مرت لحظات قاسية بعد رؤية هذه الأكوام من أسلحة الدمار التي ستسقط كحمم البركان على مدينة الذهب الأسود.
ترجلنا من الحوض الخلفي للشاحنة العسكرية التي أقلتنا خلال رحلة العذاب وأجسامنا مبللة من قمة رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا وكنا أشبه بأسفنجة سقطت في ماء النهر البارد، وكانت أسناني تصطك من شدة البرد وأنا أبحث عن جدار أو جسم يقيني من قسوة الريح.
جاء طوق النجاة عند لفيف من الجنود كانوا قد أشعلواإطارا قديما لسيارة وألتفوا حولها كما يلتف الهنود الحمر حول نيرانهم وبدأنا نحضن هذه الكتلة من السعير كما يحضن العاشق حبيبته بعد لوعة الفراق، وبدأ الدفء المنبعث من الإطار المحترق يسري في أوصالنا تدريجيا بمصاحبة الهباء الأسود المتصاعد مع النيران ألذي حولَ وجوهنا إلى لون أسود كأننا أشباح في الظلام الذي بدأ يُخيم علينا في العراء.
بعد هذه اللحظات العصيبة أيقنا بأنّه من الجنون محاولة الوصول إلى مدينة كركوك في عتمة هذا الليل الدامس كما علمنا بأنّ نقطة السيطرة العسكرية المقامة في بداية الجسر على قناة الري لا تسمح بالمرور من الجسر إلا للعسكريين الذين يرومون الإلتحاق بوحداتهم المحتشدة في أطراف المدينة، لذلك قررنا المبيت في تلك الموقع.
كان الحظ حليفنا هذه المرة فعلى مقربة من الطريق لاحظنا مخيما مهجورا من أبنية جاهزة كان مخصصا لعمال إحدى الشركات المقاولة التي كانت تعمل في مشروع ري كركوك.
بعد عملية إستكشاف أولية ألفينا قسما من هذه الدور مشغولة من قبل بعض العوائل الفارة من المدينة بعد إحتلال ميليشيا البيشمركة الكردية للمدينة، أما القسم الآخر فقد تم إستخدامه من قبل إحدى القطعات العسكرية.
بعد فترة لم يطل أمده عثرنا على دار فارغ مكون من ثلاثة غرف، كانت غرفتان منها مستخدمة كمرافق صحية وكانت ارضيتا تلك الغرف مغطاة بالفضلات، أما الغرفة الثالثة فكانت أرضيتها الخرسانية نظيفة ولكن الشباك اليتيم فيها كان مقلوعا.
بعد سد فتحة الشباك بمبردة ماء قديمة عثرنا عليها في الجوار، أوقدنا نار نصطلي بها مستعملين جميع الأخشاب التي تمكنا من إقتلاعها من الجدران الخشبية للدار.
بدأنا بالمرحلة الثانية من تجفيف ملابسنا وأحذيتنا ولكن الجوع بدأ ينهش أحشاءنا.
كانت مجموعتنا التي جمعتها الصدفة مؤلفة من خمسة أفراد.. أنا والرائد فكرت والأستاذ فريق والجنديان آيدن وأحمد.
كان فكرت وفريق صائمين وتمكنا من الحصول على قدح من الماء من إحدى العوائل اللاجئة تقاسمه الصائمان ثم أخرج أحمد من حقيبته الجلدية حفنة من العنب الأسود المجفف والتي أصبحت إفطارا للصائمين.
قضينا تلك الليلة الغريبة في أحاديث عن الأوضاع السائدة في البلد ولعنا المسبب لها ولم يرنق الكرى أجفاننا إلا لساعات قليلة، كانت الأرضية الخرسانية فراشا لنا والدخان المتصاعد من كومة الخشب المحترق بهبائه غطاء لنا.
مع أول خيوط الفجر التي أعلنت إنتهاء تلك الليلة العصيبة زحفنا صوب بوابة المخيم، وبدأنا رحلة البحث عن وسيلة لإختراق نقطة السيطرة العسكرية والتي كانت سدا بوجه تيار رغبتنا الجارفة للوصول إلى المدينة.
بعد عدة ساعات من البحث أيقنا بإستحالة العبور من تلك النقطة لعدم إمتلاكنا أية وثائق رسمية تسمح لنا بالعبور إضافة إلى كون الجنديان في المجموعة هاربان من وحدتهم العسكرية بعد تفشي الفوضى أثناء عملية الإنسحاب الغير المنظم من الكويت وعقاب الهروب من الخدمة أثناء الحرب هي الإعدام بلا شك.
كانت الأنباء الواردة من مدينة كركوك توحي بسيطرة ميليشيا البيشمركة التابعة للأحزاب الكردية على جميع أجزائها ماعدا معسكر خالد والطريق الرابط بين كركوك ومدينة تكريت.
بعد اليأس من العبور إلى الضفة الأخرى من قناة الري بواسطة الجسر قرر الرائد فكرت والأستاذ فريق العودة إلى بغداد، ولكن عزيمتي لم تفتر وشوقي للقاء زوجتي وأطفالي وإنقاذهم من هذه المحنة أعطاني زخما من الطاقة لإختراق جميع الحواجز، لذلك قررت محاولة الدخول إلى المدينة من نقطة أخرى فأتجهت شرقا بمحاذاة القناة مع رفيقا السفر أحمد وآيدن مشيا على الأقدام بعد أن ودعنا فكرت وفريق.
عندما بدأنا المسير كانت ساعتي تشير إلى الثامنة صباحا وكان هطول المطر قد توقف وبدأ دفء أشعة الشمس في ذلك اليوم الربيعي يسري في أوصالنا ببطء.
كانت نقطة السيطرة العسكرية التي بدأنا منه المسير تبعد عن المدينة بحوالي عشرون كيلومترا.
بعد مسيرة نصف ساعة وصلنا إلى الجسر الثاني المشيد على القناة ولاحظنا بأنّها محروسة من قبل عدة أفراد من الجيش للسيطرة على الداخلين والخارجين من المدينة. بعد مداولات أستغرقت عدة دقائق أستطعنا إقناعهم للسماح لنا للعبور إلى الضفة المقابلة من النهر والتوجه نحو قرية جرداغلي التركمانية المقابلة للحي الصناعي في أطراف مدينة كركوك.
بعد أن ملأنا الزمزمية التي عثرنا عليها في الطريق بالماء من النهر بدأنا بالمسير بإتجاه الشمال على طريق مكسو بالحصى تارة وعلى النياسم التي كانت تخترق حقول القمح تارة أخرى.
أستغرقت المرحلة الأولى من مسيرتنا حوالي أربع ساعات توقفنا خلالها مرة واحدة للراحة وتدخين السجائر.
بعد هذه المسيرة الطويلة لاحظنا على يمين الطريق الترابي بناية مبنية من الطين المجفف في الشمس وعلى مقربة منه كانت تربض حافلة لنقل المسافرين. توجس رفيقا السفر خيفة من الموقف وكان قد طرق إلى أسماعهما بأنّ الجيش يضم إليه جميع الجنود المبعثرين في المنطقة لتشكيل قوات لمحاربة المعارضة الكردية وإسترجاع المدينة منهم.
بعد الدنو من الحافلة تعرف آيدن عليها من لوحة رقم الحافلة وأخبرنا بلهفة وفرحة بأنّ الحافلة ملك لأبن خالته وأنّه يسكن في قريتهم التي كنا نروم التوجه إليها.
خرجنا من مسارنا وأنعطفنا نحو اليمين بإتجاه المبنى الذي كان حقلا لتربية الدواجن كما دلت عليه اللافتة المثبتة بالقرب منه.
كان شعورنا بالعثور على بعض أقارب آيدن في المبنى مزيجا من الفرحة واللهفة لمعرفة أخبار مدينة الذهب الاسود.
استقبلتنا العوائل المحتشدة في المبنى بالعجب والترحاب، وأثناء تناولنا لوجبة الإفطار المكونة من الخبز الحار واللبن والشاي علمنا بأنّ قرية جرداغلي التركمانية خالية من قوات البيشمركة الكردية ووأنّها تحت سيطرة الجيش العراقي.
بعد إستراحة قصيرة ودعنا مضيفينا وواصلنا المسير بإتجاه الهدف المنشود ……. مدينة الذهب الأسود.
من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)
يتبع