في صبيحة احد ايام شهر تموز من عام 1979 تلقيت في محل عملي مكالمة هاتفية من اختي آيسل التي كانت تعمل في إحدى مستوصفات بغداد، أنبأتني بأنّ شقيقي الأصغر ياووز راقد في المستشفى في مدينة كركوك وفي حالة خطرة نتيجة لمرض مفاجيء ألمَّ به.
بعد الإستئذان من المدير العام للدائرة سافرت مع اختي وزوجها وبرفقة زوجتي إلى كركوك، لإفاجأ بنفس المنظر الذي رأيته عند وفاة والدي، فالبيت مكتظ بالمعارف والأصدقاء والنساء متشحات بالسواد وأصوات البكاء والنحيب كانت تطرق اسماعي عند إقترابنا من البيت.
ايقنت انّ القدر لا يتركنا نتنفس الصعداء فهاهي الماساة الإنسانية تتكرر مرة أخرى، كان وفاة شقيقي الشاب بجلطة في الدماغ أشبه بالإغتيال، فالموت هذا القاتل الطليق يسرح ويمرح كما يشاء ولا يفرّق بين ضحاياه من الأطفال والشباب والشيوخ.
هذه الحادثة الأليمة دفعتني للتساؤل حول لغز الموت.
في كتابه الجينة الأنانية يتطرق عالم ألأحياء ريتشارد داوكينز لموضوع الموت، فيقول:
” ما أود تأكيده هو أنّه من المفضل النظر إلى الوحدة الأساسية للإنتقائية الطبيعية ليس بإعتبارها الفصيلة أو المجموعة أو حتى الفرد، وإنّما الوحدة الصغيرة من المادة الجينية التي تستحق أنْ نسميها الجينة.
إنّ الحجر الأساس في حجتي، كان الإفتراض أنّ الجينات خالدة في حين أنّ الأجساد والوحدات الأخرى الأعلى مستوى تبقى مؤقتة.
والجديرذكره أنّ هذه الفرضية ترتكز على حقيقتين إحداهما تتعلق بالتوالد الجنسي والعبور التبادلي، وترتبط الثانية بفناء الفرد.
وهاتان حقيقتان لا يمكن دحضهما. لكن هذا لا يمنعنا من التساؤل عن اسباب كونهما حقيقتين. لمَ نمارس نحن وغيرنا من آلات البقاء التوالد الجنسي؟ ولمَ تمارس صبغياتنا العبور التبادلي؟ ولمَ لا نعيش إلى ألأبد؟
الواقع أنّ السؤال عن السبب الذي يجعلنا نموت عندما يتقدّم بنا العمر يشكّل سؤالا معقدا.
بالإضافة إلى الأسباب الخاصة، جرى إقتراح عدد من الأسباب العامة، فعلى سبيل المثال، تقول إحدى النظريات إنّ الهرم هو تراكم أخطاء مضرة في النسخ وأشكال أخرى من العطب الجيني تطرأ خلال حياة الفرد.
لقد سبق أنْ تساءلنا عن المزايا العامة لأي جينة “جيدة ” وقررنا أنّ ” الأنانية ” تشكّل إحدى هذه المزايا. لكن ميزة أخرى ستمتلكها الجينات الناجحة تتمثل بالنزعة إلى تأجيل موت آلات البقاء أقله إلى ما بعد التوالد. ولاشك في أنّ عددا من أبناء عمّك وأعمام والديك وأخوالهما قد مات في مرحلة الطفولة، إلا أنّ هذا لم يحدث لأي من أسلافك. فالأسلاف بكل بساطة لا يموتون في الصغر.
لابد من الأشارة إلى أنّ الجينة التي تتسبب بموت صاحبها تُعرف بأسم ” الجينة الفتاكة “. أما الجينة شبه الفتاكة، فلها تأثير موهن بعض الشيء بحيث أنّها تجعل الموت الناجم عن أسباب أخرى مرجحا أكثر. وإذ تمارس كل جينة أقصى تأثير ممكن على الأجساد في إحدى مراحل الحياة، لا تشكّل الجينات الفتاكة وشبه الفتاكة إستثناء لهذه القاعدة.
الواقع أنّ الجينات بمعظمها تمارس تأثيراتها خلال الحياة فيما تمارس جينات أخرى تأثيراتها في مرحلة الطفولة، وأخرى في مرحلة البلوغ، وأخرى في منتصف العمر، وأخرى في سن الشيخوخة، ” تذكّر أنّ دودة القز والفراشة التي تتحول إليها لاحقا، تمتلكان المجموعة نفسها من الجينات”.
ومن الجلي أنّ الجينات الفتاكة ستُستبعد من الجمعية الجينية، إنّما من الجلي أيضا أنّ الجينة الفتاكة ذات التأثير المتأخر ستكون أكثر ثباتا في الجمعية الجينية من الجينة الفتاكة ذات التأثير المبكر. فالجينة الفتاكة في جسد مسنّ قد تبقى ناجحة في الجمعية الجينية، شرط ألا تتجلّى تأثيراتها ألا بعد أنْ يتسنّى الوقت للجسد أقله للتوالد.
وبحسب هذه النظرية إذاً، يشكّل وهن الشيخوخة بكل بساطة نتاجا ثانويا لتراكم الجينات الفتّاكة وشبه الفتّاكة ذات التأثير المتأخر التي سُمح لها بالإنزلاق عبر شبكة الإنتقائية الطبيعية فقط لأنّ تأثيراتها تتجلّى في مرحلة متأخرة “.
بدأت اتسأل عن سر تساقط هذا العدد من الضحايا من عائلتي وتكررت نفس الدراما ….. الصدمة، الألم، الحزن ثم النسيان.
إنّ النسيان هو الدواء الوحيد لهذه الألام فلولا هذه الخصلة التي نتميز بها نحن البشر لأصبحت الحياة جحيما لا يُطاق.
دارت الأيام وجاء الإستدعاء الثاني لخدمة الإحتياط في الجيش في أوائل الربيع من عام 1980 عن طريق شفرة سرية قرأتها في إحدى الجرائد وكنا قد استلمنا الشفرة اثناء خدمة الإحتياط الأولى قبل عام واحد.
تواترت خلال فترة الإحتياط الأنباء من الحدود الشرقية بتأزم الوضع هناك، وكنت مع زملائي الضباط في كتيبة هندسة الميدان العاشرة نقرأ التعميمات العسكرية التي ترد من القيادة حول التحرشات والإعتداءات الإيرانية على القصبات والمدن العراقية.
بعد إنقضاء شهر على خدمتي في الجيش تم إجراء عملية جراحية لي لإستئصال اللوزتين في مستشفى الرشيد العسكري، وكنت أعاني منذ الصغر من إلتهابات حادة ومزمنة فيهما.
بعد تماثلي للشفاء وإنقضاء فترة الإجازة المرضية ألتحقت بسريتي في معسكر الرشيد وكان زملائي من الضباط الإحتياط من دورتي قد تسرحوا بعد أن قضوا فترة خمس واربعون يوما المحددة لخدمة الإحتياط.
في هذه الأثناء كانت سريتي قد أنتقلت إلى الجبهة الشرقية قرب قضاء بدرة وجصان على الحدود الإيرانية ولكن مقر الكتيبة ظلت في معسكر الرشيد ونسبني آمر الوحدة إلى سرية أخرى لأقضي فيها الأيام القليلة المتبقية من خدمة الإحتياط.
بعد إنقضاء فترة الإحتياط تسرحت من الجيش وألتحقت بمقر عملي السابق في المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية.
في نهاية شهر أيلول من نفس العام اندلعت الحرب الشاملة بين العراق وإيران، وبدأت الطائرات من الطرفين المتحاربين بقصف المدن والأهداف العسكرية وتحركت القطعات العسكرية نحو الحدود الشرقية وحمى وطيس المعارك التي تحولت إلى حرب ضروس أستمرت ثمانية أعوام تخللتها معارك طاحنة راح ضحيتها الوف من الشباب بين قتيل وجريح واسير ومفقود.
من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)
يتبع