23 ديسمبر، 2024 5:57 ص

لعنة الذهب ألأسود-8

لعنة الذهب ألأسود-8

تميّز الحكم الجديد بسلبيات عديدة وبعض الايجابيات، فبالنسبة للتركمان فقد تمّ منحهم حقوقا ثقافية وبقرار من مجلس قيادة الثورة وتمّ تشكيل اتّحاد لادباء التركمان ومديرية للثقافة التركمانية وكذلك أُقرّ التدريس في المرحلة الابتدائية باللغة التركمانية للمدن والاقضية والنواحي والقرى الّتي اكثريتها من التركمان، ولكنّ بعض هذه الحقوق تمّ الغاءها بعد استلام صدّام حسين للسلطة بعد ازاحته للمهيب احمد حسن البكر من منصب رئيس الجمهورية وقيادة مجلس قيادة الثورة في عام 1979.
بعد الغاء الدراسة باللغة التركمانية قام المعلمون والمدرسون والطلبة التركمان باضراب عن الدراسة وتمّ اعتقال بعض المعلمّين واستشهد احدهم في المعتقل نتيجة التعذيب، على اثر تلك الاحداث اعتصم الطلاب التركمان الدارسون في جامعة بغداد باعتصام امام مبنى الاتحاد الوطني لطلبة العراق وقدّموا مطالبهم المكتوبة الى رئيس الاتحاد كريم المللا ومنها اطلاق سراح المعتقلين واعادة الدراسة باللغة التركمانية في المدارس.
على صعيد آخر تمّ في عهد المهيب احمد حسن البكر تأميم النفط في الواحد من حزيران من عام 1972 وكذلك مُنح الحكم الذاتي للاكراد وبدأت حملة للقضاء على الاميّة.
بعد تأميم النفط وفشل الحصار الاقتصادي على العراق والّتي كانت كرد فعل على التأميم ازدهر الاقتصاد العراقي في تلك الفترة.لم يكن العام الدراسي الثاني مختلفا عن العام الاول، فالمعوقات استمرت ولم استطع التكيّف مع الجو الجامعي والتفوق في دروسي وكانت النتيجة اعادتي للامتحانات في الدور الثاني لدرسين مما حزّ في نفسي وحرّمني من التمتع بالأجازة الصيفية الّتي قضيتها في اعداد المخططات والتحضير لامتحانات الدور الثاني الّتي اجتزتها بنجاح متواضع.
في المرحلة الثالثة من دراستي الجامعية استطعت التكيّف مع الظروف وسكنت في غرفة مستقلّة مع زميل من كليّة الاداب وفي نفس القسم الداخلي، وبدأت علاماتي في الدروس وخاصّة درس التصميم المعماري بالتحسّن مما شجّعني على بذل المزيد من الجهد بحيث اجتزت هذه المرحلة بصورة جيّدة.
في المرحلة الرابعة من دراستي المؤلفة من خمس مراحل انتقلت للسكن في دار الطلبة في ساحة الباب المعظم وكانت كلية الهندسة مجاورة للقسم الداخلي.
كان مبنى دار الطلبة مكوّنا من عدّة طوابق وقد تمّ تخصيص غرفة في الطابق الاول تسع لستّة طلاب وشاركني فيها خمسة زملاء من كليّات متنوّعة.
الزميل الاول كان يدرس في القسم المعماري وهو من مدينة الحلّة، الزميلان الثاني والثالث كانا يدرسان في القسم المدني من كليّة الهندسة، امّا الزميلان الآخران فكانا من كليّة العلوم.
كانت هذه التشكيلة التّي شاركتني في الغرفة رقم واحد من محافظات مختلفة وذو اتجاهات سياسية متنوعة ومن قوميات مختلفة، فأنا تركماني من مدينة كركوك ولم اكن منتميا الى حزب سياسي مع تميّز هذه الفترة من حياتي بتطرّفي في التديّن واكثاري من مطالعة الكتب الدينية وقضائي لمعظم اوقاتي في الصلاة وارتياد المساجد والقيام بدور المؤذن او الامام لمسجد القسم الداخلي.
هذا التطرّف في التمسّك بتعاليم الدين الاسلامي واكثاري من مطالعة الكتب الدينية والتطورات الّتي صاحبت هذه الحالة أثّرت على دراستي الجامعيّة الّتي كانت تحتاج الى ذهن صافي وتفرّغ تام.
نتيجة لعقيدتي الدينية عانيت من صراع داخلي في لاشعوري بين رغبتي في مواكبة متطلّبات الحياة العصريّة ونواهي الدين الاسلامي الّتي كانت تتعارض مع هذه المتطلبات، هذا الصراع الدامي في دهاليز عقلي اتعبني واورثني شرودا في الذهن.
زميلاي في الغرفة عبّاس ومحمود كانا منتميين الى حزب البعث العربي الاشتراكي وعضوين فعّالين في كادر الاتحاد الوطني لطلبة العراق التابعة لحزب البعث واصبح عبّاس في نهاية الثمانينات وزيرا للاسكان والتعمير وهي نفس الوزارة التي عملت فيها بعد تخرّجي من الجامعة وقد التقيت به خلال زيارته لموقع عملي في المركز القومي للاستشارت الهندسية والمعمارية واستدعاني الى غرفة المدير العام للمركز فأسترجعنا ذكريات القسم الداخلي.
امّا بالنسبة الى الزملاء الآخرين فقد كان جمال احد اعضاء جماعة الاخوان المسلمون الّذين كانوا يعملون على شكل خلايا سريّة في تلك الفترة خشيّة من بطش الحكّام البعثيين، وكان جمال قادما للدراسة من مدينة الموصل ولم يكن للزميلين الآخرين انتماءات الى ايّ حزب او تنظيم سياسي.
بعد العطلة الربيعية حاولت جماعة الاخوان المسلمون اجراء اوّل اتصّال لهم معي لغرض ضمّي الى صفوفهم وذلك بعد ان تمّ مراقبتي في الكليّة والقسم الداخلي.
كنت في تلك الفترة من شبابي اؤمن ايمانا عميقا بأنّ التمسّك بشعائر الدين الاسلامي من صلاة وصوم وغيرها من الطقوس الدينية ليس كافيا لارضاء الله فالاسلام دين ودولة ولا يكمل ايمان المسلم ما لم يسع الى تطبيق جميع تعاليم الاسلام في الحياة والحكم ويدعو بهذه الدعوة وكانت هذه الافكار مترسّخة في عقلي نتيجة لمطالعتي لكتب سيّد قطب وشقيقه محمّد قطب.
 تمّ الاتّصال الاول بي من قبل احد طلّاب المرحلة الرابعة من القسم المدني في كلية الهندسة وقد رحّبت بالمبادرة وتمّ الاتفاق معه على عقد اوّل اجتماع في مسكنه بعد ثلاث ايّام عقب صلاة الجمعة. تعرّفت اثناء الاجتماع على اخواني في الخليّة والّتي كانت مكوّنة من اربعة اشخاص وكنّا جميعا من طلّاب كليّة الهندسة عدا امير الخليّة فقد كان مهندسا حديث التخرّج.
كانت معلوماتي حول الاحزاب السياسية والتنظيمات الدينية شحيحة فكنت اتوّقع ملأ استمارات للانتساب او اعطاءهم صور فوتوغرافية في الاجتماع الاوّل او الّذي يليه ولكن شيئا من هذا لم يحدث واقتصرت الاجتماعات الاسبوعية على تلاوة القرآن وترديد بعض السوّر القرآنية الّتي كنّا نُكلف بحفظها خلال الاسبوع وبعض المناقشات السطحية حول الاوضاع السياسية.
استمرت اتصالاتي بهذا التنظيم واقتصرت على الاجتماعات الاسبوعية حتّى نهاية السنة الدراسية للمرحلة الرابعة وقد اثّر هذا التطوّر الجديد على دراستي الجامعية تأثيرا كبيرا،لأنّي بدأت اعتبر النجاح في الدراسة هدفا تافها بالقياس للاهداف العظيمة الّتي بدأت تترسخ في لاشعوري وأعني بهذا هدف المشاركة في انشاء دولة تحكم بالشريعة الاسلامية من الفه الى يائه.
استلمت نتيجة السنة الدراسية فكانت محبطة وتوجب عليّ اعادة الامتحان وتهيئة مشاريع لثلاث دروس اساسية هي التصميم المعماري وتخطيط المدن والتصميم الداخلي للابنية.
حزمت امتعتي وقفلت راجعا الى كركوك برفقة خيبتي واحزاني ولم تفارقني الكآبة والشعور بالاحباط خلال العطلة الصيفية الّتي قضيتها في اعداد المخططات والمشاريع الّتي كُلّفتُ باعدادها من قبل اساتذتي والتحضير لامتحانات الدور الثاني.
شعوري بالقلق والمرارة الّذي استحوذ على تفكيري اعاقتني عن المثابرة والاندفاع لتجاوز هذه المحنة القاسية، كنت اتهرّب من الدراسة بمختلف الوسائل كممارسة بعض الالعاب الرياضية كلعبة التنس والسباحة وكنت أُكثِرُ من لقاء الاصدقاء.
تمّ خلال هذه الفترة اعادة اتصالي بجماعة الاخوان المسلمون في مدينة كركوك وبدات الاجتماعات الاسبوعية وسارت على نفس الوتيرة المملّة السابقة وبدأ حماسي يفتر تدريجيا ربّما نتيجة للظروف النفسية الّتي كنت امر بها في تلك الايام او لتناقض افكار الاخوان المسلمون مع الشعور القومي المترسّب في لاشعوري منذ الطفولة نتيجة لتربيتي في كنف والد ذو نزعة قومية.
في هذه الفترة العصيبة من حياتي تفجّرت طاقاتي الشعرية فكتبت عدة قصائد باللغة التركية وكان القلق الّذي لازمني كظلّي تأثيرا كبيرا في ذلك التطوّر.
انّ القلق يهدم الجدار الحاجز بين الوعي واللاوعي والاخير هو مصدر النبضات والدفقات الشعرية، انّ شيطان الشعر يربض وراء هذا الجدار منتظرا الفرصة السانحة لاثبات ذاته والوثوب الى الساحة وبدأت انشر بعض هذه القصائد في مجلّة الاخاء الادبية.
في نهاية العطلة الصيفية سافرت الى بغداد وقدّمت المشاريع التصميمية الّتي اعدتها الى اساتذة القسم المعماري واديت الامتحانات ثمّ قفلت راجعا الى مدينة الذهب الاسود.
بدأت مرحلة الانتظار للنتيجة ولم تطل فعلمت بفشلي في اجتياز الامتحانات وتعذر عليّ الانتقال الى المرحلة الخامسة والاخيرة من دراستي المعمارية وكان يتوجب عليّ اعادة السنة الدراسية وحضور محاضرات درسي التصميم المعماري وتخطيط المدن خلال العام الدراسي القادم اما بقية الدروس الّتي نجحت فيها فقد أُعفيتُ من اعادتها حسب نظام جامعة بغداد.
وقع عليّ خبر رسوبي وقع الصاعقة وزلزل الارض تحت اقدامي، فهذا اوّل فشل اجابهه في حياتي واوّل حجر اتعثر به. انّ تجربة الفشل يمر بها كثير من النّاس ولا تترك اثارا مدمّرة في حياتهم ويستطيع معظمهم تجاوز ازمته والتغلّب على النكسات والتكيّف مع الوضع المستجد ولكن الحالة معي كانت مختلفة تماما فقد كنت متعودا على التفوّق وكنت الاوّل دائما خلال دراستي في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية من دراستي، لهذا لم يتقبّل عقلي الامر بسهولة وخيّم عليّ سحابة من الحزن والكآبة وبدأت مشارط القلق تمزّقني اربا وامسى الارق رفيقي وتبعثر تفكيري كما يتبعثر حبّات العقد بعد انقطاع الخيط.
…….يتبع
من مسوّدة كتاب (لعنة ألذهب ألأسود)