بعد مجزرة كركوك غيَّرَ ألزعيم عبدألكريم قاسم مِنْ سياسته وبدأ بسحب ألبساط مِن تحت أقدام ألشيوعيين وألحزب ألديموقراطي ألكردستاني بزعامة ملّا مصطفى ألبارزاني لأنّه أكتشفَ (بعد خراب ألبصرة) كما يُقال في ألمثل ألعراقي بانَّ ألحزب ألشيوعي يحاول ألأستحواذ على ألسلطة في العراق، ومِن ألشعارات ألمسجوعة ألّتي كان ألشيوعيون يرددونها في مسيراتهم قبل ألمجزرة وهم يحملون ألمنجل وألمطرقة وألحبال ألّتي كانوا يلوّحون بها أتذكّر ألشعار: ( عاش ألزعيمي، عبدألكريمي، حزب ألشيوعي بألحكم، مطلب عظيمي) و ( ماكو مؤامرة تصير وألحبال موجودة ) كناية إلى أنّهم سيسحلون ألمعارضين لهم بألحبال في ألشوارع، كما أدرك ألزعيم بعد أحداث كركوك أنَّ ملّا مصطفى ألبارزاني يهدف إلى ألإنفصال عن ألعراق وتشكيل دولة كردستان بعد ألأستحواذ على مدينة ألذهب ألأسود ألغني بألنفط.
وقبل أنْ أُنهي ألحديث عن ألاحداث ألمتعلقة بمجزرة كركوك أود أنْ أٌشير ألى ألمعلومات ألخاطئة ألّتي وردتْ في كتاب ألسيّد حامد ألحمداني (ثورة تمّوز نهوضها وأنتكاساتها وأغتيالها)، يقول ألمؤلِّف في فصل (أحداث كركوك في ألذكرى ألأولى لثورة 14 تمّوز) وفي قسم (ألتركيب ألسكاني لمدينة كركوك ودوره في ألأحداث) مايلي: ” لقد وقعت أحداث عديدة في كركوك ، وكانت مؤشراً على عمق الهوة بين التركمان والأكراد ، بتحريض من عملاء شركات النفط ، حيث قام التركمان باغتيال عدد من الأكراد، أذكر من بينهم سيد ولي و محمد الشربتجي… إلى آخره مِنْ ألتلفيقات. ” ثمَّ ينتقل بعد هذه ألمقدّمة إلى سرد أحداث تلك ألأيام ألمشؤومة بوجهة نظر متحيّزة.
إنَّ ألكاتب يحاول أنْ يوحي في كتابه بأنَّ أغتيال سيّد ولي ومحمّد ألشربتجي حدث قبل وقوع ألمجزرة ويحاول توجيه أصابع ألأتهام إلى ألمواطنين ألتركمان وألأيحاء بأنّهم ألسبب في حدوث ألمجزرة، وللحقيقة وألتاريخ وكشاهد عيان على تلك ألأحداث ألمؤلِمة أُبيّن بأنَّ عملية أغتيال ألمذكورين حدثت بعد ألمجزرة بفترة وبعد إنتهاء ألمحاكمات لمرتكبي ألمجزرة وأطلاق سراح قسم منهم، فعملية ألأغتيال كانت كَرَدِّ فعل وعملية إنتقامية لأرتكاب هؤلاء لجرائم قتل وسحل للتركمان ألمُسالمين وليس العكس كما يحاول ألباحث أنْ يوحي به.
إنَّ ألحقائق لا يُمكن تزييفها بهذه ألسهولة في عصر ألتدوين وألثورة ألمعلوماتية وثورة ألأتصالات وعصرألشبكة ألعنكبوتية، ثمَّ أنَّ مُعظم أهالي كركوك مِن ألعرب وألتركمان وألقوميات ألأخرى ألمُحايدة وألّذين عاصروا تلك ألأحداث لازالوا على قيد ألحياة ويستطيع ألكاتب ألوصول إلى ألحقائق بإستجوابهم، وكان عليه ألإطلاع على وثائق وزارة ألداخلية حول تواريخ ألإغتيالات ألّتي حدثت بعد مجزرة كركوك، فالتاريخ لا يُمكن تلفيقه بهذه ألسهولة في عصر يتمكن ألمؤرِخ فيه ألوصول إلى ألوثائق إنْ أراد ذلك، ثمَّ أنَّ ألكاتب يتّهم ألتركمان بألعمالة لشركات ألنفط ألأجنبية، لذا أتساءل: متى كان ألتركمان عملاء للبريطانيين ألّذين يمقتونهم عبر ألتاريخ؟
لقد حارب ألبريطانيون ألمُستعمِرون ألأتراكَ ومنهم ألتركمان عبر ألتاريخ وليست معارك جناق قلعة وأحتلالهم معظم أرجاء تركيا وحرب ألأستقلال ألّتي قادها مصطفى كمال لتحرير ألأراضي ألتركية مِن إحتلال ألبريطانيين وحلفائهم ألأمبرياليين وكذلك مؤامراتهم في مباحثات لوزان بخاف على أحد مِن ألمؤرخين ألموضوعيين. ولا ننسى في هذا ألصدد ثورة ألعشرين ضد ألأستعمار ألبريطاني وألّتي شارك فيها عشائر ألتركمان في تلعفر وبقية أنحاء ألعراق، إنَّ رفض ألتركمان ألإستفتاء على تنصيب ألملك فيصل ألأوّل ألّذي عيّنه ألمستعمر ألبريطاني ملكا على ألعراق دليل آخر على مُناوئة ألتركمان للأستعمار ألبريطاني وعملائهم ألشركات ألنفطية.
إنَّ ثورة 14 مِنْ تمّوز ثورة مجيدة ضد ألأستعمار ولكنَّ ألشيوعيين وأعضاء الحزب ألديموقراطي ألكردستاني حاولوا ألأستحواذ عليه وتغيير مساره ألوطني وأُذكِّر ألسيد حامد ألحمداني بدلالة رمزية واحدة على تأييد ألتركمان لثورة 14 تمّوز ألمجيدة، ففي إحتفالات ألذكرى ألأولى للثورة نصَبَ ألمواطنون ألتركمان في كركوك خمسة وخمسين قوسا مُزينّا في شوارع كركوك وقد تمَّ تحطيم معظمها مِن قبل مرتكبي مجزرة كركوك مِن ألشيوعيين وألبيشمركة، كما شارك ألمواطنون ألتركمان بوفد كبير في مسيرات وإحتفالات ألّتي أُقيمت في بغداد في ألذكرى ألأولى للثورة وكان شقيقي وشقيقتي ضمن هذا ألوفد.
بعد هذه ألأحداث بدأ عصيان ألأكراد بقيادة ألبارزاني في شمال ألعراق، فدخل ألجيش ألعراقي في معمعة صراع دامي مع ألأكراد راح ضحيتها ألمئات مِن ألمواطنين ألعراقيين ولَمْ يتوقف هذا ألنزف ألدموي خلال ألأعوام ألتالية حيث أستمرَّ ألأقتتال لما يقارب ألثلاثين عاما وبفترات متقطعة وتوقف ألنزف في نهاية أحداث ألأنتفاضة الشعبانية ألّتي أعقبت حرب ألخليج ألثانية وذلك باعلان ألتحالف ألغربي وبقرار مِن ألأمم ألمتحدة جعل قسم مِن ألمحافظات ألشمالية منطقة آمنة وتمّت حمايتها مِن قِبل قوّات ألمطرقة ألتابعة لحلف ألناتو.
بألرغم مِن راتب شقيقي أورخان ألّذي بدأ بممارسة مهنته كطبيب في مديرية صحّة ألمعارف فإنَّ ألحالة ألمادية للأسرة لَمْ تتحسن كثيرا لأنَّ راتبه ألبالغ ستّون دينارا كان يُصرَف معظمه لشراء ألأثاث للبيت ألّجديد ألّذي أستأجره في شارع ألأطباء وخصص غرفتان منه كعيادة له أضافة إلى مصاريف ألجامعية لشقيقتي ألّتي كانت تدرس في جامعة أسطنبول ومصاريف ألسيارة ألقديمة ألّتي أشتراها شقيقي أورخان، أمّا مكتبة والدي فقد مرَّ بمرحلة عصيبة بعد نهب محتوياتها أثناء مجزرة كركوك بالرغم مِن ألتعويض ألقليل ألّذي دفعته حكومة ألزعيم عبدألكريم قاسم بعد تلك ألأحداث للمتضررين. في تلك ألفترة كنتُ في ألصف ألخامس مِن ألمرحلة ألأبتدائية في مدرسة ألخالدية ألأبتدائية للبنين.
أكملتُ المرحلة ألأبتدائية بتفوّق في مدرسة أخرى في محلّة كاورباغي ألّتي شهدتْ أحداث كاورباغي في تمّوز عام 1946 ثمَّ أنتقلت ألى ألمرحلة ألمتوسطة في متوسطة ألشرقية. كانت أعداد ألمدارس للمرحلتين ألمتوسطة وألثانوية قليلة جدا في تلك ألحقبة، كانت في القورية مدرستان للمتوسطة، ألشرقية وألغربية وفي ألصوب ألكبير مدرسة واحدة هي متوسطة ألمصلّى ومتوسطة واحدة للبنات، أمّا بالنسبة للمدارس ألثانوية للبنين فكانت أثنتان، ثانوية كركوك في ألقورية وثانوية ألمصلّى في ألصوب ألكبير، وكانت في ألمدينة مدرسة ثانوية واحدة للبنات فقط هي ثانوية كركوك للبنات.
بألرغم مِن ألأحداث ألجسيمة ألّتي مر بها ألعراق، أنصرفتُ إلى تحصيل ألعِلم بكلِّ همَّة ونشاط وربّما توارثتُ هذه ألخصلة مِن والدي محمّد فاتح ألّذي كان شغوفا بألثقافة وألمطالعة وقد حدّثني في إحدى ألمرّات عن فترة سجنه فقال ” كنتُ أطلب مِن والدتك تسريب ألكتب إليَّ خفية مع ألطعام أثناء ألمواجهات ألأسبوعية للسجناء مع عوائلهم “.
تفاقم ألصراع بين رئيس ألوزراء عبد الكريم قاسم وألتيار القومي العربي ألمسنود مِن قِبل ألزعيم جمال عبدألناصر بعد اعدام مجموعة من الضباط في 20 تشرين ألأوّل مِن عام 1959 بأوامر مِن عبدالكريم قاسم.
في أجتماع للقيادة القطرية لحزب البعث العربي قررت ألقيادة إغتيال ألزعيم عبدالكريم قاسم، وتمّ تشكيل فرقة لتنفيذ هذه ألمهمّة من صدّام حسين المجيد وعبدالوهاب الغريري وعبدألكريم ألشيخلي وحاتم ألعزّاوي وأحمد طه ألعزوز وسمير ألنجم. أنتظرتْ ألمجموعة في عيادة ألدكتور حازم ألبكري في منطقة رأس ألقرية مِن شارع ألرشيد في ألعاصمة بغداد سبعة أيام ثم بدأوا بألتنفيذ فأمطروا برشاشاتهم سيارة عبدألكريم قاسم عند مروره بوابل مِن ألرصاص فأُصيب عبدألكريم قاسم ومُرافقَه بألجراح وقُتِلَ سائقه، وأٌصيب من ألمجموعة ألمهاجمة سمير ألنجم وصدّام حسين بألجراح وقُتِلَ عبدألوهاب ألغريري ولاذت ألمجموعة ألناجية مع جرحاهم بألفرار، ثُمَّ هرب صدّام حسين إلى تكريت ومِنها إلى سورية عبر ألحدود ثمَّ أستقر به ألمقام في مصر تحت حماية جمال عبدالناصر. كان جمال عبدألناصر في تلك ألفترة يدعم ألقوميين وألبعثيين ألعراقيين.
في ألثامن مِن شباط مِن عام 1963 حدث أنقلاب عسكري على حكومة ألزعيم عبدألكريم قاسم ، بدأ ألإنقلاب باغتيال العميد الطيّار جلال ألأوقاتي قائد القوة الجوية أمام منزله على يد الإنقلابيين، ومن بعدها تمَّ ألهجوم ألجوّي على مبنى وزارة ألدفاع وقاعدة ألرشيد ألجوية بقيادة منذر الونداوي.
بعد هذه المعركة تمَّ إعتقال كلّ مِن ألزعيم عبدالكريم قاسم وفاضل عباس ألمهداوي وطه الشيخ أحمد وألضابط كنعان خليل وأُقتيدوا إلى مبنى دار ألإذاعة في ألصالحية وتمَّ إعدامهم هناك وبحضور عبد السلام عارف ألّذي كانَ مُشترِكا في ألإنقلاب، وكذلك تمَّ قَتلُ وصفي طاهر، وعبد ألكريم ألجدّة داخل وزارة الدفاع.
بعد ألإنقلاب تمَّ إعدام داوود ألجنابي قائد ألفرقة ألثانية بتهمة ألمشاركة في مجزرة كركوك، وبعد فترة مِن ألزمن أعدَمَ ألأنقلابيون مجموعة مِن ألمجرمين ألّذين أشتركوا فعليا في أرتكاب جرائم ألقتل في تلك ألأحداث وألّذين كانوا مسجونين في سجن نُكَرة سلمان، وتمَّ عرض جثثهم في ثلاث مِن ألساحات ألعامّة في مدينة ألذهب ألأسود وهي ساحة ألعمّال وساحة أحمد آغا في ألقورية وساحة محلّة ألمصلّى في ألصوب ألكبير.
هذه ألعقوبات ألعادلة أرجعت قليلا مِن ألبسمة ألى شفاه أبناء وبنات ضحايا ألمجزرة وأصبحوا عِبرة لِمن يَظلِم أخيه ألإنسان حين يكون مُقتدرا. بعد ألإنقلاب شكّلَ ألبعثيون ميليشيا بأسم ألحرس ألقومي كانت مِن مهامها ألرئيسية تصفية ألمعارضين لحزب ألبعث وكان ألشيوعيون ألهدف ألأول في هذه ألتصفيات.
بعد مرور عام على هذه ألأحداث ألدرامية وعندما كنت في ألصف ألثالث مِن ألمرحلة ألمتوسطة مِن ألدراسة، أُصيبت عائلتي بنكبة لَمْ تكنْ في ألحسبان حيث أُصيب شقيقي ألأكبر أورخان بمرض غامض ولَمْ يتمكّن هو أو زملائه مِن ألأطبّاء مِن تشخيص ألمرض، لذلك أرسلوا ألتحاليل وألتقارير ألطبية إلى طبيب أختصاصي في لندن.
بعد فترة أستلم أورخان رسالة مِن ألطبيب ألأختصاصي وعلِمَ بإصابته بمرض سرطان ألمُخ، فأنهارت معنوياته وأظلّمت ألدنيا أمام ناظريه. بدأت معاناتنا وصراعنا المرير مع هذا المرض ألعُضال وأنعكست آثارها على ألحياة أليومية لأفراد ألأسرة، فأختفت ألبسمة مِن ألوجوه، لقد بلغ تأثري مبلغا لَم أشعر به مِن قبل لطبيعتي ألحسّاسة وذكرياتي ألأليمة مع هذا ألمرض ألّذي خَطفَ منّي ألصدر ألحنون ألّذي كنتُ آوي إليه وأنا صبي في ألرابعة مِن ألعمر.
إنَّ مرحلة ألطفولة مرحلة حرجة في حياة ألإنسان وتترك آثارا بليغة في بنائه ألنفسي وسلوكه في ألمستقبل، فبعد فقدي للوالدة ألحنونة أُشاهد شقيقي يذبل أمام ناظري يوما بعد يوم وهو في أوج شبابه. في محاولة لإنقاذه قررت ألعائلة إرساله إلى لندن للعلاج ولكن ألعقبة ألوحيدة كانت مصاريف ألسفر وألعلاج، وقد تمَّ حل ألإشكال ببيع ألسيارة ألقديمة ألّتي كان يملكها أورخان كما شارك زملائه ألأطباء في تحمّل قسم مِن ألمصاريف.
بعد إكمال علاجه في لندن رجع شقيقي إلى ألوطن بصحّة جيدة وبدأ يمارس مهنته كطبيب ورجعت ألبسمة إلى شفاهنا وشفاه زوجته وإبنه ألوحيد ألّذي كان طفلا في ألرابعة مِن ألعمر، لكنّ ألمرض عاوده مرة أُخرى وبدأ ينخر في جسمه، وبدأت ألألام ألمُبرِحة تعاوده بين فينة وأخرى مع فترات مِن ألغيبوبة.
كان أورخان يذبل يوما بعد يوم، وفي محاولة لإنقاذه قررت ألعائلة إرساله إلى أسطنبول للعلاج مرة أخرى ورافقه في رحلته زوجته وإبنه ألبكر. لَمْ تمضِ فترة طويلة على سفرة ألعلاج وإذا بألنبأ ألفاجع يطرق أسماعنا. لقد هزّني ذلك ألنبأ ألأليم كما يهزّ ألبركان ألجبل ألساكن، وبدأتُ أُفكّر في هذا ألوقت ألمُبكِّر مِن ألعُمر بلُغز ألحياة وألموت، وبدأتُ أتساءل، لِمَ يتعذّب ألإنسان في هذه ألحياة؟ ومِن أين جاء؟ وإلى أين يرحل؟ ولِمَ؟
لَمْ أجد أجوبة شافية على تساؤلاتي في عقلي، فأتجهت ألى ألكتب أبحث وأٌنقّبُ فيها لعلّي أجِدُ بُغيتي. لقد وجدّتُ في ألإيمان بألله علاجا شافيا لآلامي وحيرتي وأجوبة على معظم تساؤلاتي، فبدأت أصلّي وأصوم وألتزمْتُ بجميع أركان ألدين ألإسلامي وتشريعاته، وأصبحتُ أؤدّي ألصلاة في أوقاتها في مسجد ألمحلّة ألّتي أنتقلنا إليها بعد وفاة شقيقي، كان ألمسكن ألجديد في محلّة صاري كهية وهي محلّة ذات بيوت قديمة متلاصقة مبنية مِن ألحجر وألجص، ويقع في نفس ألزقاق ألّذي كنّا نسكنه قبل تخرّج أورخان مِن ألجامعة.
كان ألدار ألّذي أستأجرّه والدي بإيجار شهري قدره ثمانية دنانير مكوّنا مِن طابق واحد فيه أربع غرف ذات سقوف مبنية مِن ألحجر وألجص وعلى شكل قباب، كان هذا ألأسلوب في ألتسقيف شائع ألإستعمال في ألبيوت ألتراثية لمدينة كركوك قبل إستعمال ألمقاطع ألحديدية وألخرسانة في ألتسقيف. كانت جدران ألمسكن رطبة وغرفها مضاءة بشبابيك تطل على فناء وسطي يؤدّي إلى غرفة عالية عن مستوى ألفناء في تحتها سرداب رطب ومظلم وذو فتحات للتهوية عمودية تنتهي في سطح ألدار ألمفروش بألطين ألمخلوط بألتبن. هذا ألأسلوب مِن ألتهوية يُسمّى في ألعراق بألبادكَير.
شَهِدَ هذا ألدار مرحلة أُخرى مِن ألمعاناة ألقاسية للاُسرة وصراعها مع ألفقر وأهم مرحلة مِن مراحل تكويني ألنفسي وألفكري. بألرغم مِن مُلِمّات ألحياة وشظف ألعيش تفوقتُ في دراستي وكان ترتيبي في ألإمتحانات ألوزارية للمرحلة ألنهائية للدراسة ألمتوسطة ألأوّل على مدرستي وألثاني على جميع مدارس ألمرحلة ألمتوسطة في مدينة كركوك، وقد كرّمني متصرّف أللواء نايف حمّودي بهديّة قيّمة كانت عبارة عن قلم حبر ماركة باركر ولكنّي ضحيّت بألهدية مضطرّا وسلّمتها إلى والدي فباعها بخمسة دنانير ليتمكّن مِن دفع بدل ايجار ألمسكن ألشهري.
بألإضافة إلى إنشغالي بألدراسة ومطالعة ألكتب وأداء ألواجبات ألدينية، كانت لي أهتمامات وهوايات أخرى كلعب كرة ألقدم وألسباحة والموسيقى وجمع ألطوابع وألمراسلة مع أصدقاء مِن أقطار عربية أُخرى كانت عنوانيهم تُنشر في مجلّات مصريةّ كمجلّة سمير ومجلّة ميكي ومجلّة سندباد ومجلّة أٌخرى كانت تصدر في لبنان بأسم بساط ألريح.
شكّلت هذه ألمجلات ألمصوّرة بداية لمطالعاتي، ثمَّ بدأت بقراءة ألروايات ألبوليسية كروايات أللص ألظريف أرسين لوبين وروايات شارلوك هولمز للكاتب آرثر كونان دويل وروايات ألكاتبة أجاثا كريستي والكاتب ألأمريكي أدجار والاس، ثمَّ أطّلعت في تلك ألفترة على معظم ألروايات ألعالمية وروايات ألكاتب نجيب محفوظ. لَمْ يكن ألتلفزيون قد دخل إلى كركوك في تلك ألفترة لذلك كانت ألإذاعة وألكتب والسينما ألمنافذ ألّتي كنّا نطل منها ونتعرّف بواسطتها على ما يدور حولنا في هذا ألعالم.
كان ألساكنون في زقاقنا معظمهم مِن ألعوائل ألتركمانية وقسم مِنهم مِن ألأقرباء، بألإضافة إلى ذلك كان في ألزقاق ثلاث عوائل عربية وأذكر منهم عائلة مجيد سعدون ألّذي كان يكبرني في ألعمر بعدّة سنوات وكان مثقّفا يمتلك مكتبة عامرة بألكتب في منزلهم، وكنّا نستعير مِنه ألكتب للمطالعة، وبعد عدّة سنوات أصبح مجيد سعدون مدرّسا للغة ألعربية في إحدى مدارس كركوك. ألعائلة ألعربية ألثانية في ألزقاق كان منزلهم في نهاية ألزقاق ذو ألنهاية ألمسدودة، وكنّا نُسمّيهم ببيت ألضابط لأنَّ والدهم كان ضابطا في ألجيش. رَبُّ ألعائلة ألثالثة كان مراقبا في ألبلدية وكنّا نُسميهم ببيت أحمد بلدية، وكانوا مِن ألمذهب ألشيعي وفي كلّ شهر مُحرّم كانوا يُقيمون ألعزاء مع تمثيل لزواج ألأمام قاسم في فناء منزلهم وكانت ألنسوة يحضرن بألمئات للمشاركة في هذه ألطقوس ألدينية وكان ألأطفال يتفرجون على ألمراسيم مِن ألسطوح ألمجاورة، وفي العاشر مِن شهر مُحرّم كان يتمّ توزيع أكلة ألهريسة على جميع ألجيران في ألزقاق.
كان زقاقنا إحدى مراكز ألمقاومة ألسرية ألّتي تشكلّت بعد مجزرة كركوك عام 1959، وكان ألشباب ينطلقون منها للأقتصاص مِن ألمجرمين ألّذين عاثوا ألفساد في ألمدينة وقتلوا وسحلوا عشرات ألأبرياء في شوارعها.
كان شقيقي يلماز ألّذي يكبرني في ألعمر بسنتين يمتلك موهبة موسيقية فريدة فبعد أنْ تعلّم ألعزف على آلة موسيقية مشابهة للكَيتار صنعها بنفسه، تعلّمَ ألعزف على آلة ألعود وعلّمني ألعزف عليها، ثمَّ تعلّم ألعزف على آلة ألكمان أيضا. كنتُ وشقيقي وبعض ألأصدقاء نقضي أوقات ألفراغ بعزف ألمقطوعات ألموسيقية في مسكننا ونشارك أحيانا في إحياء حفلات ألعرس وألمناسبات ألسعيدة للأقارب وألأصدقاء.
بعد إكمالي للمرحلة ألمتوسطة أنتقلت إلى مرحلة ألإعدادية وهي ألمرحلة الّتي ستقرر ألكليّة ألّتي سأستطيع ألأنتساب إليها. في تلك ألفترة أكمل شقيقي يلماز دراسته ألأعدادية بعلامات جيدة أهّلته للدخول إلى ألقسم ألمدني مِن كلية ألهندسة في جامعة ألموصل وحزم أمتعته وسافر إلى ألموصل لإكمال دراسته هناك.
…..يتبع
من مسوّدة كتاب (لعنة ألذهب ألأسود) للكاتب