18 ديسمبر، 2024 6:47 م

لعنة الذهب الاسود – 25 – ألإنتفاضة-1

لعنة الذهب الاسود – 25 – ألإنتفاضة-1

بعد إلتحاقنا بمقر وحدتنا العسكرية في الكاظمية طرق أسماعنا انباء حصول إنتفاضة ضد حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة الرئيس صدام حسين في بعض المحافظات الجنوبية والوسطى والتي اكثرية سكانها من المذهب الشيعي، ففي البصرة والناصرية وميسان والسماوة والديوانية والنجف والكوت وكربلاء وبابل قام افراد من المعارضة الشيعية وبمؤازرة متسللين من ايران بالسيطرة على مرافق الدولة وقاموا بقتل بعض منتسبي حزب البعث العربي الإشتراكي من أفراد الشرطة والجيش والجيش الشعبي في تلك المحافظات وتم نهب وحرق معظم الدوائر الحكومية هنالك.

أيضا طرق أسماعنا أنباء سقوط المحافظات الشمالية من العراق كالسليمانية واربيل ودهوك بأيدي المعارضة الكردية بقيادة الحزبين، حزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني وحزب الإتحاد الوطني الكوردستاني بقيادة جلال الطالباني.

خلال إجازتي الأخيرة التي قضيتها في مدينة الذهب الأسود لاحظت بأنّ الجيش العراقي عزز قواته في المدينة وأتخذت الدبابات مواقعها في شمال وشرق المدينة تحسبا لأي هجوم محتمل من قبل المعارضة الكردية.

ونظرا لحجم القوات المتواجدة في المدينة لم يخطر ببالي سقوطها بأيدي المعارضة الكردية، لذلك تركت عائلتي في مدينة كركوك وأضافة لتلك الأسباب فإنّ الوضع الأمني في العاصمة بغداد كان قلقا أيضا فالمعارضة الشيعية في بعض احياء العاصمة وبالأخص في مدينة الثورة / مدينة صدام (سُميت بمدينة الصدر بعد سقوط حكم صدام حسين) كانوا قد نظموا مظاهرات ضد حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة صدام حسين.

بعد إشتعال فتيل الإنتفاضة والأحداث الدامية التي رافقتها، حشدت الدولة بقايا قوات الحرس الجمهوري وقسم من القوات المنسحبة من الكويت والجبهة الجنوبية وبدأت هذه القوات عمليات واسعة ضد المعارضة الشيعية في المحافظات الجنوبية والوسطى من العراق.

بدأت هذه المحافظات تتساقط تحت ضربات قوات الحرس الجمهوري تباعا واستمرت أعمال الفوضى والقتل والتدمير في تلك المحافظات لمدد مختلفة، فمنها مادام التمرد فيها أياما قليلة كالبصرة والناصرية (ثلاثة أيام حيث تم الانهاء عليها)، ومنها مادام أكثر من (أسبوعين) كالنجف وكربلاء. ولكن الخسائر في الأرواح والممتلكات الناجمة من القصف المدفعي والصاروخي والجوي لهذه المدن والقصبات كانت جسيمة.

كنت خلال هذه الفترة العصيبة أُقيم في دارنا في محلة راغبة خاتون في بغداد وحيدا وأصبح دوامنا في مقر الوحدة العسكرية التابعة لمديرية الأشغال العسكرية منتظما بصورة تدريجية ولكننا لم نكلف بأي عمل هندسي أو تصميمي لمواقع المعسكرات خلال تلك الفترة القلقة.

في صبيحة يوم الخميس المصادف للواحد والعشرين من شهر آذار أخبرني زميلي الرائد المهندس عثمان بأنّ المعارضة الكردية سيطروا على مدينة الذهب الأسود وأنّ شقيقه قد فرّ من المدينة طلبا للنجاة.

عندما سمعت هذه الأنباء بدأت الهواجس والأفكار المقلقة تراودني حول مصير عائلتي وأهلي، لذلك قررت السفر إلى كركوك لإنقاذهم من المآسي المتوقعة، فالحرس الجمهوري بعد أن سيطر على معظم المحافظات الجنوبية والوسطى سيتجه حتما نحو المحافظات الشمالية ومن ضمنها كركوك وستتكرر الأحداث الدامية هنالك أيضا.

بعد أخذ الموافقة من آمر الوحدة على السفر توجهت نحو البيت لإستبدال ملابسي العسكرية بملابس مدنية وكنت برتبة ملازم ثاني مهندس إحتياط في هذه الدعوة أيضا.

بعد ذلك توجهت نحو موقف السيارات في باب المعظم حيث يتواجد مجمع الحافلات التي تقل المسافرين من بغداد إلى مدينة كركوك، لكن المعلومات التي استقيتها في المجمع كانت محبطة لجميع آمالي، فالطريق المؤدي إلى المدينة كان مقطوعا ولم أستطع الحصول على أية واسطة تقلني إلى كركوك بالرغم من مكوثي في المجمع حتى وقت الغروب.

كان المجمع أشبه بخلية للنحل حيث أزدحم في جزء منه العسكريون الذين كانوا يرومون الإلتحاق بوحداتهم العسكرية في شمال العراق بعد قرار العفو عن الفارين من الخدمة العسكرية التي أصدرتها القيادة بعد وقف إطلاق النار والتوقيع على شروط الإستسلام المهين في خيمة قرب الحدود الكويتية.

أما الجزء الآخر من المجمع فكانت تحوي عدة حافلات متوقفة نتيجة لنفاذ وقودها وكنت ألاحظ في بعض أجزاء المجمع حلقات من الناس حول بعض الفارين من مدينة الذهب الأسود وهم يروون قصصا درامية عن المدينة وكيفية فرارهم منها.

أزداد قلقي على مصير زوجتي وأطفالي وأهلي وبعد أن يئست من الحصول على واسطة تقلني إلى مدينتي قفلت راجعا إلى البيت مثقلا بالهموم ولاعنا اليوم الذي ولِدتُ فيه في العراق بلد النكبات والمآسي.

في صبيحة اليوم الثاني كررت المحاولة ولكن عبثا وتكرر في المجمع ما حدث في اليوم الأول. في اليوم الثالث توجهت مبكرا إلى باب المعظم عازما على السفر مهما كلفني الأمر من مخاطر وتضحيات. بعد أن يئست من الحصول على واسطة نقل قررت التوجه إلى مجمع علاوي الحلة للحافلات في جهة الكرخ من مدينة بغداد لعلي اجد وسيلة نقل إلى مدينة تكريت التي تبعد عن مدينة كركوك بحوالي مائة وعشرون كيلومترا.

لقد ترامى إلى أسماعي بأنّ الدولة قد أنشأت مخيما للاجئين الفارين من كركوك في مدينة تكريت وكنت آمل أن أجد عائلتي في هذا المخيم.

أثناء حديثي مع أحد ألسواق في باب المعظم ألتقيت بأحد زملاء دراستي في مدرسة إعدادية كركوك وكان هذا الزميل يتسقط أخبار والديه وأهله، كما تعرفت على رائد مهندس تركماني كان في المجمع لنفس الغرض وأبدى الإثنان رغبتهما لمرافقتي إلى مدينة تكريت مسقط رأس الرئيس صدام حسين.

من الجدير بالذكر أنّ مدينة تكريت ومحافظة نينوى ومحافظة ديالى ومحافظة الأنبار والتي معظم سكانهم من الطائفة السنية لم تشترك بالإنتفاضة ضد حكم الرئيس صدام حسين.

من العوامل التي أسهمت في سقوط المحافظات بأيدي المعارضة:

– الحالة المعنوية العامة المنهارة عقب إخراج القوات العراقية من الكويت بشكل فوضوي غير منظم، حتى أن كثيرا من الجنود عادوا إلى محافظاتهم مشياً على الأقدام و العديد منهم قُتِلوا على يد الغوغاء و أُسِروا .

– الغياب التام للإعلام الحكومي وبخاصة الإذاعة والتلفزيون الذي كان أقوى رأسمال لدى النظام في صلته بالناس، نتيجة قطع الكهرباء وتدمير جميع محطات ومعيدات البث في كل أنحاء العراق، فضلاً عن تدمير مباني الإذاعة والتلفزيون، وسمح ذلك للبث الإذاعي والتلفازي الإيراني أن يسيطر على معظم محافظات العراق وبضمنها بغداد ويكون هو مصدر المعلومات الوحيد، مع باقي المحطات المعادية للعراق التي كانت تبث دعايات عن احتلال وانهيار النظام، واحتمال هرب الرئيس صدام إلى روسيا، وغيرها من الإشاعات التي أسهمت في خلخلة ثقة الناس بالسلطة وقوتها، هذا القطع الإعلامي، مع نشر إشاعات مختلقة، في إطار حرب الدعاية النفسية جعلت الكثير من العراقيين في المحافظات الساقطة يعتقدون أن نظام بغداد قد انهار بالكامل وأن الرئيس صدام هرب إلى الخارج.

– الدعم الإيراني وإدخال آلاف قطع السلاح والتفجيرات إضافة إلى الدعم البشري بعناصر من العراقيين المقيمين في إيران والمجندين من قبل سلطات النظام الإيراني. كقوات بدر التابعة للمجلس الإسلامي الاعلى وعناصر حزب الدعوة.

– خضوع عموم الناس إلى نظرية السلوك الجمعي والانقياد الطوعي لمثيري الفتنة من خلال تشجيع الناس على مهاجمة الدوائر الحكومية وسرقة ما فيها من مواد ومخزونات وأثاث، وتخوف الناس من غدر المسلحين القادمين من إيران الذين هددوا الناس بالقتل إن لم يشتركوا في الانتفاضة.

بعد حديث قصير أستقلنا سيارة أجرة إلى كراج علاوي الحلة ولكننا لم نستطع الحصول على أية واسطة لنقلنا إلى مدينة تكريت، فالبلد كان يمر بأزمة وشحة في توفير الوقود بعد أن قصفت قوات التحالف معظم خزانات الوقود والمصافي في البلد.

بعد مكوثنا فترة في مجمع النقل لاحظت حافلة تروم التوجه نحو قضاء سامراء التابعة لمحافظة صلاح الدين والقريبة من تكريت مركز المحافظة وأتفقت مع زميلي الرحلة على إستغلال هذه الفرصة السانحة.

كانت الطبيعة في تلك الصبيحة متواطئة مع الأحداث فالرعد كان مزمجرا والمطر ينهمر بعنف وتيارات الهواء البارد كانت تلفح وجوهنا بقسوة مكرسة الجو المأساوي الذي كان يعيشه البلد.

بالرغم من بلل ملابسي العسكرية وغوص حذائي في الأوحال وسريان القشعريرة إلى أوصالي، فإنّ تفكيري كان مركزا على مصير عائلتي وأهلي وكنت أتمنى في تلك اللحظات المتسمة بالقلق والخوف والألم أن أتحول إلى طائر يشق عنان السماء لأحط في مدينة الذهب الأسود وأحملهم نحو أفق جديد بعيدا عن لعنة الذهب الأسود، هذه الثروة التي أصبحت وبالا على العراقيين.

من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)

يتبع