في طريق عودتي من إحدى زياراتي إلى مصيف سرسنك لمتابعة تنفيذ قصور صدام حسين وبرفقة مهندسان معماريان من مجموعتي، أستمعت إلى نبأ إستدعائي إلى خدمة الإحتياط من مذياع السيارة وقد شمل الإستدعاء زميلي المهندس جبار الذي كان برفقتي في السيارة وتم تحديد فترة ثلاثة أيام في بيان وزارة الدفاع للإلتحاق إلى مدرسة صنف الهندسة العسكرية.
في التاسع من ايلول من عام 1990 اي بعد شهر ونيف من دخول القوات العراقية الى الكويت التحقت بمقر مدرسة الهندسة العسكرية مع بقية زملائي من المهندسين من الدورة 26 للضباط المجندين والدورات الثلاث الأخرى التي تم إستدعائهم معنا، وكانت فرصة للإلتقاء برفاق السلاح القدامى ولم الشمل بعد إفتراق دام إحدى عشر من السنين.
كان معظمنا برتبة ملازم ثاني بالرغم تجاوز اعمارنا العقد الرابع عدا بعض الزملاء الذين شاركوا في الحرب العراقية الايرانية فكانوا برتبة نقيب.
بعد إنقضاء فترة شهر ونيف من الإنتظار في مدرسة الهندسة العسكرية تم تنسيبي إلى شعبة التصاميم في هيئة المشاريع العسكرية وكان مقر الهيئة في جهة الكرخ من العاصمة بغداد وفي منطقة الكاظمية.
مرت أربعة شهور ونيف على إلتحاقي بمقر عملي الجديد في الجيش، وكانت هذه الفترة فترة ترقب وإنتظار لما يخبئه القدر من احداث جسام.
بعد ان قررت القيادة إطلاق سراح الرهائن من رعايا الدول الغربية الذين كانوا محتجزين في المنشآت الصناعية والعسكرية لإستخدامهم كدروع بشرية نتيجة لتوسط بعض الشخصيات السياسية والشهيرة في مجالات اخرى ورفض الولايات المتحدة الامريكية والدول المتحالفة معها مبادرة الرئيس صدام حسين لحل جميع مشاكل المنطقة حلا جذريا بما فيها القضية الفلسطينية، أيقنا بانّ الحرب واقعة لا محالة.
في هذه الاثناء وجه الرئيس الامريكي جورج بوش “الاب” إنذارا نهائيا إلى العراق لسحب قواته من الكويت وتم تحديد الخامس عشر من كانون الثاني من عام 1991 كآخر موعد لبدء الإنسحاب، فخيم التوتر في صفوفنا وبدأت طبول الحرب تقرع من جديد.
قبل الموعد المحدد لبدء العمليات الحربية قررت إبعاد عائلتي عن بغداد لأنني كنت اتوقع قصفا مركزا وعنيفا عليها كما انّ زوجتي كانت تحتاج إلى عناية خاصة بسبب قرب قدوم الوليد الرابع لنا.
سافرت بسيارتي مع عائلتي الى مدينة الذهب الاسود قبل موعد الإنذار النهائي بيومين وقفلت راجعا إلى بغداد وحيدا في اليوم التالي للإلتحاق بوحدتي العسكرية بعد ان تركتهم في رعاية شقيقتي.
في فجر السابع عشر من كانون الثاني من عام 1991 جفلت من النوم في دارنا في محلة راغبة خاتون على اصوات دوي إنفجارات القنابل والمدافع والصواريخ المضادة للطائرات، وبعد ان القيت نظرة من النافذة الفيت السماء وقد تحول ظلامها إلى انوار متلألئة كالألعاب النارية التي تطلق في الإحتفالات وأيقنت بأنّ الواقعة قد وقعت وإننا دخلنا في الحرب مع ثلاثين دولة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
الدول التي شاركت في التحالف ضد العراق شملت :
عُمان ، باكستان ، قطر ،السعودية ،كندا ، بلجيكا ، الدنمارك ، سوريا ، فرنسا ، ألمانيا ، اليونان ، اليابان ، إيطاليا ، الكويت ، الأرجنتين ، إستراليا ، البحرين ، السنغال ، كوريا الجنوبية ، أسبانيا ، مصر ، تركيا ، الإمارات ، تشيكوسلوفاكيا ، نيوزيلندا ، هولندا ، نيجيريا ، نرويج ، البرتغال ، الولايات المتحدة .
كان شعوري في تلك اللحظات مزيجا من الخوف والتحدي وكنت بين مصدق ومكذب لما يحدث فبالرغم من رهان الرئيس صدام حسين على الحرب البرية في خطابه الذي القاه قبل ايام من بدء المعارك فإنّ الدلائل كلها كانت تشير إلى كارثة كبيرة ستحل بنا فالكفتان غير متوازنتين والتفوق العلمي والتكنولوجي للأعداء سيكون العامل الأساسي في حسم الحرب لصالحهم.
بعد عدة ساعات خفتت اصوات الإنفجارات ولكني لم استطع معاودة النوم وبالرغم من إنقطاع التيار الكهربائي اشعلت المدفأة النفطية ووضعت عليه إبريق الشاي.
بعد ان اكملت تناول طعام الفطور اتجهت بسيارتي في الصباح الباكر نحو منطقة الكاظمية للإلتحاق بوحدتي العسكرية، وكانت اصوات إنفجارات متقطعة ما تزال تُسمع في العاصمة بغداد.
حين وصولي إلى مقر عملي لاحظت بأنّي اول ضابط التحق بالوحدة وبعد فترة قصيرة تقاطر الضباط والجنود وحضر آمر الوحدة وعلامات القلق والإرتباك بادية على محياه.
فتحنا المذياع وكان الرئيس صدام حسين يلقي خطابا قال في مقدمته: ” لقد غدر الغادرون” وأنهى خطابه بالآية القرآنية: ” يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم”.
أبلغنا آمر الوحدة بأمر الإخلاء وفعلا تحركنا بإتجاه منطقة الإخلاء المؤقت وكانت في مخيم قريب من الكاظمية مكونة من دور من البناء الجاهز كانت تستعمل من قبل شركة يوغسلافية التي كانت تُنشيء مقرا لأحدى الألوية العسكرية.
في الساعة التاسعة صباحا من نفس اليوم بدأت الموجة الثانية من الطائرات الغربية والأمريكية بقصف مدينة بغداد، وكان دوي الإنفجارات وأصوات المدافع المضادة للطائرات تهز المدينة هزا وتخرق سكونه خرقا.
بدأ سكان العاصمة بترك المدينة في موجات تتدافع نحو مخارج المدينة، وفي هذه الأثناء ابلغنا آمر الوحدة بأننا سنتجه في الصباح الباكر من اليوم التالي إلى منطقة الإخلاء الدائمية في قضاء النعمانية التابعة الى محافظة الكوت وعلى مبعدة حوالي مائة كيلومتر جنوب العاصمة بغداد، وطلب منا إستغلال الوقت المتبقي لتأمين أماكن آمنة لعوائلنا وكنت قد انجزت هذه المهمة قبل عدة أيام من بدء المعارك.
كانت الليلة الثانية من الحرب كمثيلتها السابقة، ليلة عاصفة انهالت فيها الصواريخ والقنابل عل الاهداف العسكرية والصناعية ومراكز الاتصالات والمطارات واجهزة الدفاع الجوي بعنف لم يسبق له مثيل.
في صبيحة اليوم الثاني من الحرب اتجهت بسيارتي إلى الكاظمية وبعد فترة وجيزة من الإستعدادات تحركت سيارات وحدتنا على شكل قافلة بإتجاه قضاء النعمانية قرب مدينة الكوت.
كانت خطة دول التحالف الإستمرار في قصف العاصمة والمدن الأخرى والقطعات المتواجدة في الجبهة الكويتية والجنوبية من العراق لفترة طويلة لإنهاك الجيش العراقي قبل بدء الهجوم بالقوات البرية.
في الطريق إلى النعمانية كنت اتناقش مع زملائي الضباط المهندسين الذين اقلتهم في سيارتي الخاصة حول الفترة التي ستستغرقها عملية القصف الجوي وخرجنا بنتيجة بأنّ تحديد الفترة سيقررها قيادة التحالف نظرا لتسيدهم سماء المعركة بعد تحييد القوة الجوية والدفاع الجوي للجيش العراقي وإخراجهما من المعركة.
بعد وصولنا الى منطقة الإخلاء توزعنا على الوحدات السكنية من نوع البناء الجاهز وسكنت مع خمسة زملاء من الضباط المهندسين في إحدى هذه الدور.
في اليوم التالي من وصولنا إلى النعمانية قصفت طائرات العدو معسكرنا ولكن الصاروخان اللذان أُطلِقا على المعسكر سقطتا في منطقة ترابية خالية.
نظرا لكون وحدتنا إحدى تشكيلات المقر العام فلم نشترك في الفعاليات القتالية وكانت توجيهات القيادة هي توفير مواقع آمنة لنا لتقليل الخسائر إلى أقصى حد ممكن.
من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)
يتبع