23 ديسمبر، 2024 10:15 ص

بعد ان غَرَقَ في قراءة متواصلة لمدة ثلاث ساعات, شعر ان عقله كسل, ودمائه بحاجة الى النيكوتين, استل سيكارته البن, وصعد الى سطح الدار, اشعل سيكارته من الولاعة التي لم يعرف لماذا وضع عليها علم نادي برشلونة مع انها مصنوعة في سوق مريدي, سحب نفسا عميقا, رفع رأسه الى السماء, منتظرا تلك اللحظة التي تبدأ فيها مؤخرة راسه بالخدر ويداه بالارتعاش, ولكن تلك اللحظة لم تأتي لسبب ما, تذكر ان شايه لم يكن حلوا كفايه لانتاج تلك “الخدره” التي تاتي من مزاوجة شايه الحلو بسيكاره الرخيص.

تلفت في السماء يمينا ويسارا, لفت انتباهه زوج من حمام الطبان على احدى سعفات النخلة (الخستاوية), التي تعلو سطح منزله, كان الذكر يغازل الانثى التي كانت في ذروة شبِقه, بلونها الترابي ومنقارها المدبب الذي اكتسب لون الشمع وعيونها البيضاء الذابلة, وخلف رقبتها دائرة بيضاء اللون على شكل هلال, لم يكن يبدو ان هناك سبب لوجودها, و يحد راسها من اسفل الهلال الابيض, لون حبري براق يمتد حتى منقارها الشمعي, اما حجمها فكان يوازي حجم الفاخته مرتين. فمسح على عينيه بكلتا يديه ولم يصدق عينيه من الدهشه!!!.

شعر ان ذاكرته المتخمه تجره الى زمن ما, فاستسلم لها, في عمر العشر سنوات كثيرا ما كان يرافق جده, وكان يسأله :

– الي اين سنذهب ياجدي؟.

– وكان الجد يجيب باقتضاب, (للكاع).

وكلمة مثل تلك كافيه لجعله يقفز فرحا, كانت (الكاع), عبارة عن ارض زراعيه تقع في ارض مترددة بين منطقتي التاجي والنباعي, بمساحة ستة عشر دونم, تبعد حوالي عشرة كيلو متر, مابعد جسر الشيخ عامر اذا كان الشخص قادما من جهة قضاء سبع البور. في طريق الذهاب كان يجلس في فناء السيارة -البيك اب تيويتا, طراز تسعة وسبعون- الخلفي متمتعا بلفح الهواء الذي كان, بارد يقرص بشرته في الشتاء, وحار لاهب يذيب عروقه في الصيف, كان يحب ان يشاهد بيوت الفلاحين التي كانت تبدو له من بعيد كانها الجنة .

كانت الارض في نظره تمتد امتداد ابدي لايعترضها شيء سوى اشجار الكالبتوز التي زرعها جده في سنين سابقة وتحيط بالارض على شكل مستطيل يمايزها عما حولها, كأنها قلعة سامقة بين مجموعة خرائب.

عندما يَصِلون يطفئ جده محرك السيارة بالقرب من الغرفتين المشيدتين في رأس مستطيل الكالبتوز مبنيتين بالطابوق الجمهوري ومسقفتين بجذوع الكالبتوز وصفائح من “الجينكو” وضع فوقهما غلاف سميك من اللدائن, لهما باب واحد بفردة واحدة, مطلي بالون الاخضر الباهت, تظهر منه هنا وهناك بعض الدوائر الصدئة, اما الغرفة الثانية فكانت مفتوحة من الباطن على الغرفة الاولى, وكأنهما أمرأتان ارتضتى المشاركة في رجل واحد.

في هذه اللحظة كان يشرع بالعمل, حاملا بيده سعفة من جريد النخل, باحثا في الارض عن كل شيء, الفَراش, القنافذ, الارانب البرية, البلابل الملونة, بل عن كل شيء يتنفس ماعدا الانسان, كانه عالم بايلوجي صغير. عندما ييأس ويبتعد عن جده الذي كان غالبا مايطوف على الجيران للتحية, خصوصا ان رحلاتهم كانت متباعدة تتجاوز احيانا خمسة عشر يوما, كان يشرع بتسلق اشجار الكالبتوز العالية باحثا عن اعشاش الطبان ولقرب الاشجار بعضها من بعض وتناثر فروعها, كان يقفز من شجرة الى اخرى, كان العثور على الافراخ التي تبدو له قبيحة, امراً عاديا, بمناقيرها الطويلة وزغبها الاصفر وجلدها الازرق العاري, كان يحلم بان يصداد الطبانات الكبيرة, التي كانت تبدو له وهي محلقة في الجو, سمينة, لكثرة الغذاء الذي كانت تجده في تلك الارض, والتي غالبا ما كانت تُزرع بالحنطة والذرة, كان يبدو له ذلك حلما مستحيلا, فما ان تدلف السيارة الى ارض المزرعة حتى تهرب طيور الطبان الى السماء ولا يبدو عليها اي اثر للعودة, ثم يباغته صوت جده مناديا:

– اسود… اسود, وكان هذا هو اللقب الذي يطلقه عليه جده لسمار بشرته بلهجة توحي بانه اسم دلع .

– انا قادم ياجدي.

– الم اقل لك ان لا تعود الى تسلق تلك الاشجار, متى تصبح رجلاً؟.

– كنت ابحث عن افراخ الطبان ياجدي.

– هل وجدت شيئا؟

-وجدت فرخان فقط !.

– وهل كنت تريد اكثر, ثم يقهقه الجد, بصوت رخيم ضاحكا من عبثهِ.

– ولكن ياجدي, لا استطيع ان اصداد الحمامات الكبيرة.

– كان الجد يجيبه بصوت حازم, تستطيع ” ابن ادم ايطلع الحية من الزاغور”.

كان جده الذي جاوز السبعين من العمر بقليل ,بطوله المتوسط وبنيانه العريض وقسمات وجهه التي توحي بالرزانة والحذِق من دون اي تجاعيد ظاهره في وجهه الاسمر المهيب, بالنسبةِ له العَارِف بكل امور الدنيا, فيساله :

– جدي لماذا لا تصداد لي حمام الطبان؟.

– لانها لن تعيش عندك اكثر من يومين, فهي لا تحب سوى هذه الارض التي تنعم فيها بالغذاء والحرية, هذه الطيور ولدت وعاشت هنا وستموت اذا غادرت هذه الارض.

-ولكني ساااااااطعمها ياجدي ؟.

-لا تريد طعامك ولن تاكله !.

ولا يعاود السؤال مرة اخرى, فلا يحب الجد تكرار الاسئلة.

كان يعتقد من مشاهداته وما اخبره به جده, انه لايوجد مكان في العالم يعيش فيه الطبان سوى هذه (الكاع), التي كانت فيها اعداد الطبان- ولم يكن الى تلك اللحظة قد شاهد الكبيرة منها عن قرب ابداَ- تتجاوز اعداد الناس المتناثرين في مختلف الاتجاهات حول ارضهم وكانو حسب عده المتكرر لايتجاوزون سبعة بيوت باراضيها الشاسعة. لم يكن يهتم بالبيوت وساكينها, اكثر من اهتمامه, بالكلاب التي يملكونها, في طريق العودة عندما يلوح الغروب بلونه القرمزي الذي يضفي على تلك المنطقة سحر فردوسي, كان يجمع في فناء السيارة الخلفي كومة من الاحجار التي يختارها بعناية, وما ان تسير السيارة على الشارع الترابي بين الاراضي الزراعية قبل ان تصل الى الطريق السريع, حتى تهاجمها كلاب المزارعين نابِحة, فيقذها بالاحجار محاولا اصابتها وكثيرا ما كان ينجح, فيغتبط.

بمرور السنين توفي الجد بعد ان لاحقه الهرم ,ونسي الطفل حلم صيد الطبان ,دون ان تبرح كلمات الجد وحكمته  ذكريات ذلك الطفل الاسود !

وما ان حلت سنة, (2005) حتى اعلن عن ان, (الكاع) وماحولها مناطق ملتهبة وتم تهجير اهلها وطيورها وانتشرت فيها عصابات تقتل الجميع ماعدا افرادها, واصبحت رؤية تلك الارض شبه مستحيلة, فجواز المرور هو اختطاف الارواح ببساطة !.

كانت, (الكاع) وماحولها مليئة بالانهر ومبازل السقي العميقة, التي يختبئ فيها رجال العصابات, وكان جل عملهم, هو تفجير العبوات الناسفة عند مرور ارتال الجيش الامريكي, ثم يندلع اشتباك ينتهي بانسحاب احد الطرفين, هذا ماكانت تقوله الاخبار التي كان يتابعها ذلك الطفل الذي تحول بنار تلك الفترة المحرقة الى رجل يربو على الثلاثين عام, على قناة الحرة التي كان يفضلها.

انسلخ فجأة من ذاكرته ورمى سيكارته وعاد الى دهشته, كان ذكر الطبان مازال يحايل الانثى, التي تتغنج بجناحيها وتقفز من سعفة الى اخرى بخيلاء, كأنها تقلد بجعة انكليزية, دون ان يظفر منها بمراده, ادهشته المسافة القربية التي تفصله عنها ولم تكن تتجاوز ثلاث امتار بخط مائل باتجاه النخلة, وكأنه تمكن لاول مرة في حياته من هتك ستر هذه الطبانات, والتي كانت لا تسمح له في (كاعهم ) من دخول الارض, فإذا دخل طارت كأنها محتجة!, وكيف تركت تلك الارض ؟, الم يخبره جده انها اذا خرجت منها تموت !.

ففكر, بخبرة عالم الطبيعيات الذي قضى طفولته وبعض شبابه مهتما بالحيوانات, لقد هربت من ضوضاء المعارك,واصوات اطلاق النار التي كانت تكسر سكينة هذه الطيور يوما بعد يوما فاستقرت هنا قاطعة مسافة ثلاثين كيلو متر تقريبا طلبا للطمأنينة, وكأنها تنازلت عن كرامتها التي اذلته في طفولته دون ان يتمكن من رؤيتها عن قرب حتى . لقد هُجِرت من ذلك المكان الذي كان يبدو ان وجودها فيه سرمدي, فتبسم لان ظنه لم يخيب ابدا بخبرة جده, قال محدثا نفسه بصوت مسموع:

– صدقت  ياجدي, “ابن ادم ايطلع الحية من الزاغور”!!!.
*الزاغور: مفردة عراقية, شعبية دارجة بمعنى جُحّرْ ضيق.