ملاحظة أخيرة ؛ كل أنواع الحروب يتوقع أن تستنفد طاقاتها أو تحقق أهدافها ومن ثم تضع أوزارها وتكون لها نهاية ، باستثناء الحروب الدينية / الطائفية ، فهي لا تملك فقط فائض من الطاقات النفسية لا ينفد ، وخزين من القدرات التعبوية لا يفتر فحسب ، وإنما لهذه الأسباب تكون مصدر لولادة حروب أخرى !! .