18 ديسمبر، 2024 7:14 م

لكل ضعفا ولكن لا تشعرون

لكل ضعفا ولكن لا تشعرون

يعتمد التعليم في كليات الطب، على غرس الاساليب العلمية والاخلاقية للمهنة، في الطالب؛ بإعتبارها مقدسة، وترسيخ تلك القدسية، بداهة في شخصه.. يتنفسها أثناء العمل.. يعيشها ويتمثلها وينجبل عليها قوام تكوينه الاجرائي…
يأخذ الطب قدسيته، من خصوصية تعامله مع الكيان البشري.. جسدا وروحا؛ لأن حق الحياة.. مطلق.. مكفول بالشرائع المنزلة والقوانين والتعاليم.. المنزل منها والارضي.. حق سامٍ لا نقاش فيه، وهذا هو سر إختلاف تلك الميزة الانسانية، عن سواها من مهن أخرى.
المهن طرا.. مهمة، لكن لكل واحدة “ضعفا” من الضرورة، في تدعيم إستمرار نسغ الوجود، متدفقا على الارض، لكن تصحيح بنية العضلات والنفس، بمستويات متواترة، تنفذ بالتالي الى المجتمع.
الانا العليا للانسان والانا السفلى، تتماهيان عند المرض؛ لأن الإنسان تحت ضغط الالم واليأس وخوار القوى، يتوحد تفكيره.. تتحيد رؤاه، ينطفئ عمقيه الغرائزي الكامن، وينتظم في صف الوعي المباشر المنتظم وسط المحيط الاجتماعي.. ايجابيا برغم سليبة الحال التي يعيشها بإعتباره عليلا.
الامر الذي يضع الطبيب امام مسؤولياته، إذ اعطاه الشرع والقانون حق العمل بالجسد البشر، والاشتغال به.. دواءً وحقنا وتبضيعا بعمليات صغرى وكبرى وفوق ذلك، بل يشفع إختراقه العام، بالشكر والعرفان، بقصد النية.
“عمدا وصلت الذي بيني وبين الناس.. منهم انا مثلهم والصوت منهم عاد” وهذا ما يميز شرف مبضع الطبيب، عمن يستخدم المبضع ذاته، في عمليات السلب.
فالمريض ينظر للآخر، من عين الباطن المستلب، جراء الالم وهن القوة، متخذا من تلك النظرة حاضنة يصب فيها الوجود، ليبلغ مستوى افضل، فالباطن مصب الكون كله؛ إذا لم يتسلم شفرته بصفاء معافى، تشوش النسق العضوي والنفسي؛ إذ أن المرض يبطل فاعلية أداء المجسات الحسية، التي وهبها الله للبشر…
هذا الامر، يعيدنا الى بديهة، قدسية الجسد البشري، غير المسموح “بلمسه” لكنه يشرع لكل طبيب، يبضعه ويخزه بالحقن، والمجتمعة كله يسانده.. حبا بالطرفين، تحت غطاء قانوني وشرعي ووطني.
لذا يعد الطبيب خادما للمريض، فتلك رسالته، لا تنتقص من قيمته، إنما تعطيه وضعه السديد؛ فهو من موقع القوة، التي تمتلك قدرة التحكم بمصير المريض.. ضعيفا بين يديه، لتنتظم ثنائية القوة والضعف.. تكاملا لا تضاد فيه، فقوة العلم، تغطي على وهن “العي”.
كل جسد مبتلى بداء، يشكل تحديا أمام الطبيب، التضاد بينه والفايروس او الجرثومة او العلة، كيفما تكون، يعني هو والمريض، يشكلان جبهة ضد الوهن، إستقواءً بحكمة الطبيب وجلد المريض ومطواعيته الواثقة من تلك الحكمة.
مهنيا.. لا يفرق بين شكل ومنصب وغنى العينة التي بين يديه، يبذل جهد ذاته، على مل امستويات، في معالجة الامير، لا فرق هنده عن معالجة الراعي، فلا يميز غنيا عن فقير ولا متنفذ عن بسيط، كل حالة تشكل إختبارا جديدا لملكاته، كما لو تخرج في كلية الطب توا، من أجل هذه الحالة وحدها! وهذا يعيدنا الى الـ “الخلفية – the background” فالانسان كي يستوفي متطلبات العمل طبيبا؛ لا بد له من مميزات استثنائية، عن الاخرين، تمكنه من قطع شوط طويل، يتسارع يختزل الترهلات ويشذب الوقت.. قراءة منهجية تتجاوز طاقة الصبر البشرية، سهرا و… ميزات اخرى أولاها واهمها الرحمة، والترفع عن الاحقاد، حتى لو جيء له بعدوه ينازع في النفس الاخير، فهو مسؤول امام شرف المهنة بصنع المستحيل لإنقاذه،…
فلكي يمتهن الانسان الطب، لابد ان يحقق معدلا عاليا في الدراسة الاعدادية، ويواظب على تنمية موهبة التطبيب، دارسا ست سنوات، في الكلية، وتلك كلها موجبات الاحترام المتبادل، بينه ومراجعيه، لكن قد تحدث مشاحنات بينه وزخم الآلام المتدافعة، طلبا للشفاء؛ فتحت ضغط المرض يتساوى الهادئ والعنيف، وتحت ضغط الزحام تنفلت أعصاب الطبيب.. شدا وجذبا متبادلا.
*د. جاسم مطشر ثامر العواد العزاوي.. طبيب ومحامٍ واعلامي