23 ديسمبر، 2024 5:41 ص

لعنة الذهب ألأسود-7

لعنة الذهب ألأسود-7

بدأ ألعام ألدراسي في أوائل الخريف من عام 1966 فحزمت امتعتي للسفر الى العاصمة بغداد الّتي زرتها زيارتين قصيرتين سابقا. إنّ هذه الرحلة نحو المجهول كانت مشوبة بقلق فهذه اوّل مرّة اترك فيها بيتي ومدينتي وعائلتي لاخوض غمار الحياة وحيدا.
توفيرألسكن كانت أوّل مشكلة جابهتني في بغداد، فبعد معرفتي بأنّ أجراءات القبول في ألأقسام الداخلية للطلبة ستستغرق عدة شهور قررت مع زميلي سليم السكن في فندق نجاة في ساحة الميدان. كان فندق نجاة فندقا متواضعا ومناسبا لدخلنا المحدود ويتميّز بقربه من كلية الهندسة والطب.
كان سليم مقبولا في كلية الطب ولكنّه بعد فترة وجيزة من الدوام في الكليّة فاتحني برغبته في الانتقال الى كليّة الهندسة لانّه اصيب برد فعل من دروس الطب وخاصّة درس التشريح حيث لم يعجبه منظر الطلبة وهم يقطّعون الجثث بمشارطهم، وتحققت رغبته الجديدة فانتقل الى القسم المدني من كلية الهندسة.
كنّا نقضي النهار في الكليّة وفي المساء نعود الى غرفتنا في الفندق بعد تناول وجبة الطعام في المطعم القريب من الفندق لمراجعة الدروس وتحضير الواجبات لليوم التالي.
لم يكن جو الفندق ملائما للدراسة فضيق الغرفة وضوضاء النزلاء ظلّت تعيقنا عن الدراسة وخاصّة بالنسبة لي حيث لم تكن الغرفة تتسع للوحة الرسم الهندسي والّتي اشتريتها بخمس دنانير من احد طلّاب الصف الثاني، امّا بالنسبة للدروس النظرية فكنت ادرسها في مكتبة الكليّة او في المكتبة المركزيّة للجامعة.
بعد قضاء عدّة شهور في الفندق انتقلنا مع سليم وزميلنا عصمت الى القسم الداخلي لنادي الاخاء التركماني وكان هذا القسم الداخلي افضل من الفندق نسبيا واشتركت مع سليم وعصمت في الغرفة المخصصة لنا.
كان هذا النادي الاجتماعي والثقافي الّذي تأسس في بداية الستينات يهتم بشؤون التركمان القاطنين في بغداد ومعظمهم من العائلات التي هاجرت من مدينة كركوك بعد احداث مجزرة كركوك عام 1959. كان النادي ينظّم حفلات فنيّة ويقوم بفعاليات ثقافية واجتماعية اضافة الى تنظيم سفرات وحفلات تعارف للطلاب التركمان الدارسين في جامعة بغداد اضافة الى اصدار مجلّة ثقافية وادبية باللغتين العربية والتركمانية باسم مجلّة الاخاء.
بعد امتحانات نصف السنة قُبِلت مع سليم في القسم الداخلي لجامعة بغداد واهّلني مجموع درجاتي في الامتحانات للاعدادية العامة للحصول على منحة شهرية قدرها سبع دنانير ونصف الدينار لتغطية مصاريفي الدراسية الجامعية.
كان القسم الداخلي للجامعة في ضواحي بغداد وابنيته كانت تشكّل جزءا من مدينة الرشاد والّتي انشئت من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لتحوي ملجأ للايتام ومساكن للعجزة والمسنين وقد تمّ إستإجارها من قبل جامعة بغداد وحوّلت الى اقسام داخلية للطلبة الدارسين في المراحل الثلاث الاولى من كليات الجامعة.
بالقرب من الاقسام الداخلية كان يربض مستشفى الشماعية للامراض النفسية والعقلية وهو المستشفى الوحيد المتخصص في هذا المجال في العراق.
كان القسم الداخلي المخصص لنا عبارة عن مبنى مكوّن من طابق واحد يطل غرفه المتلاصقة على ممر طويل وتمّ تخصيص غرفة لكلّ طالبين فأشتركت مع زميلى سليم في احدى هذه الغرف، ونظرا لبعد القسم الداخلي من الكليّات فقد خصصت الجامعة حافلات خاصّة لنقل الطلّاب من والى الجامعة ولم يكن بأستطاعتنا المكوث في مدينة بغداد الّا لفترات محددة مرتبطة بمواعيد حركة الحافلات.
كانت الدراسة في السنة الاولى في القسم المعماري من اصعب السنين بالنسبة لي، فاضافة الى ظروف السكن الغير الملائم وعدم تعودي على البعد عن العائلة وعن مدينتي فانّ الدروس كانت باللغة الانكليزية وكذلك كان القسم الّذي اخترته من اصعب الاقسام الهندسية، فبالاضافة الى الدروس المشتركة مع الاقسام الاخرى كالفيزياء والرياضيات كان للقسم المعماري دروس اضافية كالتصميم المعماري والرسم المعماري والرسم اليدوي.
كان يومنا مثقلا بالواجبات البيتية للدروس المعمارية بحيث كنت اسهر حتّى الفجر في معظم الايام لاتمكن من اكمال واجباتي ولم يكن لي معارف في الصفوف المتقدمة من القسم المعماري لتوجيهي ومساعدتي كبقية معظم زملائي من سكنة بغداد.
بالرغم من الجهود الّتي بذلتها في الدراسة لم تكن العلامات الّتي حصلت عليها في الدروس المعمارية مشجّعة مما سببت لي قلقا والما نظرا لتعودي على التفوق في الدراسة وان اكون الاول دائما بين اقراني.
انّ عقدة التفوق سلاح ذو حدّين تجرح المتسلح بها احيانا جروحا بليغة لا تندمل بيسر، ففي نهاية السنة الدراسية استلمت النتيجة فكنت مكملا في درس الرسم اليدوي وكانت هذه النتيجة مؤلمة ومخيّبة لامالي وعزوت السبب الى خطأي في اختيار هذا القسم، ونظرا لتفوقي في الدروس النظرية كالفيزياء والرياضيات حاولت بعد اجتيازي لامتحان الدور الثاني ونجاحي الى المرحلة الثانية التحوّل الى قسم الميكانيك ولكنّ تعليمات كليّة الهندسة كانت لا تسمح بالانتقال الى المرحلة الثانية في حالة التغيير من القسم المعماري الى الاقسام الاخرى وذلك لاختلاف في المناهج بين قسمنا والاقسام الاخرى وهذا يعني فقداني لسنة كاملة وحرماني من منحة الجامعة والسكن في الاقسام الداخلية وهذا الامر لم يكن بمقدوري تحمّله للظروف المادية الّتي كانت عائلتي تعاني منها في تلك الفترة، لذا عدّلت عن قراري وعزمت على اكمال الدراسة في القسم المعماري.
بعد انقضاء السنة الدراسية الاولى ابتُ الى مدينة كركوك وقضيت العطلة الصيفية فيها ثم سافرت برفقة سليم الى بغداد بعد انتهاء العطلة لاكمال دراستي في الجامعة.
في الخامس من حزيران من عام 1967 اندلعت الحرب العربية الاسرائيلية والتي سُميّت بنكسة حزيران، لقد ترك هذا الحرب اثارا عميقة في نفسية المواطن العراقي والعربي، وكان طعم الهزيمة مرّا كالعلقم وانعكست اثار الهزيمة على الوضع السياسي للقطر برمّته وتوضّحت هذه الآثار في الحياة الجامعية، فالعام الثاني من دراستي صاحبه اضرابات طلّابية وصراعات بين الاحزاب المختلفة.
خلال هذه الاحداث الّتي هزّت كيان المجتمع العراقي والعربي كنت في المرحلة الثانية من دراستي الجامعية وكنت قد انتقلت من غرفتي الى قاعة منام كبيرة ضمّت عشرين طالبا جامعيا من كليات مختلفة ولم تكن هذه القاعة ملائما لدراستي المعمارية، لانّ الطالب الدارس في القسم المعماري عليه السهر حتّى انبلاج خيوط الفجر عند تهيئته التصاميم المعمارية وهذا الامر كان يتعارض مع كون قاعة المنام مخصصة اصلا للنوم، فالانارة الّتي كنت احتاجها لتحضير المخططات كانت تزعج زملائي في القاعة الّذين يرومون النوم.
في تلك الفترة كان عبدالسلام عارف رئيسا للجمهورية خلفا لشقيقه عبدالسلام عارف الّذي قضى نحبه في حادث سقوط الطائرة العمودية الّتي كانت تقلّه في جنوب العراق. عبدالسلام عارف استحوذ على الحكم في العراق عدة سنوات بعد ابعاد البعثيين الّذين اشتركوا معه في القضاء على حكم الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1963 وسُمي هذا الانقلاب في حينه بثورة 14 رمضان لحدوثه في شهر رمضان.
بعد ذلك حدثت تغييرات سياسية في القطر وذلك بعد حدوث انقلاب آخر في السابع عشر من تمّوز من عام 1968 واستلام حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة بصورة كاملة في الثلاثين من تمّوز من الشهر نفسه وذلك بعد تصفية القادة العسكريين من انصار رئيس الجمهورية عبدالرحمن عارف الّذين اشتركوا مع البعثيين في التخطيط للانقلاب وتنفيذه.
بعد استقرار الوضع واستلام حزب البعث لمقاليد الحكم اصبح الزعيم احمد حسن البكر رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء، اما صدّام حسين فقد اصبح مسؤولا عن الجهاز الامني للحزب.
…..يتبع
من مسوّدة كتاب (لعنة ألذهب ألأسود) للكاتب