شاعت منذ اواسط القرن الماضي معلومة في أوساط الآثاريين والباحثين عن اللقى مفادها إن مجرد إزعاج مومياء اي فرعون من فراعنة مصر في الحفر والنبش أو السرقة والمتاجرة يؤدي الى ما سُمي بـ (لعنة الفراعنة) التي تقود صاحبها الى الموت او الجنون او العوق كما يدعي كثير من الذين اصيبوا بهكذا مصائب إثر تحرشهم بتلك المومياءات، وسواء ان كانت هذه المعلومة دقيقة أم مجرد تكهنات أو تأثيرات سايكولوجية أو عضوية فإنها اعتبرت سببا لكثير مما أصاب الضحايا الذين دفعوا حياتهم ثمنا لما فعلوه من ازعاج لتلك المومياءات كما يدعون هم وأقربائهم، وبعيدا عن مصر وفراعنتها وتحديدا في قلب بلاد ما بين النهرين بغداد ومنذ ذات التوقيت أو أكثر بقليل عن قبور الفراعنة ومحنطاتهم من الملوك والأمراء المصريين فإن تلك اللعنة وإن اختلفت الاسباب قد أصابت كرسي الحكم في العراق بعد السطو عليها في تموز 1958 وقتل كافة أفراد الاسرة الهاشمية الحاكمة، باختلاف المستهدف من اللعنة، حيث تلاحق تلك اللعنة كل من يجلس على ذلك الكرسي المشؤوم!.
لكن لعنة كرسي الحكم في العراق تختلف كثيرا عن تلك التي في مصر، حيث الصراع المستميت من أجل الجلوس عليها وليس مجرد إزعاج لجثة هامدة محنطة منذ الاف السنين، وأسباب هذه الصراعات كثيرة ومعقدة لانها ترتبط بالموروث المتكلس عبر مئات السنين من حكم الأمير والسلطان والملك والرئيس والقائد، وسلطاتهم المطلقة وامتيازاتهم اللا محدودة التي دفعت كثير من المغامرين للإنقلاب والجلوس على ذلك الكرسي الذهبي، كما حصل في معظم بلدان الشرق الاوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية منذ أكثر من نصف قرن، ومن ضمنها العراق الذي حطم الكرسي الملكي ليضع كرسيا للجمهورية في تموز 1958م بإنقلاب عسكري دموي، نصب فيه مجلسا رمزيا للسيادة ورئيسا متفردا للوزراء يقوم مقام الملك مطلق الصلاحيات بزي جمهوري وشعارات تقدمية، ما لبث بعد خمس سنوات حتى أطاح به مغامرون آخرون من رفاقه ليتم تنصيب (الرئيس المؤمن عبد السلام عارف) هذه المرة، والذي لم يهنأ هو وشقيقه عبد الرحمن كثيرا بالحكم، اذ استولى مغامرون آخرون في انقلاب ليلي على الرئيس ونفيه الى خارج العراق لإجلاس جنرال آخر هو المهيب أحمد حسن البكر على كرسي الحلاق الذهبي، الذي لم يتمتع بالجلوس عليه منفردا بل شاطره نائبه المدني صدام حسين حتى أزاحه بالكامل من الكرسي ومن الحياة ليمارس دوره كمنقذ للامة وقائد للضرورة ونعمة من نعم السماء كما وصفه ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي!.
لاحقته اللعنة هو الآخر كأقرانه ممن سبقوه على كرسي الحلاق، لكن هذه المرة كانت على يد الولايات المتحدة التي أسقطته وأعدمته هو وأركان قيادته، لتنتهي واحدة من حقب الرئاسة العراقية المثيرة وينتهي معها ذلك المنصب المثير ويتحول الى مجرد وظيفة تشريفية بروتوكولية في نظام برلماني غير مكتمل يعتمد رئيسا للوزراء بصلاحيات اوسع، مع تقزيم كبير في حجم المنصب على خلفية ذلك الإرث الثقيل للرئاسة وما تركه من آثار نفسية سلبية المجتمع السياسي وغير السياسي، فقد عمل مؤسسو النظام الجديد على تقليص صلاحياته وتكثيفها بيد رئيس الوزراء الذي ترشحه الكتلة الاكبر في البرلمان العراقي الواقف على رجل واحدة بسبب إصرار البعض على عدم تشكيل الجزء الثاني والاهم من البرلمان الا وهو المجلس الاتحادي.
ولكي تُدعم العملية السياسية بين مكونات العراق الرئيسية (الكورد والشيعة والسنة العرب) في نظام توافقي فقد اتفقوا على عُرفٍ وزعوا من خلاله الرئاسات الثلاثة على الشيعة ولها منصب رئيس الوزراء كونها الغالبية المفترضة لعدم وجود تعداد عام للسكان، وللسنة العراقيين العرب منصب رئاسة البرلمان، بينما منح منصب الرئيس للكورد على اعتبار إقصائهم تاريخيا عن هكذا مناصب منذ تأسيس المملكة العراقية، وحصل اتفاق مشابه في إقليم كردستان ايضا وفي ذات الفترة أي في 2006م، حيث اتفق الحزبان الرئيسيان على ان يكون رئيس جمهورية العراق للاتحاد الوطني مقابل ان يكون رئيس الاقليم من الديمقراطي الكوردستاني، وبوفاة الرئيس طالباني واعتذار الرئيس بارزاني عن تمديد رئاسته او الترشح لها من جديد، يعتقد الديمقراطي ان ذلك التوافق انتهى ويجب ان لا يكون المنصب حكرا لحزب معين تحت أي مبرر، بل ان الديمقراطي طلب من الاتحاد ترشيح اي شخصية اخرى من قياداته تنال رضا الديمقراطي وبقية الاحزاب ليكون مرشح المكون، لكنهم اصروا على ترشيح السيد برهم صالح (الذي سبق وأن اعترض عليه الديمقراطي في انتخابات 2018م وتم فرضه من قبل نواب الشيعة والسنة نكاية بالديمقراطي)، مما اضطر الديمقراطي الى ترشيح منافس له في حينها، وقد تكرر الموقف ثانية بعد انتخابات اكتوبر 2021م بإصرار الاتحاد على اعادة ترشيح الرئيس لدورة ثانية دون توافق مع منافسه الرئيسي الذي دفع الى السباق مرشحه القوي هوشيار زيباري وزير الخارجية والمالية السابق، وحينما شعر الطرف الثاني أي الاطار التنسيقي بحتمية فوز السيد زيباري تعقدت الامور اكثر خاصة دخول إيران على الخط من خلال مشاركة السفير الإيراني والقوى الشيعية المنافسة للتيار الصدري بالضغط على المحكمة ورفض ترشح السيد زيباري بقرار وصِف بانه ظالم وسياسي، مما دفع الحزب الديمقراطي الى تقديم مرشح آخر هو وزير الداخلية في حكومة الاقليم، والذي تم ترشيحه في المرحلة الثانية التي اعترض عليها البعض وطعنوا في شرعيتها، وقد اكدت المحكمة الاتحادية الطعن والقت الكرة في ملعب مجلس النواب، مشترطة الترشيح من خلاله وليس من هيئة رئاسته!.
وهكذا أصبح فريقا الصراع؛ الشيعي حول السلطة والكوردي لكسر الإرادة، أحد أهم أسباب توقف او انسداد العملية السياسية، وواضح جدا أن الإطار يضغط باتجاه عدم نجاح عملية انتخاب الرئيس الا بمشاركته في الحكومة التي يصر التحالف الثلاثي على تشكيلها تحت شعار حكومة الاغلبية الوطنية المرفوضة من قبل الاطار ومن الاتحاد لكونهما سيخسران مواقعا تمتعوا بامتيازاتها ومكاسبها طيلة ما يقرب من عقدين من الزمان، وربما أيضا الخشية من فتح ملفات الفساد الكبيرة التي تضم عشرات المليارات والصفقات المريبة، والغريب انهم جميعا أرادوا إضعاف وظيفة رئيس الجمهورية وتقليص صلاحياته، لكنهم اكتشفوا أنه رغم ذلك مفتاح لتسمية رئيس الوزراء الأقوى في البلاد والأمضى في الرفض أو الموافقة على كثير من القوانين والمشاريع والأحكام.
[email protected]