مترجم
27 كانون الأول (ديسمبر) 1927
كان النهار مشرقا ، وكان هناك خيط لانهائي من الدخان يمتد من قسم جبال فيزوفي حتى السماء…القرى أصبحت خلفنا ، والسيارة تتسلق الجبال ، وحولنا أشجار الزيتون والعنب ، وأمامنا البحر بجرفه الحجري…
رفيقي- العجوز انطونيو- ينظر الى قصاصة ورق صغيرة في يده ويهز رأسه ,في تلك القصاصة- عنوان مكسيم غوركي .
سنصل قريبا الى سورينتو ، وسنضطر للبحث…
كان انطونيو قلقا ، أما أنا فلم اتعب نفسي بذلك ,اذ عندما سافرت من موسكو ، قال لي الفنان كانجالوفسكي ، انه لايوجد في سورينتو إنسان لايعرف غوركي ، ان كل شخص هناك يستطيع ان يؤشر بإصبعه الى البيت الذي يعيش فيه هذا الكاتب .
توقفت السيارة . هناك بيت على جانب الطريق ، وأخر في الجهة المقابلة. خرج انطونيو من السيارة لكي يسال : الى أين يجب علينا ان نتوجه؟ . ظننت إننا وصلنا ، وحاولت ان أتخيل هيئة غوركي ، الذي لم أره أبدا إلا في الصور… فتحت عيني ، وإذا بي أرى …
– اوووو…. غوركي !!!
صرخت هكذا ، بلا إرادتي ، وقفزت من السيارة نحوه… رأيت أنسانا طويل القامة يقف وهو يحني ظهره قليلا…كان غوركي يرتدي سترة صفراء فاتحة ، وكانت شواربه عريضة ذات لون يذكَر بالكتان ، تلك الشوارب التي تعودنا رؤيتها في كل صورة.
أدهشتني ملامح الشباب التي كانت تبدو عليه ، انه سيبلغ الستين قريبا ، والعالم يمجده باعتباره كاتبا مدهشا أكثر من بقية الأدباء الروس المدهشين ، لقد أسميته بيني وبين نفسي (العجوز غوركي) ولكن عمره كما يبدو لي ألان وكأنه لايتجاوز الخامسة والأربعين أو الخمسين على ابعد تقدير… وانتبهت رأسا الى هدوئه ، والى عينيه الهادئتين اللتين تشاهدان كل شئ على الأرض .
كان يقف- جنبا لجنب مع غوركي- رجل يقرب عمره من الأربعين ، وامرأة شابة . إنهما : كرجكوف-الذي كان يشرف على طبع مؤلفات غوركي الكاملة ، وماريا اغناتييفنا- سكرتيرة الكاتب . قال غوركي وهو يصافحني : تفضلوا أرجوكم … لكنني اعتذرت ، وطلبت ان يسمح لنا بالذهاب أولا الى الفندق ، الذي كان يقع قبال بيت الكاتب .
عندما نزلنا- أنا وزوجتي وابنتي- من الغرفة الى صالون الفندق ، كانت ماريا اغناتييفنا تنتظر ، وتوجهنا الى بيت غوركي .
دخلنا عبر البوابة . كانت هناك ساحة تنس . صعدنا الى الطابق الثاني ، حيث مكتب غوركي . غرفة كبيرة وطويلة ، فيها شرفة تطل على الجهة الشرقية. المجلات والكتب السوفيتية على رفوف الكتب . لقد ذكرتنا الغرفة بمخازن الكتب في موسكو. كانت هناك أيضا عده تماثيل يابانية صغيرة من العاج. وعبر النافذة كان يطل البحر بزرقته. وراء منضدة كبيرة جدا كان يجلس غوركي ، وهو يقوم بتنقيح مخطوطة ما … عندما رآنا نهض حالا ، وصافحنا ودعانا للجلوس . كانت الساعة تشير الى الثالثة بعد الظهر . حديثنا استمر حتى الساعة الثانية عشرة ليلا. واستقبلنا غوركي في اليوم التالي ، رغم أشغاله الكثيرة ، وتحدثنا عدة ساعات أيضا .
كان غوركي محدثا لبقا ورائعا . لقد كتب احد النقاد يقول : ان أحاديث غوركي أكثر طرافة وتشويقا حتى من مؤلفاته . وأنا متفق مع هذا الرأي كنت اعرف ، ان صحة غوركي قد ساءت في الفترة الأخيرة ، لهذا عندما رايته في مكتبه وهو يعمل سألته :
– كيف هي صحتك ، يا الكيسي مكسيموفيتش ؟
– كما ترى ، لازلت على قيد الحياة ، إني لا أخشى الموت ألان ، لقد أنقذني العلاج في الخارج …
فصمت غوركي . كان يبدو بشكل عام في صحة لاباس بها . ولكنه يسعل غالبا ، وكان وجهه شاحبا. انه يستيقظ كل يوم بين السابعة والثامنة صباحا، ويقضي أكثر من عشر ساعات في هذا المكتب ز لقد انتهى توا من قراءة الجرائد والمجلات والكتب التي تسلمها من روسيا السوفيتية .
توجه نحوي سائلا :
– كيف هي موسكو؟ ماهو مزاج الشباب هناك؟ هل زرت القرى الروسية؟
كان يهتم بكل شئ هناك . كانت روسيا بالنسبة له مثل الهواء الذي يتنفسه ، وإضافة الى المجلات والجرائد والكتب ، كان يستلم يوميا أعدادا كبيرة من الرسائل ، التي تصل إليه من أنحاء روسيا .
قال غوركي وهو يشير الى كومة الرسائل على منضدته :
– أناس مختلفون جدا يكتبون لي كل يوم. إنني أتعجب بعض الأحيان كيف تصل هذه الرسائل من تلك الأماكن البعيدة؟! . أمرآة تعيش في قرية منسية منعزلة ، لايوجد عندها احد تكلمه ، كتبت لي رسالة ، صبت فيها كل ماتجمع عندها من كلام … أدباء شباب من القرى يرسلون لي قصائدهم وقصصهم.
قبل فترة قصيرة استلمت رسالة من احد الأصدقاء يلومني فيها لأني اكتب الرسائل فقط، وكان ليس ثمة من عمل أخر.
وفتح غوركي عينيه بسعة ، وقال بتأمل:- إني أحاول ان أجيب على كل رسالة أتسلمها، وعندما يلومونني على ذلك، فأنني أقول عادة :- ان كتابة الرسائل هي أفضل وسيلة لإيصال أفكارك الى الناس. قبل مدة بعثت لي شاعرة من إحدى القرى – وعمرها أربعة عشر عاما لا أكثر بقصائدها. لقد أدهشتني عبقريتها ، لكنني لم امدحها كثيرا ( أخشى ان تصاب بالغرور) وإنما شجعتها …
انها سعادة كبيرة بلا شك ( خصوصا بالنسبة للكاتب الذي يعيش بعيدا عن وطنه) ان يستمع الى أصوات أرضه الحبيبة ويحس بأنفاسها، لكن هذه الرسائل تستنفذ وقتا طويلا وطاقة هائلة، وقد قلت لغوركي:-
– أظن ان كل هذا شكل صعوبة كبيرة. فأجاب غوركي:-
– كلا، بالعكس هذه الرسائل تلهمني.
وانتقل حديثنا الى الأدب الروسي، فقال غوركي:-
– إنني أؤمن ان الروس شعب عبقري. لقد أنجبت الأرض الروسية كثيرا من العباقرة، وستنجب عباقرة آخرين.
إما عن الأدب الروسي المعاصر، فقال غوركي ان النتاجات الأدبية الجيدة أخذت تظهر بشكل متزايد، وأضاف:-
– إنني انتظر روايات بمستوى روايات دوستويفسكي وتولستوي.
– ومن هم الشباب الذين تضع ثقتك بهم ؟
– هناك أسماء كثيرة من الأدباء الجيدين وهم ذوو مستقبل باهر ليونيد ليونيف مثلا، انه كاتب شيق وطريف جدا، عبقري على نحو يثير الدهشة ، كذلك فسيفولد ايفانوف. لقد أصبح يكتب – في الفترة الأخيرة – أشياء غير سيئة بتاتا. قرأت له قبل فترة قصة تبدأ هكذا:- في سيبيريا لا تنمو النخيل …هذا سطر واحد لاغير، لكن ايفانوف فقط هو الذي يستطيع ان يكتب هكذا. هناك أيضا بابل وفيدين وليدين. عند الأخير ترى بعض الأحيان أصداء تولستوي وتشيخوف، وهذا شئ يخدش الإذن… ياكوفليف وسيمينوف أيضا كاتبان جيدان.
وذكر غوركي عدة أسماء أخرى، ولكنه قال إنهم أكثر من ذلك، وانه من الصعب تذكر الجميع.
لقد كنت اعرف شخصيا عددا من هؤلاء الأدباء الذين تكلم عنهم غوركي، ومن بينهم فسيفولد ايفانوف، والذي حدثني مرة بما يأتي:-
( حدث هذا في عام 1916 كنت اعمل في إحدى المطابع، وأرسلت الى غوركي قصتي الموسومة
( على نهر ارتش). بعد مرور أسبوعين ، تسلمت رسالة من غوركي، يمدح فيها القصة ويعد بنشرها.
لقد كان هذا اسعد يوم في حياتي. قرأ أصدقائي الرسالة، وقرروا باني أصبحت أنسانا عظيما، واحتفالا بهذه المناسبة أعطاني المدير راتبي مقدما… وقد شرب الجميع حتى الثمالة. أنا شخصيا لم اشرب تقريبا، لكني كنت ثملا أكثر من الجميع . بعد ذلك أصبحت اكتب بكثرة ، وأرسل كل شئ الى غوركي ، وتسلمت منه رسالة يوبخني فيها على هذه الترهات ، مشيرا الى ضرورة التفرغ للدراسة…وفعلا لم اكتب اى شئ . كنت أقرا كثيرا، ولعدة سنوات… بعد ذلك ، وبنصيحة من غوركي أيضا ، سافرت الى بيتروغراد . في تلك اللحظة لم يكن غوركي موجودا هناك ، إذ سافر توا الى موسكو ، وكدت أموت من الجوع ، لكن غوركي رجع في الوقت المناسب ، وأطعمني في احد المطاعم الراقية ، وقد أكلت كثيرا حتى انني عجزت عن الحركة ! لم أكن أؤمن بشكل عام بوجود الناس الطيبين ، ولكن غوركي قلب مفاهيمي تلك…).
هذا ، وقد طلب ايفانوف مني (قبل سفري الى ايطاليا) ان ابلغ غوركي بأنه سيزوره في الربيع القادم ، وأجاب غوركي قائلا : اخبر ايفانوف ، باني سأقابله بكل سرور…
دقت الساعة الثامنة مساءا، وحان موعد العشاء. ذهبنا جميعا الى غرفة الطعام . ماريا كانت تقوم بدور (ربة البيت) ، وقد جلسنا- أنا وزوجتي وابنتي- إزاء غوركي وكرجكوف . وجاءت الأكلات الروسية: السلاطة ، الحساء ، اللحم مع البطاطا… ، وافرح الجميع الكافيار الأسود الذي جلبته معي من موسكو ، وقال غوركي الذي كان منشرحا وذا مزاج جيد :
– في ايطاليا نتكلم مع اليابانيين باللغة الروسية ، ونشرب الفودكا الروسية مع الليمون الايطالي… ان هذا كله أمر طريف حقا .
أثناء العشاء تكلمنا كثيرا عن اليابان ، وتبين ان غوركي يعرف الكثير عنها ، ويثمن الفن الياباني عاليا ، ولقد أراني مجموعة من التماثيل اليابانية الصغيرة ، المصنوعة من العاج ، وتكلم بإعجاب شديد عن الفنانين الذين استطاعوا ان يعبروا عن روح الشعب الأصيلة . وانتقد غوركي بعض الفنانين اليابانيين المعاصرين ، الذين يحاولون تقليد أوروبا ، وسألني كثيرا-وباهتمام- عن أخبار الأدب في اليابان ، وعبر عن أسفه لقلة الترجمات الروسية عن اللغة اليابانية ن وقال ان رواية ايفوني كانا (السجن والحب) لم تعجبه كثيرا ، لكنه مدح رواية تاكيوا (المرأة) . وكان غوركي على علم بانتحار الكاتب الياباني المبدع اكوتا غافي ، وعندما أخبرته ، بان إحدى دور النشر اليابانية ستصدر قريبا مجموعة من قصصه القصيرة ، كتب غوركي في دفتر ملاحظاته : يجب طلب نسخة من هذه المجموعة .
وحدثت غوركي عن دراسة الأدب الروسي في اليابان ، وقلت له ان معظم نتاجاته مترجمة الى اليابانية ، وقد فرح غوركي جدا بهذا ، وخصوصا عندما عرف ان مسرحيته (في الأعماق) تعرض باستمرار وبنجاح على مسارح اليابان ، جنبا لجنب مع مسرحيات تشيخوف وتولستوي .
وقلت – بدون حذر- ان الناس عندما يحبون أغنية (يكاترينا) ن التي وضعت خصيصا للمسرحية المقتبسة عن رواية (البعث) لتولستوي ن وقد أجبروني فورا ان أغنيها لهم . وكم كنت أسفا لأني لم اعرف الأغنية التي وضعت خصيصا لمسرحية غوركي( في الأعماق) .
واستمع الجميع إلي بانتباه ، وطلب مني غوركي ان اغني له بعض الأغاني الشعبية اليابانية.
ودقت الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل. وطلبنا – وكلنا قلق على صحة غوركي – ان يعذرونا ويسمحوا لنل بالرجوع الى الفندق .
28 كانون أول (ديسمبر) 1927
النهار كان مشرقا أيضا ، استيقظت في الثانية . خرجت الى واجهة الفندق ن ونظرت باتجاه مكتب غوركي . كانت النافذة مفتوحة . هذا يعني انه في الغرفة ألان.
في الثانية عشرة ظهرا توجهنا الى بيت غوركي : أمس دعانا لتناول طعام الغداء . حفيدة غوركي مارفا وابنتي أصبحتا صديقتين حميمتين ، وكانتا يتكلمان بالأيدي . (الجد) غوركي كان يبتسم طوال الوقت وهو ينظر أليهما .
وفي المساء كان عند غوركي ضيوف جدد : تحدث إليهم عن أرائه في العالم والثورة . أما عن القرية الروسية فقال :
– أيام القياصرة عانى الفلاحون ظلم المدينة، إنهم لا يثقون أبدا بالمدينة.
بعد الثورة، لم يتقبل الفلاحون رأسا تلك المشاريع الكبيرة، التي قدمتها لهم حكومة الثورة، انطلاقا من ذلك العداء القديم بين القرية والمدينة.
وقد ذكرت أنا ، ان الأجانب لا يستطيعون ان يفهموا جوهر القرية الروسية وروحها إلا بصعوبة كبيرة ،ووافقني غوركي وأضاف :
– حتى بعض الروس أنفسهم لا يفهمونها . لا اذكر متى حدث هذا في مدينة نيزني نوفغورد ، شاهد فلاح الترام لأول مرة ، ودهش لأنه لم ير أي حصان ، ومع ذلك يتحرك الترام … ووقف على الخط الحديد أمام الترام وهو يصرخ : ماهذا الذي يحدث ، أيها الرب ! وكاد يسقط تحت عجلات الترام .
لا استطيع ان اعبر بالكلمات عن الحركات المدهشة التي كانت ترتسم على وجه غوركي وهو يتحدث: وفي إحدى المرات ظهرت إشاعة في إحدى القرى مفادها : ظهر (صندوق يغني) ، واجتمع الفلاحون حوله ، واستمعوا فعلا الى أغنية ، وكان الجميع في حيرة وارتباك ، وأعلن احد المدرسين بكل ثقة أن شيطانا يجلس في قعر هذا الصندوق ن وأثناء ذلك قلبوا الاسطوانة ، وإذا بغناء ديني كنائسي . ماهذا ؟ لقد جن البعض .
وسألت أنا :
– هذه على ما أظن نكتة ؟
أجاب غوركي بكل جد :
– أبدا ، هذه حقيقة . وفي هذه القرية الفقيرة الجاهلة دخلت الثورة بكل عنفوانها ، ومن الطبيعي ن ان الكثيرين منهم كانوا في حيرة وارتباك …
طوال الوقت الذي أمضيته في حديثي مع غوركي ، كان يبدو لي، إن أمامي- وفي شخصية هذا الأديب- تقف روسيا كلها ، روسيا البسيطة والذكية والواسعة والعميقة على نحو لا يسبر غوره …
الساعة كانت تشير إلى العاشرة ، وكان علينا ان نسافر صباح الغد . طلبت من غوركي ان يكتب لي عدة كلمات للذكرى ن فكتب :
– ( عندما التقي أناسا لا اعرفهم، يزداد عدد أصدقائي ). سورينتو . م . غوركي .
وتمنيت للكاتب صحة جيدة ، ودعوته – وأنا أودعه – لزيارة اليابان ، وقال غوركي وهو يصافحنا بحرارة وقوة :
– سآتي حتما….