22 ديسمبر، 2024 7:52 م

لعنة حلاق بغداد (2)

لعنة حلاق بغداد (2)

لقد جاء تواتر الحكام العسكريين عبر دول الشرق الأوسط الفتية على نحو “مزمن”، تواصلًا لسلطة الولاة التقليديين القدماء الذين قبعوا على الأقاليم العربية الشاسعة قبل مرحلة الاستقلال، حيث كانوا يتدربون على صنعة الحكم والإدارة. وهكذا، ابتليت شعوب الإقليم عبر تلك المرحلة المظلمة بحكام بلا خبرة ولا دراية، خصوصًا في الجمهوريات الفتية. وهكذا توالى على سدة الحكم في هذه البلدان أفراد أو تحالفات قبلية أو أحزاب سياسية لم تكن متمرسة في فنون السياسة والإدارة؛ لأنها لم تحظَ بالفرصة المناسبة لاكتساب المعرفة الإدارية. وعلى سبيل اختيار الوصف الدقيق، لعب هؤلاء الحكام المتوالون دور حلَّاق بغداد الذي تنقصه المهارة.
لذا كان الحاكم العسكري التقليدي السابق أفضل من الحاكم “الثوري” الجديد الذي جاء به الاستقلال السياسي، فالأول ارتكن إلى تقاليد عسكرية منضبطة، بينما لم يرتكن الثاني إلى أية تقاليد بالمرة. حتى العوائل المتنفذة التي رغبت بريطانيا أو فرنسا بها لم تكن، أصلًا، أكثر من أسر لزعماء قبليين تعاونوا مع البريطانيين والفرنسيين من أجل مكافأة الحكم. هذا هو ما يمكن أن يلقي الضوء على عودة تنظيم المشايخ والمشيخات الوسيط الذي اعتمد سابقًا. أما مهندسو الانقلابات العسكرية الذين قفزوا من العجلات المدرعة إلى القصور الرئاسية عبر أواسط القرن العشرين، فقد كانوا، على الغالب، ضباطًا في الجيش برتب عمداء أو عقداء من أصول عائلية متواضعة، يجيدون صنعة الحرب، ولكنهم لم يكونوا قط حكامًا يتمتعون بالحكمة والخبرة الكافيتين لإدارة شؤون العباد.
وهكذا طفت على سطح الإقليم المقطعة كيانات ضعيفة تجسد نماذج مؤسفة لسلطة الحكام المطلقة التي تفرض على أبناء شعوبهم أن يضطلعوا بتحمل أعبائها برغم عدم خبرتهم، ولكن في انتظار أن يتعلموا كيف يحلمون، كي يتم إسقاطهم حينئذ من قبل مجموعة أخرى من المتدربين الجدد، وهكذا دواليك. لقد بقيت هذه العجلة الشريرة تدور على نحو غير مُجدٍ طوال عقود. وبسبب غياب التقاليد السياسية، برزت ظاهرة “الحكام الرعاة” الطارئين على المدينة، هؤلاء الذين أشاعوا القِيَم البدوية على حساب القِيَم المدنية المتحضرة، تبريرًا لجهلهم وللتخلص من تهم الإخفاق والسذاجة. كان أغلب قادة الانقلابات العسكرية في دول الإقليم من أصول ريفية أو شبه بدوية فقيرة متواضعة. أما طبقة “الوجهاء” الأرستقراطية السابقة فقد تراجعت وأفل نفوذها مع غلق فصل الدولة الإمبراطورية، فقد كان أعضاؤها النبلاء و”الإكبارية” من الملاكين الذين يسكنون المدن، وليس الأرياف حيث تقع أراضيهم، أو أنهم كانوا من التجار الذين اتهموا بالرجوعية باعتبار تحالفهم “التقليدي” مع القوى الإمبراطورية الغربية الوافدة ومع العوائل الإقطاعية الرجوعية التي دفعت بها تلك الإمبراطوريات السابقة للملك. لقد مهد هؤلاء “الحكام الرعاة” الطريق أمام “القِيَم الجديدة” التي تناهت إلى “مرارة” من نوع: أن تحكم القرية المدينة، وأن تقود قِيَم البداوة المجتمع المدني المتحضر. إنه لمما يستحق الملاحظة في هذا السياق، أن واحدًا من هؤلاء الضباط المتنفذين في عراق ما بعد سقوط صدام، ظهر على شاشات التلفاز وهو يتفاخر بأن زوجته أمية، “لا تحسن حتى كتابة اسمها”، دليلًا على “أن عائلته “محافظة”، فيا لها من مفارقة.
نحى مأزق الحكام الرعاة، غير المدربين، منحى مأساويًّا مزمنًا عندما راحت تتراكم لديهم الخبرة والمعرفة الإدارية وهم في السلطة، إلا أنها سرعان ما تتعرض للانقطاع أو للإزالة من آن لآخر بسبب الانقلابات العسكرية المتواترة التي كان ينفذها ضباط جيش من أقرانهم، مع ما يستتبع ذلك من توزيع اعتباطي وثأري لمراكز القوة الحكومية وللثروة، حيث كان الضباط يتحالفون على نحو جماعات تمتاز بالفتوة وبالنزق، اعتمادًا على روابط قبلية أو مناطقية أو حزبية من نمط الأحزاب السياسية التي اختلقوها أو استعاروها بأنفسهم من أمثال الديماجوجيين الذين ذكرناهم في مناسبة سابقة، في سياق مناقشتنا لظهور التيار القومي.
أما في سياق تنافس هؤلاء “الثوار” المزيفين الدموي على السلطة، فقد كشفت الأحداث أنهم كانوا دائمًا مدفوعين بدوافع غريزية بدائية وبتعطش ساذج للتملك ولممارسة السلطة المطلقة، بإيحاء من المفهوم الشرق أوسطي القسري للسلطة الذي يتجذر في القرون الوسطى، ذلك المفهوم الذي يفيد بأن الحكومة إنما هي السلطة الشمولية المطلقة، زائدًا أنها المالكة الوحيدة للثورة الوطنية. لذا فهي غير معنية بالخدمة العامة بالمعنى الحضاري قط. علمًا، أنه للمرء أن يظفر بالفرصة ولا يدعها تفلت منه بالمرة. كما أن عليه الاستفادة منها واستثمارها إلى أقصى حد ما دام قادرًا على ذلك. لقد عد هؤلاء الضباط السلطة الحكومية غنيمة حرب، يستحقها المنتصرون فقط كي يستمتعوا بها ما داموا يؤمنون حرفيًّا بشعار أن “الفائز يأخذ كل شيء”. أما بالنسبة لسواد الناس الذين ركب هؤلاء الضباط المتعطشون للسلطة معاناتهم وشكواهم لأهداف أنانية، فيقعون فريسة الصمت بسهولة عبر الشعارات والوعود أو الكلام عن مشاريع التنمية “الانفجارية”، إذ دل التاريخ المعاصر لإقليمنا هذا على أن الجمهور سهل الانقياد والتعبئة بالشعارات الرنانة أولًا، ثم بالوعود والتخويف ثانيًا عبر وسائل الإعلام التي تحسن صناعة وتسويق الأعداء. وعلى هذا النحو عمل حلاقو بغداد المهذارون في عدة عواصم إقليمية طوال عقود القرن العشرين وما تلاه بلا رادع ولا رقابة، بطبيعة الحال. على الرغم من ضعف قدراتهم على إدارة وسياسة الناس، فإنهم نجحوا في حكم شعوب الإقليم بواسطة ما يمكن أن أطلق عليه عنوان “ثورات البقعة”، تهكمًا، وهي الثورات المحدودة ضمن أسيجة محطات البث التلفزيوني والفضائي الدعائي الحكومي التي سبق أن بث منها “البيان رقم واحد”.