في تلك الأثناء تخرجت شقيقتي ايسل من كلية ألصيدلة وتعينت في إحدى مستشفيات مدينة بعقوبة وكان شقيقي اردال قد ترك الدراسة في نهاية المرحلة الاعدادية وعمل في شركة المقاولون العرب المصرية التي كانت تنفّذ مشروع ري كركوك وذلك لعدم تمكّنمه من اجتياز الامتحانات الوزارية وليتمكّن من مساعدة والدي على تحمّل اعباء العيش.
بدأت الحالة المادية للعائلة بالتحسّن بعد تخرّج شقيقتي وتعيينها في المستشفى فأجّرنا دارا في حي تسعين الجديدة الذي عكس الرفاه النسبي للعائلة.
اضافة الى انغماسي في الدراسة وممارستي لهواياتي بدأت بالتفكير في الجنس الاخر، فمرحلة المراهقة مرحلة حرجة في حياة الانسان، ونظرا لتديّني فلم اكن اشاطر اقراني واخواني في مغامراتهم العاطفية.
كانت هناك فتيات عديدات اللواتي حزن على اعجابي في المراحل المختلفة من صباي وشبابي وكان لانتقالنا المستمر من دار الى اخر دورا كبيرا في اختياري لفتاة احلامي، فلكلّ محلّة فتاة احلام المتمثلة في بنت الجيران واتذكر انّ اول حب داعب اوتار قلبي الصغير عندما كنت في الحادية عشر من العمر وكانت الحبيبة صبية تسكن قبالة دارنا. جميع هؤلاء لم يكنّ يعرفن بشعوري نحوهن ولم اجرؤ على مفاتحتهنّ لطبيعتي الخجولة وظلّت في نفسي رغبة كامنة لتمثيل دور البطل في قصة حب حقيقية اسوة باقراني ومحاكاة لقصص الحب التي كنت اقراءها في الروايات واشاهدها في الافلام السينمائية.
انّ هذا الكبت المستمر لاحاسيسي وعواطفي تجاه الجنس اللطيف كان له ابلغ الاثر في تفجير طاقاتي الشعرية في المراحل اللاحقة من شبابي اضافة الى قصة الحب الّتي نسجت خيوطها في المرحلة الاخيرة من دراستي في الاعدادية، هذه القصّة الّتي لم تبدا ولم تنتهي كالقصص السابقة.
كنت في فترة الطفولة والصبا ارافق اسرتي في الزيارات الّتي كانوا يتبادلونها مع الاقرباء وكان من بينهم احدى قريباتنا من جهة والدي، كانت هذه العائلة مكونّة من بنت خالة والدي وزوجها وولداها وبناتها الثمانية. كانت البنت السابعة اسماء تماثلني في العمر وكنّت اقضي خلال هذه الزيارات سويعات حلوة في اللعب البريء معها ولكن هذه الزيارات قلّت خلال الفترات التالية ورسّبت في عقلي الباطن ذكريات جميلة ثمّ لفّها ضباب النسيان فاصبحت كالشرنقة الملفوفة بخيوط الحرير تنتظر قدوم فصل الربيع لتنشق وتنطلق منها فراشة الحب نحو الضياء والامل.
بدات في السنة الاخيرة من دراستي الاعدادية احس بحنين وشوق نحو رفيقة صباي وبدات اتسقّط اخبارها واتذكر انّي لمحتها في احدى المرّات في الحافلة من بعد، هذه اللمحة اليتيمة الّتي اثارت كوامن ذكرياتي. في تلك الفترة طرق الى سمعي انّ ابن خالتها معجب بها وهناك اتفاق عائلي على تزويجها له واعتقدت بانّ هنالك حب متبادل بينهما. انّ هذا الخبر وانشغالي بالدراسة ساعدا على طي صفحة من صفحات قصة هذا الحب الى حين.
في هذه المرحلة زاد افق تفكيري واطّلعت على نظريات جديدة تبحث في اصل الانسان كنظرية النشوء والتطوّر لتشارلس داروين في كتاب درس الاحياء وبالرغم من وجود فصل كامل حول هذه النظرية في كتاب درس الحيوان فانّ تعليمات وزارة التربية كانت تمنع تدريسها وكانت مستبعدة من المنهج المقرر.
بدات اكثر من مطالعاتي للكتب الادبية والفكرية واقضي ساعات طويلة في المكتبة العامة الوحيدة في مدينة كركوك كما كنت استعير منها الكتب لمطالعتها في البيت، ولكن بالرغم من اطلاعي على هذه الافكار الجديدة ونقاشاتي مع زملائي حول اصل الكون والانسان فانّ ايماني بالله ورسوله محمّد لم يتزعزع واتجهت الى مطالعة كتب المفكرين الاسلاميين امثال سيّد قطب ومحمّد قطب لعلّي اجد في هذه الكتب تفسيرا للتناقضات الموجودة بين النظريات العلمية الحديثة والنظرة الدينية حول نشوء الكون واصل الانسان والحيوان والنبات.
بعد اجتيازي الامتحان الوزاري للمرحلة الاعدادية بتفوّق الّذي كان مثار اعتزاز والدي واهلي حيث كنت الاوّل في الترتيب لجميع المدارس الاعدادية في مدينة الذهب الاسود.
بدات افكّر في الكلية التي ساختارها، وكان مجموع درجاتي يؤهلني للانتساب الى اية كلية ارغب في الدراسة فيها.
في تلك الفترة من سنة 1966 وهي الفترة الّتي انتشرت فيها مرض الهيضة في العراق، كان امامي عدة خيارات، الخيار الاوّل كان التقديم لبعثة على نفقة وزارة النفط للدراسة في المملكة المتحدة للحصول على شهادة البكلوريوس في هندسة النفط، كماعرض عليّ والدي قبول زمالة دراسية لدراسة الطب في جامعة حاجت تبّة في انقرة بوساطة احد معارفه في الملحقية الثقافية في السفارة التركية، ولكنّي رفضت جميع هذه العروض المغرية وقررت دراسة الهندسة المعمارية في كلية الهندسة في جامعة بغداد.
كانت لدراسة شقيقي يلماز في كلية الهنسة تاثيرا كبيرا في اتّخاذي لهذا القرار فقد احببت مهنة الهندسة بعد اطلاعي على مناهجه الدراسية ووجدت في الهندسة المعمارية مجالا لاشباع ميولي الفنية ورغبتي الكامنة للخلق والابداع.
انّ الهندسة المعمارية فن منطقي يتناسب مع حاجة الانسان ويستنبط من هذه الحاجة لتهيئة محيط يتكيّف لمتطلباته ويوفّر للانسان الجو الملائم لانجاز طاقاته المختلفة على اتم وجه وباحسن صورة، ويلم المهندس المعماري بجميع الفروع العلمية بدرجة تمكّنه من تنسيق اعمال ذوي الاختصاص فيها للوصول الى الهدف معبرا عنها بلغته كفنان بالمخططات التصميمية والتصويرية.
لم اكن اعرف هذه المعلومات التفصيلية عن الهندسة المعمارية حينذاك ومع ذلك قدّمت وثائقي الى مركز القبول في جامعة بغداد مسجّلا فيها اختيارا واحدا هو القسم المعماري في كلية الهندسة بالرغم من انّ التعليمات كانت تنص على ادراج عدّة اختيارات ولكن المجموع الّذي حصلت علية في الامتحان منحني الثقة الكافية لادراج هذا الاختيار الوحيد.
انّ مسيرة الحياة هي كرحلة القطار تتوقف في محطات متعددة فيتوجب على المسافر اختيار الطريق الّذي سيسلكه في تلك المحطات، انّ هذه الاختيارات هي الّتي تحدد مسار حياة الانسان في هذه الحياة المليئة بالالام والافراح والزاخرة بالاحاسيس المتناقضة من حب وكره وامل ويأس.
…..يتبع
من مسوّدة كتاب (لعنة ألذهب ألأسود) للكاتب