كلما رأيت جهازا أو منظومة ما تعمل بشكل دقيق ثم يبادر أحد المخبولين بالعبث فيها يتبادر الى ذهني بيت الشعر العربي الخالد
لكل داء دواء يستطب به ….. الا الحماقة أعيت من يداويها
ولو أستعرضنا كل النظم التي طالتها يد العبث والتحطيم والتحريف في العراق بعد الخمسينات من القرن الماضي والى يومنا هذا لسودت صفحات وسطرت مقالات عديدة ستصيبنا حتما بالغثيان وأغلبها معروف لديك عزيزي القارئ .
ولكني سأكتفي اليوم بذكر أحدها لأنني لم أجد من تناولها بما يكفي من التمحيص. هذا من جهة ومن جهة أخرى لأنني قد عشت أحداثها شخصيا وعلى مدى ثلاثة أعوام لذا فأني أعتبر نفسي شاهد عيان وليس شاهد مشافش حاجة لا سامح الله.
في عام ١٩٣١ تقدم الآباء اليسوعيون الأمريكان بطلب فتح مدرسة أهلية في بغداد تقوم بتدريس الطلاب العراقيين في المرحلة المتوسطة والثانوية وقد أسموها كلية بغداد. وكان المنهاج التعليمي لهذه المدرسة هو نفسه المعمول به في الولايات المتحدة مع الأخذ بنظر الاعتبار تهيئة الطلاب لدخول الامتحانات الوزارية العراقية في المرحلة المتوسطة والثانوية كي يدخل الطالب بعدها الى الجامعات العراقية أسوة ببقية الطلاب في المدارس الحكومية. وعلى هذا الأساس كان طلاب كلية بغداد يدرسون العلوم الرئيسية الاساسية كالرياضيات والأحياء والفيزياء والكيمياء باللغة الانكليزية وبعض الدروس كالتاريخ والجغرافيا باللغة العربية.
ومنذ تلك السنة ولغاية عام ١٩٦٩ أي على مدى ٣٨ عاما أستمرت كلية بغداد تحت أدارة الآباء اليسوعيين متألقةً بالمستوى الدراسي الرائع الذي يصله طلبتها حيث قامت برفد الجامعات العراقية بجيل متميز من الطلاب المتفوقين الذين كان يشار لهم بالبنان في تميزهم الدراسي وإتقانهم اللغة الانكليزية . ومن الجدير بالذكر أن معظم خريجي كلية بغداد كان ينتهي بهم المطاف بالقبول في أحدى الكليات العلمية كالطب وطب الأسنان والصيدلة والهندسة بمختلف فروعها أما المتفوقين منهم فكانوا غالبا ما يفوزون بالبعثات الدراسية خارج العراق في احدى الدول الغربية.
أما على صعيد النشاطات اللاصفية فقد كانت كلية بغداد توفر لطلابها إمكانيات هائلة في ممارسة مختلف صنوف الرياضة وكانت ساحات كرة القدم على سبيل المثال والحدائق الملحقة بالمدرسة تعتبر قدوة نموذجية في حسن التنظيم والنظافة. اضافة الى ما تقدم كانت هناك نشاطات لاصفية اخرى كجمعية الخطابة والجمعية العلمية وجمعيات اخرى تهدف الى تنمية مواهب الطلبة وتكسبهم ما يصقل شخصيتهم نحو أعلى ما يمكن أن يصله شاب قبل بلوغه سن الثامنة عشر من العمر.
ولقد شاء حسن الطالع ان أبي رحمه الله قرر ان يضمني الى كلية بغداد بعد إنهائي الدراسة الابتدائية في العام الدراسي ١٩٦٦ وقد تم اجراء اختبار تحريري للمتقدمين لقياس درجة الذكاء فتم قبولي في الصف الاول المتوسط . إن أول ما يلمسه الطالب في هذه المدرسة هو روح المساواة لدى جميع الطلبة حيث لا يمكن لأي ولي أمر مهما بلغ من مناصب عليا أو سطوة أن يجعل إدارة المدرسة أو أساتذتها يحابون ابنه ويضعونه في موقع اعلى من أقرانه . لا بل أن الطالب الذي يتكرر رسوبه او مجرد حصوله على درجات متدنية يعني ان المدرسة ستطلب من ولي أمره نقله الى مدرسة اخرى بعد الصف الاول . ليس هذا فحسب بل أن الطالب المشاكس سيخضع لنفس العقوبات الانضباطية التي يخضع لها عموم الطلبة ولو كان ابن أعلى سلطة في البلد. ولدي شواهد كثيرة على هذا لا مجال لذكرها الان .
ومن الإنصاف هنا أن نذكر أن بعض المدارس الحكومية كانت متميزة في المستوى الدراسي لطلابها ولا سيما الإعدادية المركزية للبنين التي كان طلابها يتنافسون دوما مع خريجي كلية بغداد في الحصول على اعلى معدل في امتحانات البكالوريا للدراسة الثانوية . ولكن مجمل النشاطات اللاصفية والرياضة وإتقان اللغة الانكليزية كانت تضع طلاب كلية بغداد في موقع أفضل .
لقد كان هناك آنذاك ثمة همس في الشارع العراقي من بعض المتشككين من ذوي الميول اليسارية بأن كلية بغداد تغسل عقول طلبتها بما يجعلهم مجندين عقائديا للغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص . كما أن بعض المنضوين للخط الديني الاسلامي ممن تسكنهم نظرية المؤامرة كانوا يرون كلية بغداد واجهة من واجهات التبشير بالديانة المسيحية . ولقد قضيت الثلاث سنوات الاولى تحت إدارة الآباء اليسوعيين لم يفاتحني احد قط أن أنبذ الاسلام وأعتنق المسيحية . لقد كان أصدقائي من المسيحيين يدرسون الدين المسيحي في صفوف خاصة ،، ثم نلتقي بعدها نأكل ونشرب ونلعب وندرس سوية غير أبهين بأختلاف ديانتينا . لقد كان العراق داخل كلية بغداد هو تجسيد فعلي لمقولة ان الدين لله والوطن للجميع . كما أن التدخل بأي شكل من الأشكال بالسياسة هو امر غير مقبول أبدا ويعرض الطالب للطرد من المدرسة .
لقد رأيت بأم عيني هؤلاء الرهبان الآباء اليسوعيون يفنون أعمارهم في تعليم الجيل الجديد من العراقيين وغرز ثقافة التسامح والانضباط والتآخي بين أبنائهم الطلبة . لم يخلقوا منا طابورا خامسا يعمل بالخفاء ضد العراق ولم يفسدوا عقولنا بالفتاوي العفنة ولم يرسبوا احدنا لانه لم يعرف أيجب ان يدخل الحمام برجل اليمين أم اليسار .
كل هذا الجهد الجبار الذي كانت تبذله إدارة كلية بغداد كان لا يكلف خزينة الدولة ديناراً واحدا . كان تمويل المدرسة يتم عن طريق تحصيل الأجور الدراسية من الطلبة كونها مدرسة أهلية اضافة الى الهبات والتبرعات التي كانت تغدق على المدرسة من شتى أنحاء العالم لانها كانت مشروعا تربويا يسعى لخلق المعرفة في أحدى دول العالم الثالث .
وعند إنهائي الدراسة المتوسطة في عام ١٩٦٩ أقدمت الحكومة أنذاك على خطوة حمقاء فقاموا بتأميم كلية بغداد وألغاء الترخيص الممنوح للآباء اليسوعيين ومصادرة ممتلكاتها وبناياتها الجميلة في واحدة من صفحات نكران الجميل التي يعج فيها تاريخنا وللأسف الشديد . لقد حاولت الادارة العراقية بعد التأميم ان تحافظ ما أمكن على المستوى السابق للمدرسة ولربما نجحت جزئيا في السنوات الاولى بفعل عامل الاستمرارية ولوجود البنية التحتية الممتازة للمدرسة التي تركها لهم الآباء اليسوعيون .
لقد كانت كلية بغداد منظومة تربوية رائعة ربت وخرجت أجيالا من الطلبة المتفوقين الذين كانوا سيشكلون طبقة من التكنوقراط التي هي أشد ما يحتاجه بلد نام مثل العراق . وهنالك ملاحظة يعرفها كل خريجي كلية بغداد ممن تتلمذوا على يد الآباء اليسوعيين ان هنالك أصرة قوية جدا تجمعهم مع بعض ولا تنال من قوتها تقادم السنين وذلك سببه انهم عاشوا سوية سنوات عدة في بداية تفتح عقلهم الفتي في محيط نقي تتسامى فيه المساواة والمحبة بعيدا عن الضغائن والتنافس الغير شريف او الحزازات التي تأتي من الصراعات السياسية او الدينية او المذهبية .
بعد كل ما تقدم الا ترون معي ان الاستغناء عن خدمات الآباء اليسوعيين كان فعلا طائشا لا يقوم به إنسان متزن . الا ينطبق على هذا الفعل الشائن بيت الشعر القديم :
لكل داء دواء يستطب به الا الحماقة أعيت من يداويها