لقاء العيون في زمن متشظٍّ : سردية سريالية للالتقاء العابر والافتراق الدائم

لقاء العيون في زمن متشظٍّ : سردية سريالية للالتقاء العابر والافتراق الدائم

في يومٍ من أيام الزمن المهدور، حيث تذوب الساعات تحت وهج الهجير المُغلف بالغبار، التقيته فجأةً في فوضى السوق الذي وطئته قدماي لأول مرة … ؛  تلامست الأعين قبل الأجساد، فَتَجَمَّد الزمن كساعة رملية محطمة، بينما غرقتُ في بحر عينيه النرجسيتين اللتين تشبهان مرآةً تُعيد تشكيل الذات المتكسرة … ؛  كان يحدّق بي بتلك التركيبة الملائكية الغريبة: نظراتٌ تبتلع الفراغ من حولي ، وكأن الكون كله قد تقلص ليصبح مساحةً منيرة بين جفنيه الناعسين …  ؛ لم أعد أرى سواه، تماماً كما لم يرَ هو سواي… ؛ كنا مرآتين تتناسخان إلى ما لانهاية، حتى صارت الفوضى المحيطة خلفيةً مُبهَمة لمسرحية الأرواح هذه.

لم أدرِ متى انتهت “لحظة العيون” تلك، لكنني صحوتُ فجأةً من سُكْر البؤبؤين كمن يُقلع عن إدمانٍ قديم… ؛  اقتربتُ منه بخطواتٍ تشبه سقوطَ ورقةٍ في مهب الريح، بينما تقدّم هو نحوي كجاذبيةٍ لا تُقاوَم…  ؛ تبادلنا سلاماً تحوّلَ إلى نشيدٍ ميثولوجي: “السلام عليكم والنفحات القدسية والانوار الجمالية ” لم تكن مجرد تحية، بل طقساً صوفياً تتدفق منه “أنوار الجمال” و”نفحات القدس”، وكأن الألسنة حوّلت الكلمات إلى أطيافٍ ضوئية… ؛  لقد تحقق المعنى في المسمى للمرة الأولى في السوق : فالسلام كان سلاماً، والحب كان حُباً، دون أن ينقصَ الحرفُ ذرةً من مِلْئِه!

ثم تصافحنا… ؛ و كانت حرارة يديه تفوقُ لهيبَ شمسِ المغيب، وكأن جسدي التقطَ شرارةً كهرومغناطيسيةً من ذراعه، فاهتزَّ كياني كوترٍ عُزفَ عليه بعد صمتِ قرون… ؛  ثم جاءت القبلات : ومضاتٌ سريعةٌ كأحلام اليقظة، لكنها خلَّفتْ وراءها عطراً يُذكِّر بحدائق بابل المعلقة واريج جنات عدن … ؛  لم تكن شفاهنا تلامس بعضها بقدر ما كانت أرواحنا تُعيد تشكيلَ جغرافيا الأجساد.

لم نتبادل الحديث، لكننا اتفقنا… !

كأننا نُتمُّ حواراً بدأه أسلافنا قبل ألف عام، أو كأننا جئنا من عالمٍ آخر لنُنهي مهمةً كونية: توقيعَ عقدٍ مكتوبٍ بلغة النجوم وقوانين المجرات … ؛  حتى الزحامُ العشوائي للسوق بدا لنا نظاماً هندسياً دقيقاً قادنا إلى هذه اللحظة بالذات.

أمسكتُ بيده، فتحوّلتْ خطواتنا إلى رحلةٍ زمنيةٍ نحو “المحطة”… ؛  محطةٌ ليست هنا ولا هناك، بل مكانٌ يجمع المتناقضات: القريبَ البعيد، الراحةَ والعناء، الرحلةَ الأبديةَ واللحظةَ العابرة… ؛ وقد تركنا خلفنا أكواماً من الهموم كأنها أصدافٌ فارغة، ولم نترك أثراً إلا كخيال  على جدار .

عندما ابتعدنا، انكسرتْ قيودُ الجاذبية الأرضية… ؛ و شعرتُ أنني أطيرُ في فضاءٍ لا يحوي سوى “هو” والنجوم … ؛  لم يعد ثمة جمالٌ خارج نطاق ذاك اللقاء، ولا حبيبٌ سوى من حوّلَ الفوضى إلى قصيدة والمحنة الى اغنية … ؛  لقد صرنا كلمتين في قصيدة الله المنسية، أو ربما كنا مجرد حلمٍ عابرٍ لزمنٍ متعبٍ… يبحث عن خلاصه في سريالية اللقاءات. 

أحدث المقالات

أحدث المقالات